الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
من حقك كمصريّ أن تختلف أو تأتلف مع رئيس من الرؤساء الذين حكموا مصر، بما فيهم “محمد مرسي”؛ مالم تكن في توجهك ذاك متبعاً لهواك، ومن حقك كذلك أن تخالفني الرأي إذا قلت: إنّ الرئيس الشهيد محمد مرسي لم يكن ضعيفاً قَطُّ، ولم يفرط في حق هذا الشعب قيد شعرة، ولم يَأْلُ جهدا في جلب المصالح له ودفع المكائد عنه، وإنّه لولا الفتن والمؤامرات التي كانت تحاك على المستوى المحلي والإقليمي والدولي لكان لبلدنا في ظل حكمه شأن آخر، هذا رأيي الذي أبنيه على مشاهداتي وملاحظاتي ومعرفتي، وأستطيع أن أبسط فيه القول وأسوق فيه الأدلة والشواهد، لكنّه في النهاية رأيي ورأي الكثيرين مثلي في مسألة وقع فيها الخلاف داخل المجتمع المصري؛ ومن ثمّ فلا تثريب على مخالف في مسألة يسوغ فيها الاختلاف.
لكنّك لن تخالفني الرأي فيما لا خلاف فيه؛ إلا أن يكون تعصبا وتشنجا ولجاجا، فلا خلاف في أنّ الرئيس محمد مرسي هو الرئيس الوحيد في تاريخ مصر المعاصر الذي يحظى بشرعية حقيقية؛ حيث تم انتخابه من قِبَلِ شعبه عبر عملية انتخابية صحيحة لا شبهة فيها ولا شائبة عليها، تَقَدَّمَتها تزكية من علماء الأمة وصُلَحائها ودعاتها ومفكريها في داخل مصر وخارجها، بينما كل من حكم مصر سواه من لَدُن “محمد علي” إلى يومنا هذا – بغض النظر عن شكل حكمه – لم يسعد واحد منهم بهذه الشرعية؛ اللهم إلا بعض الذين أخذوا منها بطرف يسير؛ ولم يكن لهم بسبب ذلك دوام ولا بقاء.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف لا يصلح لمصر إلا من امتطى ظهرها بغير اختيار شعبها؟ أيمكن أن يقال إنّ هذا الشعب لا يحسن أن يختار لنفسه رئيسا أو برلماناً؟ أيكون صحيحاً ما ادّعاه دُعاة الليبرالية الكاذبون في بلادنا من أنّ هذا الشعب غيرُ مهيأ للديمقراطية ولا يستحقها؟ إذَنْ لقد راجت في حياتنا كلماتهم وتصريحاتهم، التي لم تكن سوى أدخنة تتصاعد في سماء مصر؛ منذرةً بالخراب واليباب! وشاهدةً على أنّ القوم مستبدون في ثياب الحرية الهلامية الفضفاضة! كيف لشعب يدعي العراقة والكرامة أن يقبل هذا على نفسه وهو آمن من النقد سالم من الاتهام؟!
وكأنني أرى من بعيد أشياء تَتَرَجْرَجُ في حلقك؛ فاسمح لي – إذْ اعتاصت عليك – أن أخرجها لك وأن أطرحها بالنيابة عنك: إنّ جماعة الإخوان جماعة كبيرة ومنظمة ولها خبرة سياسية وانتخابية عريضة؛ فانتزعت بذلك إرادة الشعب أو انتزعت من بين يديه حظه في إعمال إرادته، بينما سائر الأحزاب لم تكن قد رتبت صفوفها ولا أخذت للدعاية أُهبتها، أهكذا تريد أن تفصح ؟! فَتَذَكَّرْ أنّ هذا هو عين ما قاله الكثيرون ممن لا يجيدون إلا الكلام الفارغ من المعنى والمبنى على السواء، كأنّهم إذْ – إذ يرددون هذا الصياح صفائح خاوية مُثَقَّبَة تدوي فيها زوابع تهب من أدبار الشياطين!
ثم قلتم على هذه الجماعة السياسية الانتخابية التي عَبَرَتْ في استحقاقات انتخابية متتالية إلى الفوز بالأغلبية في كل الدوائر السيادية، والتي عبّرت بعبورها هذا عن مدى تغلغلها في ضمير المجتمع؛ قلتم عنها إنّها جماعة إرهابية! فهل كنتم ترضون لأنفسكم رئيسا إرهابيا ونواب شعب وشورى إرهابيين؟ أم إنّ إرهاب العسكر المحْتَلّ لبلادنا بالوكالة لا يريكم إلا ما يرى؟! أَمَا يستحي نَاسٌ من ترديد مثل هذا الكلام الذي لا فرق بينه وبين الهذيان إلا كالفرق بين كلام “عمرو ولَمِيسْ!” وسكسكة القرود والنسانيس؟!
كذلك لن تخالفني في أنّه الرئيس الوحيد في تاريخ مصر المعاصر الذي تَرَفَّعَ وتَنَزَّهَ؛ فلم يَتَلَوّث بشئ ولو ضئيل مما انغمس فيه جميع من حكم مصر بلا استثناء، فجميعهم – ومعهم حاشيتهم والمقربون منهم – قد بالغوا في النهب والسرقة؛ كأنّهم كانوا في سباق النهب يَتَبَارُون، أو كأنهم إذْ يَغْتَرفون بِنَهَمٍ لا شبيه له يفرُّون من أشباح الجوع في أزمان المسْغَبة والضياع، أو كأنهم إذ يسرقون بلا رحمة ولا هوادة؛ فلا تبقي أيديهم الآثمة شيئا ولا تذر؛ قد استأجرهم علينا إبليس وجنوده بشطر ما يجمعون، حتى هذا الأخير الذي لم تَكْفِهِ قصور مصر على كثرتها وعراقتها فراح ينثر في رحابها القصور الشاهقة، أمّا الرئيس فلا، أمّا الرئيس الذي لا يستحق لقب الرئيس إلا هو فلم يتلبس بشيء ولو قليل مما غرق فيه كل هؤلاء، الذين ليس لهم في الرئاسة إلا بقدر ما لِلِصٍّ بلطجي سطا على دارك من ملكيتها وحيازتها.
فهل جميع (الحرامية) صالحون لحكم مصر ورئاستها عدا الرئيس الوحيد الذي تَعَفَّفَ إلى الحد الذي أراه سَيُتْعِبُ كل من سيأتي بعده إلى يوم الدين؟! أم إنّنا لا يصلح لحكمنا إلا اللصوص المجرمين؟! بالقطع لا هذا ولا ذاك، ولكننا نعيش مغالطات وتناقضات في فهمنا ومواقفنا؛ أحسبها ستكون السببَ الطبيعيَّ لضياع النيل من أيدينا وتسلط الأوغاد علينا، وبيع المزيد من أراضينا جزرا كانت أو شبه جزر، والتفريط في المزيد من مقدرات شعبنا نفطا كان أو غازاً في المتوسط أو في غيره مما وهبنا الله وحبانا.
ولن تختلف معي في أنّه الرئيس الوحيد الذي وهبنا الحرية الحقيقية، وأتاحها وأباحها لكل من وطئ بقدميه ثرى مصر؛ حتى استطال عليه كل خبيث ديوث تحوم الشبهات حول أصوله، وتَطِنُّ الظنون طنينا في سراويله، وحتى رفع كل شيخ – لا تسمع اليوم له ركزاً – عقيرته بالنقد له والتشنيع عليه، وحتى كانت سيرتنا معه ومع الثورة التي حرَّرَتْنا ورَدَّتْ إلينا كرامتنا كسيرة بني إسرائيل مع موسى، حيث تركوا دينه وما جاءهم به، وعبدوا العجل، وكم من عجل في بلادنا يخور؛ فتضطرب له البلاد وتمور!!
فهل تستطيع أن تزعم أنك لا زلت مؤمنا بالحرية وأنت تتجرع اليوم العبودية باختيارك، هل تجترئ أنت أو غيرك على أن تقول كلمة واحدة في سرك من مئات الكلمات التي كنت تجهر بها على الملأ؟ أم إنّك كفرت بالحرية وآمنت بالعسكر؟! ورفعت البيادة فوق المأذنة وقُبَّةِ الأزهر؟! لا تقل لي إنّك مصريّ حرّ، ولا تردد: “ارفع راسك فوق …” إذا كنت توالي السيسي وهو يهدر مصر فيبيع بعضها ويهدي بعضها لمن لا يرقب فينا إلّاً ولا ذمة، لا ترتكب هذا الخطأ فتتضاعف من حولنا التناقضات المؤسفة.
وأخيراً – وليس آخرا – إنّك لن تجرؤ أنت ولا أحد ممن وهبه الله عقلا يعي أن تنكر أنّ الرجل مات مظلوماً؛ وأنّه لم يكن ثمَّ قضايا ولا قضاة، إن هي إلا استكمالات لإجراءات الانقلاب العسكريّ الغشوم، وقد تكررت في التاريخ القديم والمعاصر أمثال هذه المسرحيات الهزلية؛ فلا المجرمون الأغبياء توقفوا عن تكرار المهازل المكشوفة المفضوحة، ولا التاريخ اليقظ توقف عن تسجيلها وكشفها وفضحها.
وهنا تثور الأسئلة بين يديك وتفور: أين كان هذا الرئيس طوال هذه المدة وماذا فعلوا معه؟ لماذا لم يظهر كما ظهر مبارك في المحاكمات أمام كاميرات الإعلام؟! ولماذا ضربوا عليه الأقفاص الزجاجية أثناء المحاكمة؟! ما الذي يخافونه من ظهوره وما الذي يخفونه علينا؟! ولماذا كل هذا الغموض الذي يلف وفاته من قبل سقوطه أمام منصة القضاء إلى دفنه في ظلمة الليل وسكون الدهماء؟! أليس من حق هذا الشعب أن يعرف كيف مات رجل كان في يوم من الأيام رئيسا له؟! عشرات الأسئلة تدوي حول هذا الحدث الغامض الكئيب؛ فهل تملك الإجابة عليها؟
أما وإنك قد عجزت وأفلست ونفدت من بين يديك الحيل؛ فاقعد واسمع منّي: إنّ رئيسك الذي لم يكن لك في يوم من الأيام رئيس غيره ولا حاكم سواه قد مات شهيداً، وإنّ هذه الفئة التي قتلته لا يمكن أن نجد لها في حكم الشرع توصيفا وتكييفاً إلا أنّها جمعت بين الخروج والخيانة والعمالة لأعداء الدين والوطن، وإنّ قتل هذا الرئيس جاء في سياق المؤامرة الكبرى التي شاركت فيها الدولة العميقة مع العسكر الخونة مع شركائهم في الخليج وأوليائهم في تل أبيب، تلك المؤامرة التي استهدفت القضاء على الربيع العربيّ وإيقاف مدّه مع التمهيد لمرحلة من تقسيم المنطقة وإعادة هيكلتها.
وخذ منّي هذه واحتفظ بها ليوم قد نلتقي فيه فترفع لي القبعة أو تضرب بها في وجهي: إنّ هذا الرجل كان زاهدا فيها عندما كانت مغنماً، ولم يتمسك بها إلا عندما صارت مغرما، أتدري لماذا تمسك بها حتى أطاحت بعنقه؟ لكي تتعلم أنت وجميع إبناء مصر قيمة شيء اسمه “الشرعية” ولسوف يأتي اليوم الذي يدرك الناس قيمتها وعمقها وأبعادها وأثرها الهائل في حياتهم بامتداداتها الأخروية والدنيوية.
وأزيدك من الشعر بيتاً: إنّه اتبع في ذلك سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث آثر – إذ تحتمت إراقة الدماء – أن يكون دمه ودم جماعته هو المراق؛ لتبقى البلاد سالمة؛ علها تنهض ولو بعد حين، وإذا كان يملك التضحية بدمه فإنّه لا يملك التضحية بالشرعية لأنها عقد بينه وبين الأمة، والعقد الذي أبرم بين طرفين لا يملك طرف أن ينقضه من جهة واحدة ولا بالاتفاق مع من لا صفة له ولا مدخل في هذا العقد؛ لذلك وقع ما وقع على النحو الذي وقع؛ وسيكون له تفسيره العلمي والعملي في يوم سيأتي.
لكنّني لن أتركك حتى أهمس في أذنك: إنّني مع ذلك لست من الإخوان، ولست موافقا لهم في كثير من الأمور، وإنّني اختلفت ولا زلت أختلف معهم ومع الرئيس الشهيد رحمه الله رحمة واسعة، وجُلُّ ما نختلف معهم فيه متعلق باستراتيجيات وأساليب التغيير، وقواعد وأسس إدارة الصراع مع عدوي وعدوك وعدو أمتنا، مع اتفاقنا جميعاً في وجوب السعي لتحرير بلادنا وشعبنا ورد الحقوق إلى أصحابها، ولعلك تكون معنا في هذه الغاية النبيلة؛ (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (الروم 60).