الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل كان السبب في هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابته هو الفرار من الظلم والفتن؟ سؤال يستدعي وعياً قبل الإجابة عليه؛ لأنّ هاهنا منطقة غامضة وخطرة، فمن حيث المبدأ: لا إنكار على من هاجر من بلد إلى آخر فرارا بدينه من الفتن أو بنفسه وعرضه من الظلم والطغيان؛ فالعيش الآمن والحياة السالمة من البطش والإرهاب حقّ من حقوق الآدميين؛ لذلك جاءت الآية الكريمة من سورة النساء على نحو يؤكد أنّ الأرض ميدان لتنقل الإنسان تتسع له ولا تضيق عليه: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء 97)، كما جاءت الآية من سورة التوبة على نحو يجعل من حق المستجير السالم من التورط في المحاربة أن يبلغ من الأرض مأمنه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) (التوبة 6)؛ ومن ثمّ فلا تثريب على من كان هدفه من الهجرة البحث عن مأمن؛ إذ لا مؤاخذة على من يمارس حقّه الشرعيّ، لكن التثريب والتأنيب والعتب والمؤاخذة يكون على تفريط سنأتي للحديث عنه بعد جولة قصيرة.
لا ريب أنّ الفرار بالدين من الفتن والفرار بالنفس والعرض من الظلم، والْتماس موطن آمن للعباد ليعبدوا فيه ربهم آمنين على أنفسهم من عدو يضيق عليهم أو يمنعهم؛ لا ريب أنّ كل هذه الأهداف والغايات كانت مستصحبة في كل هجرة قام بها الصحابة مع رسول الله أو بدونه، بل إنّها كانت كذلك في كل هجرة هاجرها نبيّ أو أتباع نبيّ، ومن أظهر الأمثلة على ذلك هجرة إبراهيم عليه السلام والحنفاء.
لكن الذي لا ريب فيه أيضا هو أنّ هذه الغايات كانت تالية للغاية الأمّ وتابعة لها، وأنّ الغاية الأمّ من الهجرة هي التمكين لدين الله عزّ وجل؛ بالدعوة والبيان ثم بالدولة والسنان، تلك هي الغاية الحقيقية والمحورية، وقد كان كل واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قادرا على الاعتصام بسيفة والالتزام بأرضه ووطنه، كان كل واحد منهم يحمل من النخوة والأنفة ما يحمله على أن يجرد سيفه فلا يضعه حتى يقضي الله بينه وبين من رام إخراجه من بلده، فلم يدفعهم إلى الهجرة إلى الحبشة أولا ثم إلى يثرب ثانيا ضعفٌ عن المقاومة، ولا زهدٌ في الوطن والدار، وإنّما كانوا أصحاب قضية كبيرة ورسالة عظيمة؛ هي التي دفعتهم لأن يتجشموا عناء الهجرة وآلام مفارقة الأوطان.
ومما يؤكد هذا المعنى أنّ الذين هاجروا إلى الحبشة لم يكونوا جميعاً من الضعفاء المغلوبين، وإنّما كان فيهم أشراف نبلاء ممن لهم في بلادهم منزلة وجاه ولهم بقومهم مَنَعَةٌ وعزة، من أمثال عثمان ابن عفان وجعفر بن أبي طالب وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وغيرهم ممن لا يجرؤ أحد على أن يمد لهم يدا أو ينالهم بأذى؛ ومن الأدلة على ذلك أيضاً إنّ الهجرة إلى المدينة كانت واجبة، إلى حدّ أنّه لم يكن يُقبل من أحدٍ لم يهاجر وهو قادر على الهجرة عهدٌ ولا ميثاق: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (الأنفال 72).
إنّ الهجرة في سبيل الله التي يُنال بها أجر وفضل الهجرة، هي التي تكون أداءً لواجب لا مجرد ممارسة لحق، هي التي تكون للتمكين لدين الله وليس للتنزه والتوسع في الحياة، هذه هي الهجرة التي تكون مراغما وسعة ويقع أجر المهاجر فيها على الله: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء 100)، فهل يكون مُفَرِّطاً من خرج من بلده مهاجراً بسبب الظلم الواقع عليه، حتى ولو كان سبب الظلم أنّه متمسك بدينه ملتزم بتعاليمه غير موال لأعداء دينه؟ وهذا سؤال يدخلنا إلى الجوهر.
إنّ المسلم المهاجر بسبب ما يقع عليه من ظلم مأجورٌ، وإن لم ينو بهجرته إلا النجاة بنفسه والفرار بحريته؛ مأجور إذا احتسب، مأجور على المصاب الذي حل به، لكنه لا ينال أجر المهاجر في سبيل الله ولا فضيلة الهجرة حتى يجدد نيته، وحتى يتبنى من المواقف والأقوال والأفعال ما يعلي من شأن الدين ويصب في النفع العام للمسلمين، فإنّ الله تعالى رؤوف رحيم ودود كريم، لا يحرم عبداً استفزه سوط الطغيان ففر بنفسه، فلما استقر به المقام استدعى قضيته واستحضر نيته وبدأ يتحرك ويعمل.
فموسى عليه السلام عندما خرج كانت غايته النجاة من الظالمين: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص 21) فلما تحققت نجاته تحركت حاجته للهداية في تيه الصحراء الموحشة: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص 22) فلما بلغ المأمن تحركت حاجته للرزق في غربته: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص 24) فأفاض الله عليه من النعم حتى صار له بيت وزوجة وأنعام، لكنّه لم ينس قضيته، فما إن قضى الأجل الذي عليه حتى تحركت في نفسه الرغبة في الرجوع إلى مصر؛ حيث قومه من بني إسائيل يعانون الخسف والهوان، فامتطى ناصية الطريق النافذ عبر سيناء؛ قاصدا مصر، وهنا استحق شرف الرسالة، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فجاءه الوحي في الوادي المقدس طوى.
فمن سعد بهذه النعمة وهذا الخير ظهرت عليه علامات لا يملك إخفاءها، ومن اغتالته شهوات نفسه وغلبت عليه هموم دنياه طفحت على ظاهره خصال لا يملك إخفاءها أيضاً، فاسألْ نفسك أيها المهاجر: هل أنت تفكر في قضايا أمتك وبلدك أم يستحوذ على تفكيرك همّ العيش والسكن والاستيطان وغير ذلك؟ هل أنت تدعو لنفسك وأهلك فقط أم تجعل لدينك وأمتك والمظلومين في بلدك نصيبا من دعائك؟ هل أنت نزّاع للوحدة والألفة والتواصل أم للشقاق والخلاف والتهارش؟ هل لديك خطة ومشروع ورؤية أم إنك تمضي على هوى من يسيرونك؟ هل تعمل ما تستطيعه أم إنك مستسلم لليأس تلقي اللوم على غيرك.
إنّ وجود جماعات من الناس من أجناس مختلفة في مهجر كريم بتركيا الحبيبة فرصة عظيمة للتواصل، وللاندماج في الشعب التركي الكريم، فهل نحن قادرون على تحويل هجرتنا من مجرد ممارسة حق إلى أداء واجب؛ لتتحول هذه الفرصة التاريخية غلى منصة انطلاق إلى ميلاد جديد للأمة الإسلامية؟
إنّ الهجرة أعظم حدث في تاريخ الإسلام بعد نزول القرآن، وإنّ الأمة الإسلامية لفي أمسّ الحاجة إلى استلهام الدروس من هذه الهجرة المباركة، وإنّها لدروس كثيرة وفيرة، وإنّها لفي القمة في النفع؛ وإننا لقادرون إن شئنا أن نجدد انطلاقتنا مع العام الهجريّ الجديد؛ فاللهم خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك، واستعملنا ولا تستبدلنا.