أَفْلَحَ الجهادُ وأخفقَتْ المشاريع

د. عطية عدلان

بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

أليستْ الخيلُ معقودًا في نواصيها الخير إلى يوم القيامة؟ أليس القتال في سبيل الله خير على كلّ حال؟ كما أخبرت الآية: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ ‌الْقِتالُ ‌وَهُوَ ‌كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، أليس الله قد بشَّرنا ووعدنا على الجهاد نصرًا وفتحًا قريبًا؟ كما أخبرت الآية: (وَأُخْرى ‌تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (الصفّ: 13)؛ فلماذا لم نجْنِ من الجهاد المعاصر إلّا النذر اليسير من الخير والقدر الضئيل من النصر؟ مع أنّ ما بُذِلَ في سبيل تحصيله لو اجتمعت أمم الأرض على أن تحمله عن أمة الإسلام لملأت ما بين السماء والأرض صياحًا وعويلًا ولاستوردت من الرافضة (اللطمية) لتقطّع بها الخدود البالية؛ فأين يكمن الخلل؟

الحجم الحقيقيّ للإنجاز

على الرغم مما حققه المجاهدون المقاومون البواسل من إنجازات هائلة، فقتلوا من ضباط وجنود الصهاينة أعدادًا لم تستطع ترسانة الصواريخ الإيرانية في فورة غضبها أن تقتل من المدنيين عشر معشارهم، وصفعوا الاحتلال صفعة أفقدته الثقة في سراويله وليس فقط قبّته الحديدية، وأحيوا القضية الفلسطينية بعد أن دخلت في موت سريريّ مهين، وحركوا ضمير العالم، وأعادوا الأمل للأمة في الحلّ الجهادي؛ على الرغم من ذلك كلّه فإنّ حجم الخسائر من الضخامة والعرامة بحيث لا يمكن أن تسمي ما وقع في طوفان الأقصى وما بعده نصرًا ألّا بتأويلات أعسر من تأويلات الشيعة في حصرهم مدّ الإسلام في الحسين وذريته.

    وعلى الرغم من نجاح الثوار المجاهدين في إسقاط بشار الأسد ونظامه وتحرير سوريا من قبضته الآثمة الظالمة المجرمة؛ فإنّ الثمن باهظ إلى حدٍّ قد يصيبك بالدوار إذا أمعنت فيه التفكير، ليس فقط من جهة الدمار الذي حلّ بمعظم الديار، والقتل الذريع والتهجير الفظيع والتعذيب المريع وتعمُّدِ التطهير العرقيّ لملايين السنة بما أحدث خللًا ديموغرافيًّا إلى جانب الجرح الإنسانيّ الغائر، ليس فقط من جهة (الفاتورة) التي دفعت في مقابل نصر لو قيس بها لما ساغ أن نسميه نصرًا وفتحًا إلا بإجازة الغصص ومضغ المرارات، وإنّما كذلك من جهة النتيجة التي وصل إليها قطار التضحيات، بلدٌ بلا اقتصاد ولا جيش مسلح، ولا عدة ولا عتاد ولا أجهزة ولا مؤسسات، ولا بنية تحتية ولا شعب يقطن البنية التحتية على فرض وجودها، دولةٌ في وسط العالم المتوحش كالحمل المستأنس، نظامٌ في حجر النظام الدوليّ كطفل يتيم على مائدة لئيم، لا قدرة للمسئولين على فعل شيء إلّا بمعونة صبيان الأعراب، أمّا آمال وطوحات الشباب المجاهدين في جعل شريعتهم – التي لأجلها جاهدوا وبذلوا ما بذلوا – منهج حياة لهم ولبلدهم؛ فهذا – حتى على القول بالتدرج المملّ – صار الكلام فيه حمقًا ونزقًا، وصار العاقل المتئد يبلع لسانه ويدهس بنانه قبل أن يبوح بطلب كهذا، هذا .. وقد طوينا الحديث وأضربنا الذكر صفحًا ولوينا أعناق البيان ليًّا عن الوسائل التي انتُهِجَتْ، والتي يراد لها اليوم أن تتقرر كمنهج مكيافيلليّ أثبت من محكمات الكتاب العزيز.

    وقل مثلَ ذلك أو أكثر منه في ثورات ما يسمى بالربيع العربيّ، كم من دماء أريقت وبلاد خرّبت من أجل أن يأتي إلى سدة الحكم في النهاية أمثال السيسي – بالمثناة التحتانية – في مصر، والسبسي – بالموحدة التحتانية – في تونس، ويصير الدجال الحوثي ومن معه من شراذم الباطنية أهل اليمن الأشاوس؟ وقل مثل ذلك في جميع حركات المقاومة ضد الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي، كم من دماء أريقت من أجل أن يأتي في نهاية المطاف بومدين ليجثم فوق صدور الجزائريين، وبورقيبة ليقبع فوق رؤوس التونسيين والقذافي ليتمطى فوق أجساد الليبيين، والنظام العسكريّ في مصر؛ ليعيش أهلها أكذوبة كبرى لم يستطيعوا إلى اليوم الخلاص منها ولا منهم، فأين – إذن – ثمرة الجهاد؟ أين خيره؟ وأين النصر والفتح المبين؟!

أجلْ .. الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة

لا ذنب للجهاد كفريضة إسلامية في كلّ هذا، لقد نجح الجهاد وأفلح في الصدر الأول بأقلّ كلفة ممكنة في مدّ سلطان الإسلام مع نور الإسلام في المعمورة شرقًا وغربًا وشمالا وجنوبًا؛ حتى صارت أمم الأرض كلها ما بين مسلمٍ دخل في الأسلام طوعًا وصار كأيّ أحد من المسلمين له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وذميٍّ أحرز دمه وماله بالجزية والتزام الصغار، ومهادنٍ دخل في عهد مع المسلمين، وخائفٍ ينتظر أن يأتيه جيش الإسلام فيجتاح حكمه وملكه ويذهب بدولته، أي بإيجاز صار الدين كله لله، كلّ هذا في أقلّ من ربع قرن من الزمان، ولم تكن (الفاتورة) لكل هذه الغزوات والفتوح تعدل حصاد معركة واحدة من تلك التي وقعت بين المسلمين إبّان الفتن التي اجتاحت الأمة، وإذن فليس الخلل في الفريضة ذاتها.

    ولم يكن كذلك الخلل فيمن قام بالفريضة من جنود الله المجاهدين؛ كيف وقد عُلِم من الواقع بالضرورة وبالنقل المتواتر أنّ هؤلاء المجاهدين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم ومصالحهم وكل ما لهم في الدنيا، وخرجوا للجهاد في زمان غربة ووحشة وهمجية من النظام العالميّ المجرم؟ كيف وقد قدموا من التضحيات والبطولات ونماذج الصمود الأسطوريّ ما لم يقدمه كثير من الأوائل؟ لا ريب أنّه لا يوجد في المجاهدين أنفسهم عيب، ومن زاغ أو انحرف أو تطرف إلى تكفير واستباحة للدماء فهؤلاء قلة لا كثرة، واستثناء لا أصل، وغالبهم مغلوب على فهمه أو على أمره، والظاهرة في النهاية لها أسباب لا تعلُّقَ لها بالجهاد ولا بالمجاهدين، وإنّما بما سوف نبينه من أسباب الإخفاق والفشل، فلا تثريب على المجاهدين ولا مطعن على الفريضة.

أين – أذن – يكمن الخلل؟

إنّما يكمن الخلل ويرجع الفشل إلى سبب آخر، وهو غياب المشروع الإسلاميّ، نحن فقط من بين أمم الأرض نمضي في هذه الحياة بلا رؤية ولا مشروع، وأعني بالمشروع مشروع الأمة الجامع، لا مشروع الجماعة أو التنظيم أو الحزب أو الهيئة، فكلّ هذه مشاريع – وإن ادعى أصحابها أنّها مشاريع معبرة عن أحلام الأمة – لا علاقة لها بما نطلق عليه المشروع الإسلاميّ، لأنّها مشاريع تحقق أجندات ضيقة، كثير منها يدور في فلك محليّ أو إقليمي، وغالبًا ما تكون هذه المشاريع حبلى بأجنة غير شرعية من حيث تدري أو لا تدري.

    إنّ مشروع أمتنا هو ذلك المشروع الذي تلتقي عليه كلمة علماء الأمة وأهل الحلّ والعقد منها، فأين هم؟ وأين دورهم في الشأن العام للأمة؟ وأين مشروعهم الذي سيقودون به الأمة؟ أسئلة لا يمكن أن تجيب عليها هيئات علمائية كسيحة كذلك الذي يُسمى “الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين”، وكتلك التي تُدْعى “رابطة علماء المسلمين”، أمّا أمثال “رابطة العالم الإسلامي” فصارت لا تمثل إلا نظامًا من أنظمة العالم الإسلاميّ اليوم، يعبث بقضايا الدين الإسلاميّ وينشر بأموال المسلمين فسادًا عريضًا في كل مكان من أرض الإسلام، وقل مثل ذلك في أغلب المؤسسات الدينية الرسمية؛ لذلك فإنّني أدعو إلى أن ينشأ تجمع علمائيّ بصورة مستقلة متئدة في تكوينها وفي سيرها؛ فتكون نواة ومنصة لتفعيل دور أهل الحلّ والعقد في الأمة الإسلامية، وعلى التوازي تنشأ رؤى ودراسات حول المشروع الإسلاميّ تتقارب وتتجانس لتكون (العجينة) التي سوف يصاغ منها مشروع الأمة الجامع، ولكي يجري هذا لابد للعلماء أن يقوموا بحركة انزياح جماعيّ من المناطق الساكنة الهادئة الآمنة إلى خطوط التماس، فعلى الرغم من كثرة الدراسات التي قُتلت فيها مسائلُ المعاملات والعبادات والأنكحة والأطعمة بحثًا؛ لا تزال مناطق السياسة الشرعية وفقه الجهاد والتغيير بورًا، إلا من دراسات معوجة كتلك التي تنتجها المدرسة المقاصدية المغاربية.

وأخيرًا ..نداء للأمة

إنّنا أمّةٌ وصفها الله بأنّها خير أمة أخرجت للناس، وبأنّها شهيدة على الأمم بما لديها من منهج عدل وسط، قال تعالى: (‌كُنْتُمْ ‌خَيْرَ ‌أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110)، وقال عزّ وجلّ: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ ‌أُمَّةً ‌وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)؛ وحباها الله المنهج والناموس الذي تنتظره البشرية كلها على لهفة وشوق، فهل يسوغ لنا بعد كلّ هذا أن نبقى بلا مشروع؟ وأن نظلّ هكذا نُطحن تحت رحى المشاريع المتصارعة؟ فلننطلق إلى تصحيح المسار، وإلى توحيد الصفوف، وإلى جمع الكلمة، وإلى وضع أسس ومؤسسات وأدوات ومراحل المشروع الإسلاميّ، فإن فعلنا فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، والله المستعان.

اترك تعليقاً