ها هو الشيخ يعود من جديد؛ يعود لما يتقنه ويجيده من فنون الكلام الذي لا حاصل منه إلا المزيد من التلبيس على البسطاء، وما أكثرهم! وما أقدره على خداعهم! يعود للادعاءات الباطلة والدعوات الأكثر بطلانا، يعود “وما يبدئ الباطل وما يعيد”.
ولست أدري أيَّ المغالطات التي أثارها أولى بالمناقشة أولا؛ فهي منظومة من الترهات تنبعث في اتجاهات شتى، فتحيط بعقل الغرّ إحاطة أذرع الأخطبوط بالفريسة الغافلة، لكنني أجدني مضطراً للبدء بما أحسبه مكمن الالتباس والتلبيس، وهو ما أشار إليه ولفّه في السياق عبر ذكره الخاطف لتنازل الحسن بن عليّ عن الخلافة لمعاوية، ليلقيَ بحرفية عالية في روع القارئ أنّ نازلة الانقلاب تخرج في الفقه الإسلاميّ على ما وقع بين الطائفتين من المؤمنين (طائفة علي وطائفة معاوية) تلك التي سميت في التاريخ الإسلامي ثم في فقه السياسة الشرعية بالفتنة، ومن ثم يكون اعتزاله لها هو المذهب الأسلم الذي عمل به ابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهما من أكابر فقهاء الصحابة، وهو المذهب الذي استقر ترجيح العمل به درأ لمفسدة الدماء.
وإنّها – لعمر الحق – الخدعة الكبرى والأكذوبة العظمى؛ إذ كيف يسوّي بين طغمة من العسكر الخونة يقودهم عميل ضالع في الخيانة والعمالة وبين فريق من الفريقين الذين وصفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهما: “طائفتان عظيمتان من المسلمين دعواهما واحدة” حتى وإن كان هذا الفريق أبعدهما عن الحق؟! وكيف يسوى بين فتنة وقعت بين صحابة كرام اختلفوا – لشدة التباس الموقف – في تحديد الأقرب للحق من الطرفين، وبين انقلاب عسكريّ دمويّ جاء ليحقق آمال أعداء الأمّة جمعاء، ويطيح بأحلام الشرفاء جملة واحدة؟! إنّها لم تكن كلمة عابرة فلتت من لسان الرجل على حين غفلة منه بقدر ما كانت عنوانا بارزا لمذهبه الذي ارتضاه لنفسه وبنى عليه منهج حياته وطريق دعوته، وإنه لمذهب أبعد في الدجل والخرافة سبعين مرة من شطحات ابن سبعين في مسائل الاتحاد والحلول.
ومن ثَمَّ دعا لمصالحة بين (الفريقين المتصارعين!) تقوم على جبر الدماء بدفع ما أسماه دية، واقترح – وما ندري أهو منه ابتداء أم أداء – بأنّ يدفع الخليجيون هذه التي سماها دية!! فهو ينادي – ويا لسماجة ما ينادي به! – بتسوية الصراع بين الحق والباطل، بدنانير يدفعها الباطل للحق، تكون كافية لتكميم فم الحق إلى أبد الآبدين، ومنعه من التكلم في الدنيا ويوم الدين، هذه الدنانير التي ستنحدر من جيوب الأمراء دون أن يسمعوا لانحدارها رنينا، إلى أفواه المعذبين في أرض الكنانة، هي ثمن دماء سالت بغير ذنب، وأرواح أزهقت بغير جناية، وهي العوض عن وطن اغتصب وثورة انتهبت، وأحلام سرقت من أعين حالميها، وهي البدل المضمون عن الحرية التي ذهبت واندرست آثارها كأن لم تكن شيئا مذكورا، والكرامة التي ديست تحت أقدام علوج الداخلية وبيادات العسكر، وكل عزيز يعيش الإنسان من أجله ويدفع في سبيله عمره كله.
يا أيها الشيخ المثير للدهشة، إني سائلك بالله: هل تستطيع إذا بعت نفط الخليج كله أن تشتري به أبا لطفلة يتيمة، أو ولدا لأمّ ثكلى؟ هل تستطيع إن نفضت جيوب الأمراء من ربيعة ومضر أن تردّ لمصر أولادها وخيرة أبنائها الذين فُجّرت – بأيدي الفجرة – رؤوسهم وأفرغت ما فيها على (أسفلت) الشوارع؟
إنّي سائلك بالله الذي أنعم عليك بالدين فاتخذته مطية للدنيا؛ أن تقدر باجتهادك العابر لحدود الله هذه التكاليف الباهظة، وأن تكلف القائمين على ضخ المليارات أن يدفعوا (فاتورة) هذا كله، ولا تنس أن توصيهم بأن يردوا ببعضها دمعة طفل يتيم وأن يكفوا بحفنة منها زفرة زوجة مكلومة.
ليقل لنا هذا الرجل وكل من نهض مثله في هذا الطريق المسدود: أين وجدتم في دين الله وشريعته المبرر الشرعي والمسوغ الفقهيّ لما تصنعون، أمشترعون أنتم دينا جديدا، أم مبتدعون في دين الله ما لم ينزل به سلطانا؟ إنّ ما تسمونه دية ليس بدية في أيّ مذهب من مذاهب أهل القبلة، سنيهم وشيعيهم، وزيديهم وإباضيهم وظاهريهم؛ لأنها لا تكون دية في القتل العمد العدوان حتى تكون من مال القاتل، لا من مال الشعب، ولا من أموال المسلمين الذين يرفضون أن تنفق أموالهم في دعم انقلاب دموي يمارس القتل ويمارس التغييب القسري لحقوق المقتولين ظلما، وحتى يدفعها الذين مارسوا القتل والذين أمروا به والذين برروه وشرعنوا له، ولأنها لا تكون دية حتى يتنازل وليّ الدم برضى واختيار – وليس لأنّه لا يملك غير هذا – عن القصاص الذي هو الأصل، ولأنها لا تكون دية تلك التي يقترحها ويسعى في تنفيذها ويحاول التفرد بالقرار فيها القتلة المجرمون.
وإذا كان انتهاكك للأحكام قد بلغ هذه الدرجة من البشاعة والشناعة؛ فإنّ وطأك لمقاصد الأحكام ولمقاصد الشارع الحكيم في تشريع العقوبات ومنها القصاص والدية أكثر بشاعة وأشد شناعة؛ فما شرع الله القصاص وغيره من العقوبات المقررة على الجرائم التي ترتكب في حق النفس إلا للحفاظ على النفس البشرية، تلك الغاية التي تعدّ إحدى المقاصد الضرورية الخمسة، والتي تأتي في المرتبة الثانية بعد مقصد حفظ الدين؛ ومن هنا جاءت عبارة العرب البليغة: “القتل أنفى للقتل” وجاءت عبارة القرآن أكثر دقة وبلاغة وسعة: “ولكم في القصاص حياة”.
والذي تقترحه هو في حقيقته تبرير وشرعنة للقتل الجماعيّ، وتشجيع عليه، وسعي جادّ لإيجاد المخرج السهل الذلول لمرتكبيه، وتسويق للأسلوب الأجدى والأسرع في فرض أنظمة وسياسات وأوضاع منافية لكرامة الإنسان، عن طريق الإسراف في القتل والإيغال في سفك الدماء وانتهاك الأعراض ومصادرة الحريات، فما أسهل أن ترتكب المجازر لتمرير مشروع إجراميّ إذا كان الغرم في النهاية سينحصر في أموال من السهل أن يدفعها المجرم أو يدفعها عنه شركاؤه في المشروع الإجراميّ!!
ورغبة منه في مزيد من التلبيس المظلم؛ يُزْجِي في لجّة الأباطيل بهذه الكتلة المتداخلة التي لا يعرف لها قُبُلٌ من دُبُر، عندما يقرر – وهذا حق – أن الدولة وسيلة للدعوة، ثم يقرر – وهذا باطل – أننا يجب أن نستغني عن الدولة لتبقى الدعوة، ثم يقرر – وهذا ضلال مبين – أنّ التنازل عن الدولة هنا كتنازل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، ولست أرى جوابا أبلغ من أن نردّ الرجل إلى واقعه، ونوجه إليه ولمن ذهب معه في ذاك الخيال الرومنسيّ هذا السؤال الطبيعيِّ: ها أنت قد اعتزلت (الفتنة) وآثرت الدعوة على الدولة فهل وجدت الدعوة؟ وهل قمت بها؟ ولكل أحد في الأمة أن يسألك الآن: أرنا الذي فعلته تجاه الاجتياح العلماني والشيعيّ والطائفيّ والإلحاديّ للدين الإسلاميّ وللأمة المسلمة؟
أمّا ما ادعاه مما جرى بيننا وبينه في رابعة؛ فلا أقول فيه إلا أنّه محض افتراء، فما كانت هذه مطالبنا، ولا كنّا نريد منه أن يتدخل أصلا، ولقد توسل بعضنا إليه وإلى من معه ألا يتدخلوا؛ حفاظا على أنفسهم من كذب العسكر ونفاقهم، وما ادعى أنه مطالب المعتصمين لم تكن سوى مقترحات اقترحها بعض الجلساء عليه ليختبر بها صدق العسكر قبل أن تبدأ المساعي، أما المطالب التي قرعت سمعه من جميع الحضور بلا استثناء، والتي لم يتراجع عنها أحد فهي عودة الشرعية كاملة، ورجوع الجيش لثكناته، والقصاص للشهداء.
أمّا مسألة كاترين آشتون؛ فلعل الشيخ أخذته سنة من النوم وهو جالس بيننا؛ فرآها في منامه؛ فاختلط عنده الحلم بالحقيقة فنتج عن هذا ما تفضل به على القراء.