أمريكا الصهيونية.. إلى أين؟

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

بينما كان صَرِيرُ قلمِهِ يُدَوّي في سماء القارة الأمريكية الجديدة بهذه الكلمات المشحونة بالحماسة: “على أوربا القديمة أن تتكئَ على أكتافنا، وتسيرَ في ركابنا بقدر ما تستطيع، مقيدةً بآسار الملوك والرهبان؛ أيّ ماردٍ جبّارٍ سَنَكُون!”([1]) لم يكن “توماس جفرسون” يتوقع أنّ أمريكا سوف يقودها الملوك والرهبان الجُدُد إلى الهاوية السحيقة، ويجرون معهم القارةَ العجوزَ، التي وقعت هي الأخرى تحت سلطان اليمين المتطرف الزاحف إلى القمة بسرعة مذهلة ومخيفة.

ولقد خاض “جفرسون” الذي سطر بقلمه دستورَ أقوى دولةٍ حَمَلَها وآثامَها الكوكبُ الأرضيّ على ظهره؛ خاض حربا ضروسا مع رجال الدين الذين ضغطوا بكل ما لهم من ثقل في سبيل غرس أكذوبة “مملكة الرب!” في الدستور الأمريكيّ، وجَعْلِ السيادة في هذا الدستور لشريعة التوراة، واتهموه لأجل إعراضه عن ذلك الهوس بالهرطقة والزندقة، لكنه واصل نضاله ومعه جُلُّ الآباءِ المؤسسين حتى أنجزوا الدستور بعيدا عن يد الدين([2]).

غير أنّ أمر الحكم والسياسة في الواقع الأمريكي وقع بدرجات تَفَاوتَتْ من زمن لآخر تحت تأثير الخطاب الديني البروتستانتي الإنجيليّ المتطرف، وهذا الخطاب كان ولا يزال أصولياً يلتقي ويتلاحم مع الخطاب الصهيونيّ إلى حدّ أنّه لم يعد بالإمكان التفريق بين الصهيونية اليهودية والصهيونية الإنجيلية، ومن آثار ذلك أنّ تأثير الكنيسة المسيحية الأصولية في الرأي العام الأمريكي أَدَّى إلى خلق صورة خيالية عن الصراع العربي الإسرائلي وكأنه امتداد للصراع بين داود وجالوت([3]).

وإذا كان عجيباً أن يؤثر خطاب عنصريٌّ أهوج في شعب متمدين كالشعب الأمريكيّ؛ فإنّ الأعجب والأغرب أن يؤثر بصورة أعمق في الزعماء السياسيين الذين يعلنون أنهم رؤساء لدولة علمانية ديمقراطية، فها هو كارتر يعلن أمام الكنيست: “لقد آمن سبعة رؤساء أمريكين وجسدوا هذا الإيمان بأن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع إسرائيل هي أكثر من علاقة خاصة، بل هي علاقة فريدة ؛ لأنها متجذرة في ضمير وأخلاق ودين ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه … لقد شكل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية مهاجرون طليعيون ونحن نتقاسم معهم تراث التوراة”([4]).

أمّا ريجان الذي افتتح مع “ماجريت تاتشر” عهداً جديدا من العولمة الاقتصادية النيوليبرالية فقد مزج في أصرح وأصرخ مثال للازدواجية النكدة بين هذا الانفتاح الذي قصم ظهر الإنسانية واستعبدها لحفنة من المرابين وبين الانغلاق الكهنوتيّ الذي ينذر بكارثة تقصم فقار ظهر البشرية؛ فها هو يقول للإيباك: “حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلاقات المنبئة بهرمجدون أجد نفسي متسائلا عمّا إذا كنّا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعاً، ولا أدري إذا كنت قد لاحظت مؤخرا أيا من هذه النبوءات، لكن صدقني إنها قطعا تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه”([5]).

  ولأنّ أمريكا صهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم وجدناها أول دولة تسارع إلى الاعتراف بدولة إسرائيل، ولم يتوقف دعمها الكامل الشامل للكيان الصهيوني إلى اليوم، وعلى مدى هذا التاريخ الأسود استخدمت حق الفيتو 72 مرة ضد قرارات إدانة إسرائيل من أصل 79 قرارًا للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، واستخدمت حق الفيتو أيضا لإبطال 29 قرارًا ضد إسرائيل أقرتْه الشرعية الدولية في مجلس الأمن! هذا بخلاف الدعم الماديّ، يقول ريتشارد كيوريتس في مقال له بعنوان “الثمن الذي تكلفه إسرائيل للشعب الأمريكي”: “إنه بحسب تقدير توماس ستوفر فإن 6.1 تريلون دولار أمريكي هي حصيلة النفقات على إسرائيل منذ عام 73 إلى عام 2002 ويكون نصيب الفرد الأمريكي 5700 دولا لكل فرد”([6]).

هذه الامبراطورية الْمُتَدِّنِسَة من أول يوم بالصَّهْيَنة، والتي تقف بكل قوة وراء الكيان الصهيونيّ، والتي أَوْفَتْ على الغاية في عداوتها للعرب والمسلمين على يد الغشوم “ترامب!” الذي خطا بالصراع العربي الإسرائيلي خطوة واسعة في اتجاه الحسم الجائر لصالح الصهيونية؛ بنقله السفارة الأمريكية للقدس وإعلانه عن صفقة القرن، ورعايته لحركة التطبيع الواسعة السريعة التي التهمت الخليج ثم انثنت إلى السودان وغيره، هذه الامبراطورية الصهيونية إلى زوال عن قريب.

أجل .. إلى زوال، وعن قريب، وقد يُرى في “جو بايدين” الرئيس الجديد لأمريكا – وهو أيضا صهيونيّ للنخاع – قد يرى فيه شيء من التعقل والأناه التي ربما تؤخر السقوط لبعض الوقت، إلا أنّ عوامل السقوط أكبر من أشخاص يحكمون، فبعضها يتعلق بالسلوك الاقتصاديّ المغرق في الإسراف للفرد الأمريكيّ؛ مما يجعل الدولة دوماً كالديناصور المقيد بأغلال الديون، وبعضها يتعلق بتصاعد اللهجة العنصرية المتشنجة، والتي لم تقف آثارها عند حدّ العنف ضد السود وإنّما بدأ يأخذ منعطفا أخطر بركوبه متن الانتماء السياسيّ ولاسيما لليمين المتطرف الصاعد، وقد رأينا حالة التوتر التي سادت جو الانتخابات هذه المرة، والتي تركت في الناس حالة من الترقب والتساؤل: كيف سيتم تسليم السلطة؟

وبعض هذه الأسباب يرجع إلى تحول الديمقراطية إلى حالة من الأوليجاركية المبطنة بغشاء من الدمقرطة الآلية الباهتة؛ مما يورث حالة من تقديم الانتماء المصلحي والأيديولوجي على الانتماء العام، فالملاحظ أنّ “النخب قديما كانت أكثر شعورا بالمسئولية؛ لكونها نخب عائلية أرستقراطية تشعر بالأمان في مواقعها، أمّا النخب حديثا فهي دائما قلقة على مواقعها لكونها صعدت بالدمقرطة بالمال أو الجاه أو الأدمغة؛ لذلك فهي في سعي دائم وحثيث للبقاء والاستمرار، ومن شواهد ذلك ما قامت به النخب القديمة من إنشاء مؤسسات تدعم السياسة العامة للبلاد دون ارتباط بالأيديولوجية الحزبية، أمّا النخبة الجديدة فهي أوليجاركية تدعم بمؤسساتها الأيديولوجية والفكرة التي تضمن البقاء والاستمرار في المنافع والوظائف”([7]).

وبعض هذه الأسباب يرجع إلى صعود وهيمنة المجموعات النفعية واستيلاؤها على الأحزاب التي صارت مجرد عربات لجمع التبرعات للمرشح الذي لا يؤهله إلا قدرته وقدرة حزبه على جمع التبرعات لتمويل الحملة الانتخابية مع بعض الوجاهة الإعلامية والحضور الجماهيري، ولعلّ الآباء المؤسسين تيقظوا لهذا الخطر من زمن بعيد، فهذا توماس جفرسون يحذر من التحول الكبير إلى المجتمع الصناعي على حساب النشاط الزراعيّ؛ لكون المجتمع الصناعيّ فرصة متاحة وبيئة مناسبة لنمو مثل هذه الأمراض، وهذا ماديسون يحذر من سوء استثمار المجموعات النفعية للحرية قائلاً: “إنّ الحرية للبعض كالهواء للنار”.

وواقع التراجع المؤذن بالاتجاه إلى الهاوية مرصود؛ فالدراسة الاستقرائية أكدت أنّه “في أوالئل الستينيات كانت الأغلبية الواسعة من الأمريكيين – ما يزيد على 70% – متوافقة مع المقولة التالية: (يمكن أن تأمن للحكام بواشنطن بالقيام بالخطوات الصحيحة كل الوقت أو أغلبه) بعد ثلاثين سنة متتالية من الانخفاض لامس هذا الرقم الثلاثين بالمائة([8]).

لذلك كان صريحا وصادقا وهو يعلنها في عام 1991م – وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية جيمس بيكر – حين أشار إلى أنّ العالم كان يتجه نحو الدخول في نظام مركزيّ، تمر فيه كل الدول عبر الولايات المتحدة الأمريكية؛ من أجل الوصول إلى وجهتها المقصودة، ولكن ثمة وصف أفضل للقرن الواحد والعشرين، وهو أنه عالم ذو مسالك متعددة، ترسم خطط الرحلات فيه كل يوم … إنّ العالم يتجه من الغضب إلى اللامبالاة، من العداء لأمريكا إلى ما بعد أمريكا([9]).

وقد تعلمت الشعوب المسلمة أنّ السياسة الأمريكية تجاه المسلمين لا تتغير كثيرا بتغير الرؤساء، لكنّهم في المقابل يستصحبون قاعدة “اختيار أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين”، ولسنا نعلم في الحقيقة ما الأجندة الحقيقية التي يحملها “جو بايدن” لكنّ المعلن منها يمكن أن يكون ذريعة للضغط من المسلمين في اتجاه إحراز ما يمكن إحرازه من المكاسب ودفع ما يمكن دفعه من المصائب.

لكن ينبغي أن نتحرك بروح الأمل والتفاؤل؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثّ فينا هذه الروح عندما بشر في أحلك اللحظات والمسلمون محاصرون قائلاً: (فتحت فارس .. فتحت الروم ..)([10])، ولا ننسى هذه الحقيقة الكبيرة الراسية التي نطق بها القرآن: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).


([1])الصنم .. صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية – نيل فرجسون – ترجمة معين محمد إمام – مكتبة العبيكان – الرياض – ط أولى 2006م صـــــ 11

([2])راجع: الدين في السياسة الأمريكية – فرانك لامبرت – ترجمة عبد الكريم موسى أبو البصل – مكتبة نمو للنشر – ط 1436ه صــــ 27-29

([3]) راجع: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني – د. يوسف حسن – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت لبنان – ط أولى 1990م صـــــ76

([4]) راجع: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني – مصدر سابق صـــــ76

([5]) راجع: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني مصدر سابق صـــــ172

([6]) كريستيان سانيسمونيتور 9/12/2002.

([7]) راجع: مستقبل الحرية – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – صـ257-260

([8]) راجع: مستقبل الحرية – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – ص 180

([9]) عالم ما بعد أمريكا – فريد زكريا – ترحمة بسام شيحا – الدار العربية للعلوم ناشرون – ط أولى 2009م صــــــــــــــــ54

([10]) المعجم الكبير للطبرانيّ 13/2 – البداية والنهاية لابن كثير 4/115