ليس في الوجود أَخْيَبَ ولا أَعْيَبَ من شخص ينشغل عن السير في طريقه، وعن السعي إلى غايته، بإثارة اللغط حول ثوابت دينه ومحكمات شريعته. ما هذا الانقلاب على الذات الذي بلغ في الشذوذ مبلغا يثير الاشمئزاز؟! أيعقل أن تقتني السيف لتضرب به نفسك وتحوز السهم لتفقأ به عينك؟! أولمّا أعطاك الله الجدال وحباك الحجة وفصل المقال، وأيدك بطلاقة اللسان وزلاقة البنان، أخذت تصول وتجول في دوحة الشريعة الغناء، تطيح بكل ما طالته يداك وتعبث بكل ما بلغته قدماك؟! فبدلا من أن تطالب بالعدالة المجرمين الذين غصبوا مقدرات الأمة وسرقوا الأحلام من عيون شبابها؛ رحت تتهم الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بالحيف والجور!!
لقد صار غريبا وعجيبا وشاذا ومستهجنا ذلك المنهج الذي ينتهجه كثير ممن ينتسبون إلى الوسط الثقافيّ، حيث يشتغلون بنقد التراث الإسلاميّ أكثر من اشتغالهم بالثورة على الواقع الذي لا علاقة له بالتراث الإسلاميّ من قريب أو بعيد؛ فكأنّ ما نحن فيه من كوارث سببه الإسلام، وليس الأنظمة المستبدة الظالمة التي وكلها الاحتلال بقهر العباد ونهب البلاد!! فراحوا يثيرون الشبهات تلو الشبهات، ويطلقون الترهات على إثر الترهات، ولست ألوم الساسة والقيادات، فهذا دأبهم؛ إذ إنهم لم يوضعوا على عروشهم هذه إلى لأداء هذه المهام الهابطة، وإنَّما ألوم المنتسبين إلى الثقافة والتنوير، وربما إلى العلم والدين.
وكان من تلك الشبهات شبهتهم المتعلقة بميراث الذكر والأنثى، حيث قالوا: لماذا لم يسوّ القرآن بين الذكر والأنثى في الميراث؟ ولماذا جعل ميراث الأنثى على النصف من ميراث الذكر؟ أليس من العدل المساواة بينهما؟ ولا سيما والمرأة في هذه الأيام تعمل وتنفق كالرجل؛ ومن هذا المنطلق خرجت دعوات بتغيير أحكام الأسرة في كثير من البلدان التي كانت تأخذها من الشريعة الإسلامية. وللرد على هذه الشبهات نقول:
أولا: الحكم الوارد بأنّ للذكر مثل حظ الأنثيين من أولاد المتوفى وإخوته حكم ثابت بنص الكتاب، وهو من المحكم وليس من المتشابه، وهو مما أجمع العلماء عليه، ومن ثم فهو من المعلوم من الدين بالضرورة؛ فمن الخطورة بمكان إنكاره أو التنكر له.
ثانيا: أنَّ التسليم لحكم الله واجب مهما بدا في ظاهر الأمر مخالفا للعقل أو للعدل؛ لأنَّ الخالق تبارك وتعالى هو أعلم من عباده بما يصلحهم وبما يتفق مع الحق والعدل، وهذا التسليم هو المقتضى الأول للإيمان. قال تعالى: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما” (النساء: 65)، وهو جوهر الإسلام؛ لذلك قال الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، حين استسلما لأمر الله بالذبح ولم يتوقفا على معرفة الحكمة منه: “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ” (الصافات: 103)، فما تلَّه للجبين إلا لأنه استسلم وانقاد لأمر الله، وما أذعن ولده إلا لأنه استسلم كاستسلام أبيه، وأدرك موقعه من أمر الرب تبارك وتعالى، وهو أنه عبد يفعل ما يؤمر به: “قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ” (الصافات: 102). فعبوديتنا لله تعالى تقتضي أن نفعل ما يامره الله تعالى حتى ولو لم تظهر لنا الحكمة منه، وهذا هو منهج عباد الله، أما رد حكم الله لعدم وضوح الحكمة منه، فهو منهج الشيطان، الذي اعترض على حكم الله: “قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ” (ص: 76). ولعمري إن هذا أول وأهم ما نجيب به على مثل هذه الشبهات؛ لأن الاستمرار في التماس الحكمة من الأحكام للرد على شبهات المغرضين يجعل أهل الشريعة دائما في موقع الدفاع، وهو موقع ضعيف.
ثالثا: ينبغي أن نفرق بين العدل والمساواة؛ لأنهما ليسا مترادفين، والعدل قد يتحقق بالمساواة وقد لا يتحقق بها. فالمساواة بين المتماثلين من كل الوجوه عدل، والمفاضلة بين المتفاضلين ولو من بعض الوجوه عدل، والمساواة بينهما ليس من العدل. فالعاملون – مثلا – في مصنع أو شركة أو جامعة متساوون في الكرامة والإنسانية، ولكنهم متفاضلون في قدراتهم وإمكاناتهم وبذلهم، وما يناط بكل واحد منهم من مسؤوليات. لذلك، ليس من العدل أن يستووا في أجورهم. والذكر والأنثى من الجيل الذي يستقبل الحياة أو يخوض غمارها (وهم غالبا في جيل الأولاد وجيل الأخوة والأخوات) متساوون في الكرامة والإنسانية والرحم، وغير ذلك، فيجب أن يستووا في البر والصلة والحب، وما شابه ذلك، لكنهم لا يستوون في ما يتعلق بهم من واجبات ومسؤوليات؛ فليس من العدل أن يستووا في الميراث.
رابعا: المرأة في بعض الحالات ترث نصف الرجل؛ لأنها تأخذ من ناحية أخرى، حيث لا يكون الرجل آخذا بل معطيا، وحيث لا يكون غانما بل غارما، وذلك في المهر والنفقة، فهو الذي يغرم وهي التي تغنم، ومن ثم فهي تأخذ من ناحية وتدع من ناحية. وما تدعه في الحقيقة إنما تدعه لامرأة أخرى، وهي زوجة أخيها. فإن قال قائل إنَّ المرأة تعمل وتنفق كالرجل؛ قلنا: ليس هذا هو الأصل بل الاستثناء، والاستثناء النادر لا حكم له، إضافة إلى أنَّ هذا ليس هو الوضع الطبيعي في نظر الإسلام؛ فلا يفرض على الإسلام صورة ليتعامل معها متجاوزا أحكامه وتصوراته، فالأصل أنَّ العمل والشقاء والإنفاق على الرجل، وأنَّ البيت والتربية وبناء النشء للمرأة؛ فكيف تقلبون الأصل وتريدون من الشريعة أن تنقلب معكم على أصوله؟!
خامسا: ليس صحيحا القول بإطلاق أن المرأة ترث نصف الرجل، إنما ذلك في حالات قليلة: فأولاد المتوفى إن كانوا إخوة رجالا ونساء، يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك إخوة المتوفى إذا لم يكونوا محجوبين، لكن هناك حالات كثيرة تخالف هذا الحكم، فالأنثى ترث مثل نصيب الذكر في حال الإخوة لأم، وقد ترث أكثر مما يرثه الذكر في حالات كثيرة، فمثلا: لو توفي عن زوجة وأخت شقيقة وأخ لأب؛ أخذت الزوجة الربع والأخت النصف، والأخ لأب الباقي تعصيبا، وهو يساوي الربع، ومن مات وترك بنتا وعشرة من الإخوة الذكور أخذت البنت وحدها النصف، واشترك الإخوة العشرة في النصف.
سادسا: أنَّ التفاوت بين الورثة يخضع لمعايير ليس من بينها الذكورة والأنوثة؛ وإلا لو كانت من المعاييير لأخذت دائما نصف الذكر، وهذا غير صحيح كما أسلفنا، إنما هذا في بعض الحالات، أمَّا المعايير الثابتة فالأول منها: درجة القرابة، التي تتفاضل بالجهة وبالدرجة وبقوة القرابة، والثاني منها موقع الجيل الوارث من الحياة: أهو مستقبل لها بما فيها من مسؤوليات أم هو مدبر مولٍّ؟ فمثلا: لو مات عن أم وأب وبنت وابن، ورث الأب السدس والأم السدس، فيكون المجموع الثلث، وورث الابن والبنت الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، ومجموعه الثلثان، ونصيب البنت فيه وهي أنثى أكبر من نصيب الأب وهو ذكر؛ لأنها تستقبل الحياة وهو يستدبرهاـ فيلزمها لمواجهتها ما لا يلزمه.
سابعا: لا تنسوا أيها المجاهرون بمحاربة الإسلام أنّ الإسلام هو الذي أنقذ المرأة وانتشلها من الضياع، وهو الذي أنصفها في كل شيء بما في ذلك الميراث، فلقد كانت المرأة تحرم من الميراث في الجاهلية؛ إذ لا يرث إلا الرجال المكتسبون الأشداء، فأعطاها الإسلام حقها: “لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبا مَّفْرُوضا” (النساء: 7). ليس هذا فحسب، بل إن المرأة كانت ذاتها تورث كما يورث المتاع، فنهى القرآن عن ذلك نهيا قاطعا: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْها” (النساء: 19)، ولم يكن هذا الانحراف قاصرا على جاهلية العرب وحدهم، وإنما عمهم وغيرهم من الجاهليين، وقد كان القانون الإنجليزي حتى عام 1805 يبيح للزوج بيعها، وحدد لها ثمنا (تسعيرة)!
وأخيرا، فإنَّ الله قد أحاط بكل شيء علما، يعلم ما بين أيديهم ومما خلفهم ولا يحيطون به علما، ولا تزال النظم المخالفة للإسلام تتخبط وتنتقل من أفق إلى افق لا تستقر على شيء، فلن يملكوا أبدا على الإسلام العظيم زلة؛ لأن المصدر كتاب “لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ” (فصلت: 42).