الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لماذا تضطرب الرؤية في كثير من الأحيان برغم توافر المعلومات والتجارب؟ ما هو بالتحديد العنصر الغائب في عملية الاستشراف التي تُعَدُّ بوصلة التخطيط الاستراتيجي؟ سؤال يطرح نفسه بقوة كلما اضطربت الرؤى ووقع الخلق بسبب ذلك في الخلط والارتباك، والجواب يبدو بسيطا وساذجا، لكنّنا في غمرة الانبهار بالدراسات الاستشرافية الوضعية – والتي يجب ألا نهملها – نمضي متجاهلين لهذا الأمر البسيط ومعرضين عنه، إنّها السنن الإلهية، أجل .. السنن، النواميس، القوانين الإلهية التي تحكم الحياة.
ولعلك تؤيدني في وجوب الانطلاق؛ دون وقوف عند التعريفات والخواص والشروط وغيرها من الأمور التي تُترك لمواضع الأكاديميا والتنظير، فلنبدأ – إذن – بهذه الآية التي تقرر سنة خاصة بأهل الكتاب: (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة: 14)، فَتَحَرَّرْ من الوهم الذي يسيطر عليك، وراجع تاريخ القوم؛ ليتأكد لك أنّ هذه السنة ماضية فيهم بحسم وصرامة، ولتزداد إيمانًا بقول الله تعالى في بعضهم: (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) (الحشر: 14)، وإذا كانت هذه السنة الماضية قد فَتَرَتْ لبعض الوقت وتباطأ سيرها؛ لتعود إلى نشاطها مع بدء الصراع بين الغرب والشرق على مسرح أوكرانيا؛ فإنّ ذلك الفتور السابق لم يكن ليقع لولا مزاحمة سُنة إخرى لها، وهي هذه السنة: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 53).
فالمؤمنون غيروا ما بأنفسهم من خير؛ غَيَّر الله ما بهم من نعمة إلى نقمة؛ ويقال لمن يسأل عن السبب: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 165)، وقد سبقت مشيئة الله بأن تتحقق هذه السنة الكلية عبر سنة جزئية موقوتة، يمكن أن نسميها سنة “التَّدَاعي العقابي” وهي التي جاءت في حديث: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها)، هذا التداعي لا يتحقق إلا بتحالف الأضداد، وهذا ما رأيناه سابقا، حيث أبطات سنة الإغراء بين طواف أهل الكتاب؛ لمزاحمة سنة التداعي واستلزامها توافقق المتنافرين المتدابرين بشكل مؤقت.
ولولا سنة كلية أخرى ماضية في المؤمنين لما رأينا من هذا المأزق مخرجا، هذه السنة المنقذة هي التي قال الله تعالى فيها: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) (النساء: 141)، والحالة الوحيدة التي يكون للكافرين فيها على المؤمنين سبيل هي أن يستمر ويدوم عُلُوُّهم على المؤمنين بلا أمل في التغيير؛ مما يكون حجة للكافرين على المؤمنين؛ إذ كيف يكون أهل الإيمان على حق وهم تحت قهر أهل الباطل أبدا؟! لذلك فهذه السنة تقضي بحتمية انتهاء هيمنة الكفر على الإسلام وخروج المسلمين من المازق.
فما يحل اليوم بأهل الكتاب جميعا بوقوع هذا الصراع، وما سوف يحل بهم في مستقبل الأيام عند احتدام الصراع وتوسعه في العمق الأوربيّ؛ يأتي على وفق سنة إلهية ماضية فيهم، هذه السنة تباطأت بسبب تزاحمها مع سنة أخرى ماضية في أهل الإسلام، ثم عادت للنشاط والسرعة بدفع سنة أقوى، لها على السنتين الماضيتين هيمنة وسلطان، فإذا ما ابتعدنا قليلا عن بؤرة الحدث؛ لنوسع دائرة الرؤية ونفتح (الزوم) وجدنا الحضارة المعاصرة برمتها قد جرت عليها سنة من السنن العامّة الماضية في الخلق.
فقد سلك الغرب إبّان نهضته سلوكا منحرفا يتنافى مع الإنسانية، وذلك عبر سلسلة من المجازر بدأت بالكشوف الجغرافية التي لم تكن في حقيقتها سوى حملات استعمارية، وانتهت بمأساة الإبادة الجماعية للهنود الحمر والاستعباد المهين ل 210 مليونا من الأفارقة وغير ذلك من المآسي، ولم يكن الشرق أقل وحشية منهم، فأخذ الله الجميع ببأساء الحربين الكُبْرَيَيْن وضرائهما؛ لعلهم يتضرعون إلى الله وينتهون عن ظلم العباد، فلما قَسَت قلوبهم وزين لهم الشيطان بناء النظام العالميّ الجديد على أساس المحاربة لدين الله؛ فتح الله عليهم أبواب كل شيء من معطيات الحضارة والمكنة، فكان النصف الثاني من القرن العشرين عصر ازدهار ورفاهية إملاءً وإمهالا، حتى إذا فرحوا بانتهاء التاريخ على شاطئ الليبرالية واللادينية جاءهم أخذ الله بغتة، فإذا بالحرب تدق طبولها، وإذاهم مبلسون حائرون في خوفهم وفزعهم يترددون.
هذه السنة هي التي ورد ذكرها في سورة الأنعام: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)) (الأنعام: 42-44)، كما ورد ذكرها أيضا في سورة الأعراف: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)) (الأعراف: 94-95).
هذا الأخذ المنتظر تأخر كثيرا، ولو يعلم الناس السبب ما تعجبوا؛ إذْ بمعرفة السبب يبطل العجب، والسبب هو أنّ السنة الماضية في زمان الأمة الإسلامية أنّ أخذَ اللهِ تعالى للكافرين وكسرِه لشوكتهم واسئصالِهِ لِمُكْنَتِهم لا يكون إلا بأيدي المؤمنين، ففي سورة القمر – بعد أن حكى الله تعالى مصارع المكذبين الغابرين بكوارث كونية متنوعة – قال عن المكذبين المعاصرين للإسلام: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)) (القمر: 43-45)، وفي التعقيب على غزوة بدر العظمى التي كسر الله فيها شوكة الكفر: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 11)، فتأخير الأخذ كان لغياب الآلة التي هي ستار قدرة الله، حسب سنته الخاصة بهذا الزمان؛ لذلك نحن على يقين بأنّ الله سيأخذ المجرمين بعد أن تتحطم قواهم في هذا الصراع، بشرط أن يعرف المسلمون دورهم ويعيدوا ترتيب صفوفهم، هذا هو الذي يضمن تحقق وعد الله تعالى، بل وبه يناط استمرار الصراع بين المجرمين.
ولا يشكك أحد في مضاء سنة الله الفارقة سنة التداول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، ولكنّها مرهونة بسنة أخرى تُعَدُّ في الغالب مقدمة لها، وهي سنة التدافع: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251) (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، ويبدو أنّ هذه السنة لها نمطان، الأول: التدافع بين القوى المتعارضة بغض النظر عن هوياتها؛ بما يحقق التوازن في القوى، الثاني التدافع بين القوى بالنظر إلى تميز إحداها بهوية إسلامية؛ بما يحقق سيادة أهل الحق، ولعل آية البقرة تشير للنمط الأول، وآية الحج تشير للنمط الثاني؛ لذلك ختمت الأولى ب (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) والثانية ب (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ).
والمتوقع والله تعالى أعلم أن تتحقق سنة التدافع بنمطها الأول باستمرار هذا الصراع بين الشرق والغرب وتوسُّعِه، ثم تتحقق بنمطها الثاني بعد ذلك، عندما تدخل الأمة الإسلامية حلبة الصراع بهويتها المتميزة، وبعدها تتحقق السنة الكبرى سنة التداول؛ لتكون الدولة للإمة الإسلامية، ولا أظنّ أنّ هذه السنن ستزاحمها سنن أخرى تؤخر عملها وتبطئ سيرها؛ لاستحقاق الزمان الذي نحياه بسنة أبطأت كثيرا فيما مضى، ولا أحسبها إلا واقفةً على فم الظرف الحالي متأهبةً للانطلاق: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110)؛ فأبشروا أيها المسلمون وبشروا، وقوموا لله رب العالمين قومة تنصروا بها دينه وتتلقوا بها نصره.
واعلموا أنّ الله تعالى بإغرائه الشرق بالغرب والغرب بالشرق يهيئ الأرض لكم كما هيأها من قبل للأمة الإسلامية في صدرها الأول؛ بإغرائه الفرس بالروم والروم بالفرس ليدخلوا جميعا في حربين، كانت نهاية الثانية منهما مؤذنةً بالنصر المبين للمؤمنين: (الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) (الروم: 1-5). فاللهم انصرنا؛ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.