الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
كنَّا نظنّ أنّ أخطر ما يواجه الأمّة هو هذه الأنظمة المستبدة الغاشمة، التي قهرت الخلق وأذلت العباد، ووأدت أحلام الشباب وسرقت الأمل من قلوبهم وعيونهم، وارتكبت ما ارتكبته من الجرائم وسفك الدماء وانتهاك الأعراض وسلب الحريات؛ بعد أن انتهبت مقدرات العباد ومقررات البلاد؛ فلا الناس – إذْ افتقروا وجاعوا – حقنوا دماءهم وحفظوا كرامتهم، ولا هم – إذْ بذلوا الْمُهَج والأرواح ومعها ما تبقى لهم من كرامة وحرية – نالوا شيئا من الحياة، أيِّ حياة، فقعدوا مبلسين مفلسين من كل شيء إنسانيّ أو ماديّ، أجل .. كنّا نظنّ أنّ ذلك هو الخطر الأكبر.
إلى أن حلّ بنا ما هو أشد فجيعة من ذلك الاستبداد الغاشم الكنود، لقد أدركْنا اليوم قيمة قول الشاعر: “أنا لا ألوم المستبد إذا تعنت أو تعدى … فسبيله أن يستبد وشأننا أن نستعدا” غير أنّ الاستبداد سبقنا إلى اغتيال الاستعداد؛ ليُمْضِيَ على الناس أبدَ الدهرِ قانونَ الإذلالِ والاستعباد، ومتى يزول الظلم إذا خَفَتَ صوت المظلوم وانشغل بغير قضيته التي تمثل له منهج حياته وسبيل نجاته؟!
لقد جاءت حملات “التَّتْفِيه” و”التَّبْلِيه”؛ لتقضي على النخوة في الجيل كله، وتُقَوِّض ما تبقى من بنيان الهمّة لدى شبابنا وفتياتنا، ولا نَتَّهِمُ إلا أنفسنَا؛ برغم تورط الأنظمة، ومِنْ ورائِها النظام العالميّ، ومِن ورائِه حفنة المرابين الذين يحكمون العالم بمالهم وسلطانهم وبما تكرس في أيديهم من السلطة والثروة، أجل .. برغم ذلك كله لا نتهم إلا أنفسنا؛ فما كان لكل هذه القوى – رغم شراستها وضراوة الحرب التي تشنها – أن يكون لها هذا التأثير الخطير إلا لأنّنا في غفلة وغفوة وخمول.
أين الهمّة التي يُعْزَى إليها كل نجاح يتحقق في حياة الناس، وكل نهضة تتحقق في حياة الأمم، وكل رفعة وكل حضارة وكل علو وكل تمكين؟! أين همّة الشباب التي تصنع المعجزات؟ وأين همّة الشيوخ التي تَعْبُر بالجيل حواجز المستحيل؟ أين نحن من كتاب الله تعالى الذي تسري كلماته في المشاعر والضمائر روحا باعثة ونورا يضيء الطريق للسالكين؟ وأين منّا حداء الأوائل الذين ورَّثوا لأجيال الأمة إلى يوم الدين أمجادًا خالدة لا ينضُب عطاؤها ولا يغيب عن الآفاق لواؤها؟!
لقد أصبحنا نرى صورتنا الحقيقية كمسلمين على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث نستعرض ما نأكله؛ وكأنّنا قد نَصَبْنا الموائد في الميادين العامّة ليراها الغادون والرائحون فيتلمظون شوقا وشبَقًا، ونستعرض ما نرتديه ونفترشه وما نزين به بيوتنا؛ وكأنّنا نتبرع بالدعاية لمنتجات لا ربح لنا فيها ولا طائل لنا من ورائها، ونستعرض رحلاتنا وغدواتنا وجولاتنا وصولاتنا؛ وكأنّ السينما أوكلت إلينا إنتاج أفلام عائلية مسلية ولم تُقْبِضنا من ثمن عرضها فِلسًا، ونَبُثُّ همومنا وشجوننا وخلجات صدورنا؛ وكأنّ العالم بأسره صار موضعَ ثقتنا ومستودع أسرارنا؛ فما هذا الذي نحياه؟! أهو اليأس والقنوط والإحباط يسيطر على مشاعرنا وعقولنا ويقودنا للانتحار البطيء؟ أم إنّ الأهوال أفقدتنا رشدنا؟!!
أمّا نكبة اليوتيوب فلا أرى نكبة تساويها في حياة أمتنا، إنّ مقارنةً بين أعداد المشاهدات والمتابعات التي يحصدها سفهاءُ يلعبون ويعبثون، أو بلَهاءُ يستعرضون يومياتهم داخل بيوتهم، أو عاطلون يفرغون طاقاتهم في الطبخ وطهي الطعام، وبين دروس علمية أو تربوية أو تدريبية، أو برامج دراسية أو إعلامية جادة؛ إنّ مقارنة كهذه كافية للكشف عن الحضيض الذيي انتهينا إليه، وبعد القاع الذي هبط إليه الجيل كله إلا من رحم الله تبارك وتعالى، لقد صار الخلق كلهم يركضون خلف التفاهات في المواقع والقنوات في جنون وسعار كأنّهم ينغمسون في السكر هربا من ماجهة الحياة!!
هذا سوى ما تَبُثُّه الأنظمة كافّة في وسائل إعلامها، بل وفي كثير من برامجها التعليمية من تفاهات تجر الناس جرا إلى مستنقع التفاهة، وسوى ما تشيعه وتشجع عليه المواقع الهابطة المهيمنة على دنيانا!!
لا علاج لذلك كله إلا همّة عالية يبعثها الكبار فتسري في أوصال الجيل كله، وإنّنا والله لقادرون على ذلك مؤهلون له؛ ففيم التباطؤ والتسويف، وَلِمَ نؤخر ما لا يصح أن يؤخر، ولقد صدق الشاعر عندما قال: “ولم أرَ في عيــــوب النـــــاس عَيْـــبًا ….. كنقص القـــــادرين على التَّمـــــــــــامِ”، فَلْتُشْرِقْ من اليوم شمسُنا، ولْنُفَجِّرْ من الساعة نهارَنا، ولْنَكُنْ نحن المبادرين إلى أن نكون ستار قدرة الله تعالى في التغيير والتمكين، ولن يكون هذا إلا بالمغالبة والمواثبة: “وما نيل المطالب بالتمني .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”.
لا سبيل لنا إلا باستنهاض الهمم ورفعها وإعلائها، والهمَّةُ كما عرفوها هي: “استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور” فكلما أعلينا همتنا علونا معها والعكس بالعكس، وكما قيل: “المرء حيث يجعل نفسه؛ إن رفعها ارتفعت، وإن قَصَّر بها اتضعت” وقيل عن رجل لا يستشرف معالي الأمور: “هو عبدُ البدن حرُّ الثياب، عظيم الرواق صغير الأخلاق” وهتف فيك الحكيم: “كُنْ رجلًا رِجْلُه في الثَّرَى وهمته في الثُّرَيّا” فإنّه: “من علت همته علت رُتبته”.
والهمّة العالية لها أركان إذا غاب ركن منها غابت بغيابه، أول هذه الأركان عُلوُّ المقاصد، فكم من إنسان لم يرفعه عِلمُه ولم تُعْلِهِ شهاداتُه وأوسمته ولم تَسْمُ به ثرواته؛ بسبب انخفاض مقصده، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلا لعلو الهمّة بما جرى من امرأة عجوز لا يُلْتَفَتُ إليها إلا لأخذ العبرة برؤية الزمان مدبرا في وجهها الذي علته تضاريس الشيخوخة.
فعن أبي موسى الأشعريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَعَهّدْنا .. ائْتِنَا» فأتاه الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حاجتك؟» فقال: ناقةً برحلها ويحلب لبنُها أهلي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجز هذا أن يكون كعجوز بني إسرائيل» فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل؟ فقال: «إن موسى حين أراد أن يسير ببني إسرائيل ضل عنه الطريق فقال لبني إسرائيل ما هذا؟ قال: فقال له علماء بني إسرائيل: إن يوسف عليه السلام حين حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله ألا نخرج من مصر حتى تنقل عظامه معنا، فقال موسى: أيكم يدري أين قبر يوسف؟ فقال علماء بني إسرائيل ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى فقال: دلينا على قبر يوسف، قالت: لا والله حتى تعطيني حكْمي. فقال لها: ما حكمك؟ قالت: حُكْمي أن أكون معك في الجنة .. فكأنه كره ذلك .. فقيل له: أعطها حكمها، فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم أنضبوا هذا الماء. فلما أنضبوا قالت لهم: احفروا فحفروا فاستخرجوا عظام يوسف فلما أن أقلوه من الأرض إذ الطريق مثل ضوء النهار» (رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
فهذا مثال لعلو المقاصد، ونحن كأمّة لها دين سما بها في آفاق المقاصد العليا لنا مقاصد عَلِيَّةٍ لا يسوغ أن تغيب عن مرمى الرؤية، إنّها مقاصد تتبلور في السمو بأنفسنا وبغيرنا من الناس، وفي إخراج أنفسنا والناسَ من عبادة الدنيا والذات والأنا إلى عبادة رب واحد، ومن جور الحكام المستبدين وطغيان الأنظمة الفاسدة إلى عدالة الإسلام وشريعته، ومن ضيق الصدور والعقول والمناهج العقيمة إلى سعة المنهج الربانيّ الفريد، وبهذا نحقق: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).
ومن أركان الهمّة العالية المبادرة مع الدَّأَبُ والسعي والحرصُ وتحمل المسئولية، وهو مقصد لولاه لحاز أهل الهمّة ثواب سلامة القلب وهم قاعدون، ولأحرزوا مقام الخمول الذي ذكره أصحاب السلوك، وقصدوا به سكون النفس عن التطلع إلى لعاعة الدنيا، وليس هذا الذي نريد؛ لأنّ هذا وحده لا يجعلنا أمّة أخرجت للناس، ولا يكون له فاعلية حتى ينضم إليه “الموجب” الذي لولاه لما كان لهذا السالب تأثير؛ فلا نور ولا طاقة ولا حركة ولا فاعلية، ومن هنا ندرك قيمة هذا الأمر الإلهيّ الباعث على خرق الصمت وشق جدار الموات: (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) (النساء: 84)؛ فكأنّ مبادرة صاحب الرسالة – التي وجبت عليه ولو كان وحده – بمثابة إدارة مفتاح الحركة في السيارة، تلك المبادرة التي إن تُركت فلم تحدث ال(تكة) الباعثة ظلت السيارة خامدة هامدة كالبيت المهجور.
ومن المبادرة السوية أن نسارع إلى استثمار الفرص السانحة؛ وقديما قال الشاعر:
إذا هَبَّتْ ريــــــــــــــــــــاحُك فاغتنمــــــــــــــــــــــــها …. فإنّ الخافقـــــــــــــــــــــــــــــــاتِ لها ســــــــــــكونُ
وإن وَلَدَتْ نِيَـــــــــــــــاقُك فاحتَـــــــــــــلبــــــَــــــهـا …. فلا تدري الفصيــــــــــــــــــــــــــلَ لمن يكونُ
ومن أركانها الاستقامة في التماس الغاية، بمعنى سلوك السبيل السويّ صَوْبَها، وركوب أخصر الطرق المؤدية إليها، فلا لفَّ ولا دوران، ولا تمطيط ولا تشقيق، ولا سفسطة ولا “تفحيط”، وقد أوضح الله لنا السبيل في كل شيء، فمن سَلِمَ قصْدُه وصحّ عزمُه واستقام طبْعُه وجاهَدَ نَفْسَهُ الأمارة بالسوء؛ هُدِيَ إلى السبيل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
هذا .. ومن علامات الهمّة العالية – وآثارها كذلك – عدم الالتفات إلى ترهات الصغار وسفاهات الأغمار؛ ولعلّ هذا بُعْد من أبعاد الأمر الإلهيّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر: 85) (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا) (النجم: 29) (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: 89)، ومن علاماتها وآثارها عدم الانبهار بما يبدو على العدو من زخرف، وعدم الانهزام نفسيا أمام غطرسته وغروره، وعدم الاكتراث بمقامه من حيث الأصل، وربما جاء في هذا السياق آيات كثيرة مثل: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف: 6) (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3) (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (آل عمران: 196) (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) (الحجر: 88) (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ) (طه: 131).
وأخيرا فإنّنا على يقين من أنّ جميع مشاريع التَّتْفِيْه والتَّبْلِيْه ستبوء بالفشل الذريع، فكم من مرة في تاريخنا يقومون بحملات كهذه ثم تفاجئهم الأمة ببعث جديد لم يخطر لهم ببال، وما ثورة 1919م سابقا وثورات الربيع العربيّ آنفا إلا دليلا وشاهدا على هذه الحقيقة المستقرة، والله المستعان.