إلى إثيوبيا أم إلى ليبيا؟!

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

أمّا حماية النيل وحفظ حق الشعب المصري فيه فلا خلاف في وجوبه عقلا وشرعا، ولا خلاف أنّ هذا الواجب منوط بالحكومة ثم بالجيش؛ لأسباب سوف نتعرض لها قريبا، وأمّا تدخل الجيش في الشأن الليبي بذريعة حماية الأمن القوميّ فلا مسوغ له إلا في عالم (البلطجة) والقرصنة أو دنيا العمالة والحرب بالوكالة؛ لأسباب سنتحدث عنها أيضاً، هذان خطّان متوازيان يجب أن يمضي عليهما القرار العسكريّ في مصر هذه الأيام كمضي القطار مطمئناً إلى غايته، وإلا كان التيه والبوار، هذا الموجز، وإليكم التفصيل..

   ليس في هذا العالم حق لمواطنين – بعد الأرض التي يستوطنونها – أولى بالصيانة من حقهم في الماء الذي ساقه الله إليهم؛ لذلك كثرت الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي تدخلت لحسم الخلافات المتعلقة بالأنهار الدولية؛ خشيةَ أن تشتعل الحروب التي لا تطفئها كل أنهار الدنيا، ولو أمدتها من بعدها سبعة أضعافها من الأنهار والبحار، تلك المعاهدات التي أَمَدَّت – مع العرف الدولي وقرارات محكمة العدل الدولية – أمدت القانون الدولي بالمادة الخام التي صيغت منها قواعده، والتي جاءت في معظمها ملبية لنظرية الوحدة الإقليمية المطلقة للأنهار الدولية، وكذلك نظرية الملكية المشتركة، وكلا النظريتين لاقت قبولا عند جمهور فقهاء القانون الدوليّ، وهذا كله مستمد من روح القانون الطبيعيّ، الذي أودعه الله تعالى في كونه وفي فطرة خلقه، ولا أحسب أنّه يبعد عن قوانين الشريعة ولو بمقدار رشفة ماء.

   غير أنّ الشريعة تتدخل في حياة المسلمين لتملأ الفراغ، تماماً مثلما تتدخل عقيدة كل أمّة لتشغل ذات الفراغ الذي تَقْصُر يد القانون الدولي عن شغله، وهذا الفراغ يتمثل في هشاشة القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي([1])؛ النابعة من تهافت وصف الوضعية الذي يجعل القانون صادراً عن إرادة مُجْبِرة([2])، فكل أمّة تُعْمِل قوتها على أرض الواقع لتصنع لنفسها وضعاً مريحا في ميدان العلاقات الدولية؛ ومن هذا الوجه نُخَطِّئُ الإدارة المصرية فَنِّيًّا وإجرائياً – فوق الأخطاء السياسية – في تقديمها المذكرة إلى مجلس الأمن؛ ليس لانعدام الاختصاص كما يدعي الطرف الأثيوبيّ، وإنّما لانعكاس المسار؛ فالوضع الطبيعيّ أن يحشد الجيش المصري قواته بشكل يُمثل تهديدا للسلم بين البلدين؛ وعندئذ يأتي دور مجلس الأمن، الذي غالبا ما يكون استدعاؤه من قِبَل الطرف الأثيوبي وليس المصريّ.

   ومأخذ الوجوب الشرعيّ هنا غاية في العمق والرسوخ؛ فالأصل أنّ الأنهار الطبيعية التي خلقها الله حقٌ للعباد، سخرها الله تعالى لهم وجعلها مباحة متاحة للشرب والسقي وسائر ألوان الانتفاع المباح: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ) (إبراهيم 32)، بل إنّ هذا التسخير هو في الأصل للذين آمنوا، والكفار يشاركونهم فيه تبعاً([3]): (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف 32)، ومصر منذ الفتح الإسلاميّ هي من أرض الإسلام، ونيلها – تبعاً لأرضها – من بيضة الإسلام؛ وحماية البيضة من صُلْب أعمال الدولة([4])، كما أنّ دفع غائلة المعتدي الظالم عن المسلمين مقصد شرعي كبير، ينقل وجوب القتال من الكفاية إلى التعيين، وليس هناك عدوان أشد من العدوان على المياه الطبيعية التي أجراها الله بأصل الخلقة للعباد فيما تجري فيه من البلاد؟!

   والقانون الدولي المتعلق بالأنهار الدولية يوفر الغطاء للتحرك العسكري الرامي إلى حماية حق الشعب المصريّ في مياه النيل، صحيحٌ أنّه لا يبيح الغزو ولا الحرب، ولكنه في النهاية يقرر جملة من المباديء التي تجعل التحرك العسكريّ مسلكاً دفاعياً لا هجوميا عدوانيا، مثل مبدأ: عدم التعسف في استعمال الحق، ومبدأ: التوزيع العادل والمعقول للحياة بالنسبة للدول المتشاطئة، وغيرها من المبادئ التي رغم هلاميتها تبقى قوية وصارمة، إضافة إلى اتفاقية 1902م التي وقع عليها الإمبراطور الإثيوبيّ، والتي تُعَدُّ – بحسب مبدأ توارث المعاهدات للدول المتجاورة – ذريعة للتدخل العسكريّ؛ ولا سيما أنّ المعروف تاريخياً أنّ الأرض التي بني عليها السد أرض سودانية في الأصل، فإن لم تصلح هذه الحقائق لإعطاء الحق الكامل للتدخل؛ فعلى أقل تقدير تصلح لتكون مبررات للتهديد الفعليّ عبر تحريك الجيوش وحشد العساكر والقيام بمناوشات تهديدية متنوعة بقصد حلحلة عملية المفاوضات.

   هذا هو الوضع الطبيعيّ التلقائي لبلد بحجم مصر ولخطر بحجم ضياع النيل، وهذا الوضع الطبيعي التلقائي هو الوحيد الذي يملك القدرة على محو عار اتفاقية إعلان المبادئ التي أعطت الحق ومعه الضوء الأخضر للاستمرار في البناء والاستدرار للدعم والعطاء، والذي يقف حائلا بالمادة العاشرة منه دون حق التظلم لدى المؤسسات الدولية، وعندما يتم الإعراض عنه رغم كل ما حدث من خيانات تكون العمالة والنذالة قد بلغت المنتهى وأوفت على الغاية، لكن فصول المشهد – الذي جمع بين التراجيديا البائسة والكوميديا الخايِسَة – لم تنته بعد؛ فها هو السيسي يقف أمام الإعلام منتفخ الأوداج متورم الأصداغ يعلن: “سيرت والجفرة خط أحمر”! والله إنّ علامة التنصيص لكبيرة على كلماتك الساقطة، ولا أرى الحُمْرَةَ إلا ما يعلوا ما لا فرق بينه وبين وجهك إلا أنّ أحدهما بعين واحدة والآخر بعينين بغيضتين!

   إنّ ليبيا ليست لك ولا لصبية الخليج الذين يعبثون حول سروالك أيها المحقور الهالك، وليست لذلك الدب الروسي الذي يتسول العظمة فوق ثبج الدماء وكثبان الأشلاء، ولا لمرتزقة يقبضون بالريال أو الدولار، إنّ ليبيا لليبين وحدهم، ولن تكون إلا لهم، وإنّ حفتر ليس منهم كما أنّك لست منّا.

   وليس لك الحقّ في التحدث عن الشأن الليبيّ فضلا عن التوعد بالتدخل فيه، فليبيا لها حكومة شرعية، استمدت شرعيتها من مصادر عدة، منها اعتراف المجتمع الدولي بها، فمن حقها أن تبسط سيادتها على التراب الليبيّ كله، كما أنّ من حقها أن تدخل في حلف عسكري مع من تريد من الدول سواء تركيا أو غيرها، وتركيا أولى من غيرها لكونها بلد مسلم.

   فإن قال قائل – وكم بالأقاويل من ترهات وتهاويل – “إنّ اعتراف المجتمع الدولي لا يكفي من وجهة نظر الشريعة لإعطاء حكومة الوفاق هذه الشرعية” قلنا له: هذا – يا عريض القفا – لو كنت مستقلا عن المجتمع الدولي بخلافة راشدة على منهاج النبوة، أمّا إذا كنت جزءاً من هذا المجتمع الدولي وعضوا فيه وفي مؤسساته؛ فلا قيمة تُعْطَى لهذا الكلام إلا بقدر ما يُعْطَى لمتصعلك حول القصور من فتات موائدها وبقايا أسمارها.

   إنّ تدخل الجيش المصريّ في الشأن الليبيّ ليس سوى نجدة من انقلابيين لانقلابيّ مثلهم، وهذا عمل إجراميّ تحرمه وتجرمه نصوص الكتاب والسنة وأحكام الشريعة ومقاصدها؛ فالله تعالى لم يقل قاتلوا مع التي تبغي، وإنّما قال: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي)، وفئة حفتر هي الباغية قولا واحداً؛ مهما تترست بكل أخرق معتوه من المداخلة؛ فوجب قتالها لا القتال معها، فهذا التدخل قَلْبٌ لمقصد الآية ومشاقّة لله ورسوله، وهو كذلك ترسيخ لسنة الانقلابات العسكرية الغاشمة وإطالة لأمد الحرب التي تراق فيها دماء المسلمين بلا غاية ولا نهاية.

   ومن هنا وجب على كل عسكريّ مصريّ ضابطا كان أو جنديا قائدا كان أو مقوداً أن يجد لنفسه مخرجاً من مواجهة المسلمين أهل العدل بسلاحه؛ لأنّه آثم إن فعل ولو لم يقتل، فإن قتل فلن ينجيه السيسي ولا ملء الأرض من أمثاله من هذا المصير: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء 93)، ولا تقل إنك عبد المأمور؛ إنك عبد لله؛ ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس في القتل اعتبار للإكراه بالإجماع. “اللهم قد بلغت اللهم فاشهد”.


([1])  راجع: العلاقات الدولية ل جوزيف فرانكل ترجمة غازي القصبي ص 91

([2])  راجع للكاتب: الأحكام الشرعية للنوازل السياسية ط الثالثة دار اليسر القاهرة ص 431

([3])  راجع: تفسير الزمخشري (2/ 101)، تفسير النسفي 1/565 ، تفسير أبو السعود 3/224

([4])  راجع:   الأحكام السلطانية – للقاضي أبي يعلى – دار الكتب العلمية – بيروت ، لبنان – الطبعة : الثانية 2000 م –  (ص: 27 – 28).