الأحكام الشرعية المتعلقة بطوفان الأقصى(5)

أحكام الهُدَن ومعاهدت السلام

د. عطية عدلان

بِقدْرٍ غيرِ يسيرٍ من الأمل المزوجِ بالوجل يرقب العالم كله الأحداث الجارية الآن بين حماس والكيان الصهيونيّ، ويتسائل الجميع، وتذهب تساؤلاتهم في كل اتجاه يتعلق بالحدث: هل يمكن أن تقوم هُدَنٌ أخرى كسابقتها؟ وهل ستلتزم إسرائيل ببنود الهُدَنِ أم ستمارس – كعادتها – الأساليب الملتوية لخرقها؟ هل هناك أمل في استدامة هدنة منها مدة أطول لتكون ذريعة لسلام دائم؟ أم إنّها ليست سوى استراحة محاربين تعود بعدها الحرب إلى ماكانت عليه من الضراوة؟ هل يمكن أن تستثمر المقاومة هذه الهدن في تعديل مواقعها وتعظيم إمكانتها أم إنّ إسرائيل ستكون هي المستفيد منها عسكريًّا واستخباراتيًّا؟ لكنّ السؤال الذي ربما لا يفكر فيه الكثيرون نتوقع أن يكون على هذا النحو: ما هي الفروق التي تجعلنا نرحب بهذه الهدنة الآن بينما لم نرحب بمعاهدات السلام العربية الإسرائيلية؟

الهدنة وحكمها في الإسلام

الهدنة (لغةً) مشتقة من الهدون، وهو السكون؛ لأن بها تسكن الحرب، يقال: هدنت الرجل وأهدنته إذا سكنته، وهادنته: صالحته([1])، والمهادنة على وزن مفاعلة: المصالحة والمسالمة والموادعة، والسّلم بالكسر وبالفتح: الصلح، والتسالم:التصالح، والمسالمة:المصالحة([2])، و(اصطلاحًا) هي “مصالحة الحربيين على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره([3])، فهي عقد سلم مؤقت بين طرفين متحاربين.

    وعقد الهدنة جائز بشروطه الشرعية، عند كافة المذاهب الإسلامية «الحنفية([4])، والمالكية([5])، والشافعية([6])، والحنابلة([7])، والزيدية([8])، والإمامية([9])، والإباضية([10])، وغيرهم([11])» وقد نُقل الإجماع على جوازاها بالشروط المقررة عند العلماء ([12])، لكن دعوى الإجماع يردها أن الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم قالوا بأن المهادنات كلها منسوخة ([13]).

ومن أدلة جواز الهدنة بالشروط الشرعية، قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[الأنفال: 61]، أي: وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب – إما بالدخول في الإسلام وإما بإعطاء الجزية وإما بموادعة ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح – فمِلْ إليها وابذل لهم ما مالو إليه من ذلك وسألوكَه ([14]).

    كما يُستدلُّ على جواز الهدنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الحديبة هادن قريشاً؛ وتعاهد معها على وضع الحرب عشر سنين، وقد رويت أخبار هذه المعاهدة في كتب الحديث والسيرة ([15])، وعن الزهري عن ابن المسيب قال “لما كان يوم الأحزاب حُصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة، ليلة حتى خلص إلى كل امرئ منهم الكرب، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشأ لا تعبد، فبينا هم على ذلك أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن بدر: أرأيت إن جعلت لكم ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب؟ فأرسل إليه عيينة إن جعلت لي الشطر فعلت فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فأخبرهما بذلك، فقالا: إن كنت أُمرت بشيء فامض لأمر الله، قال: لو كنت أُمرت بشيء ما استأْمْرتُكما، ولكن هذا رأي أعرضه عليكما، قالا: فإنا نرى أن لا نعطيهم إلا السيف”([16]).

شروط صحة وجواز الهدنة

يختص عقد الهدنة بشروط وضعها الفقهاء، هذه الشروط في بعضها شئ من الاختلاف، لكننا إذا تأملناها يمكن أن نخرج منها بجملةٍ متفقٍ عليها غير مختلف فيها، تصلح أن تكون ثوابت يُرَدُّ إليها كل ما يستجد في هذا الباب.

الشرط الأول: أن تكون الهدنة خيراً ومصلحة للمسلمين، فقد اشترطت كافة المذاهب لجواز عقد الهدنة أن يشتمل على مصلحة ظاهرة وراجحة للمسلمين، يقول الإمام السرخسي: «وإذا طلب قوم من أهل الحرب الموادعة سنين بغير شيء نظر الإمام في ذلك، فإن رآه خيراً … فَعَلَهُ … وإن لم تكن الموادعة خيراً للمسلمين فلا ينبغي أن يوادعهم؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾[محمد: 35]، ولأن قتال المشركين فرض، وترك ما هو الفرض من غير عذر لا يجوز، فإن رأى الموادعة خيراً فوادعهم ثم نظر فوجد موادعتهم شراً للمسلمين نبذ إليهم الموادعة وقاتلهم»([17])، وقال «الخرشي» في شرحه على مختصر خليل: «أن يكون لمصلحة كالعجز عن القتال مطلقاً أو في الوقت … فإن لم تظهر المصلحة بأن ظهر المسلمون عليهم لم يجز»([18])، وفي أسنى المطالب: «أن يكون للمسلمين فيها مصلحة كقلتهم، أو قلة ما لهم، أو توقع إسلامهم باختلاطهم بهم، أو الطمع في قبولهم الجزية بلا قتال وإنفاق مال، فإن لم يكن لهم فيها مصلحة لم يهادنوا، بل يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يبذلوا الجزية إن كانوا من أهلها، قال تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ[محمد: 35]»([19])، وقال البهوتي: «ويجوز عقد الهدنة عند المصلحة.. مثل أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر»([20]).

هذه الأقوال التي أوردناها من كافة المذاهب تدل على أن معاهدة السلام إذا لم يكن فيها مصلحة ظاهرة راجحة لم تجز ولم تصح، ونستطيع أن نقول إن علماء الأمة لم يختلفوا في هذا القدر؛ لأن الذين لم يقولوا باشتراط المصلحة لصحة عقد الهدنة وجوازه- وهم قلة- قالوا بأشد من ذلك، فمنهم من قال لا تجوز إلا للضرورة ([21])، ومنهم من قال لا تجوز الهدنة بحال وقد نسخت المهادنات كلها بآيات الجهاد، وهم الظاهرية ([22])، ولا شك أن هذين الفريقين أكثر تشدداً من الجماهير القائلين بجواز عقد الهدنة بشرط اشتماله على مصلحة للمسلمين، وعدم جوازه إذا لم يكن فيه مصلحة للمسلمين؛ فينتج عن هذا اتفاق كلمة العلماء على أن الهدنة إذا لم تشتمل على مصلحة للمسلمين لم تجز ولم تصح.

الشرط الثاني: «ألا يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد»: هذا الشرط ورد ذكره في كافة المذاهب الإسلامية، إما بالنص عليه مباشرة، أو بذكر أمثلة للشروط الفاسدة التي لا يصح معها العقد، وهي لا تقل عن التصريح بالشرط، فقد قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني: « وإذا طلب المشركون في الموادعة أن نعطيهم رهناً من رجال المسلمين على أن يعطوا من رجالهم رهناً مثل ذلك، فهذا مكروه لا ينبغي للمسلمين أن يجيبوهم إليه بدون تحقق الضرورة؛ لأنهم غير مأمونين على رجال المسلمين»([23])، وقال الخرشي: «فإن تضمن عقد المهادنة شرطاً فاسداً لم يجز»([24])، وقال صاحب التاج والإكليل: «من شرط المهادنة الخلو من شرط فاسد» ([25])، وقال صاحب أسنى المطالب: «وأن يخلو عقد الهدنة عن كل شرط فاسد كسائر العقود، وذلك كالعقد على أن يترك لهم العاقد مسلماً أسيراً.. أو يرد إليهم من جاءت إلينا منهم مسلمة»([26])، وفي الكافي لابن قدامة: يجوز في عقد الهدنة شرط رد رجال أهل الحرب كما حدث في الحديبية، ولكن لا يجوز شرط رد النساء([27]).

    وهذا الذي نقلناه عن المذاهب يعني أنه لا يجوز عندهم جميعاً أن يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد، فإن اشتمل العقد على شرط فاسد فإن هذا الشرط يبطل ولا يجوز إنفاذه ولا إمضاء العقد عليه.

الشرط الثالث: أن يكون العاقد للهدنة هو الإمام أو من ينوب عنه، عند وجود الإمام، او القيادة السياسية الشرعية للمقاومة الإسلامية أو للجهاد الإسلاميّ في زماننا هذا الذي شغر من السلطان، فجمهور الفقهاء «المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية»([28]) يرون أن عقد الهدنة لا يجوز أن يعقده مع المشركين إلا الإمام أو من ينوب عنه – وذلك بالطبع عند وجود الإمام – لأنه عقد يترتب عليه تعطيل الجهاد وهو من المصالح العامة التي لا يقف عليها غير الإمام، ويرى الحنفية([29])، أنه لا يشترط أن يكون عاقد الهدنة الإمام بل لو عقد جماعة من المسلمين الهدنة مع الحربيين صحَّ؛ لأن المعوَّل عليه في عقد الهدنة هو حصول المصلحة من عقدها للمسلمين، والجماعة من المسلمين وإن لم يكن فيهم الإمام يستطيعون الوقوف على المصلحة، والجمع بين القولين بأن نقول: إنّه لدى قيام الإمام لا يجوز الافتئات عليه بعقد الهدنة من آحاد الرعية؛ عملًا بقول الجمهور، وعند شغور الزمان من الإمام يجوز لقيادة الجهاد الإسلامي السياسية أو لقيادة المقاومة الإسلامية السياسية؛ إعمالًا لقول الحنفية، ولأنّ القيادة السياسة للجهاد والمقاومة تحلّ محلّ الإمام عند غيابه وعند غياب مؤسسة أهل الحل والعقد، أمّا هؤلاء الحكام المستبدون فلا حلّ لهم ولا عقد، ولا شرعية لما يصدر عنهم من القرارات؛ لأنّ فاقد الشرعية لا يعطيها.  

الشرط الرابع: ألا يكون العقد مؤبدًا: فقد اختلف الفقهاء في المدة الجائزة لعقد المهادنة، ولكنهم لم يقولوا بتأبيدها، والذي يترجح – والله أعلم – أن عقد الهدنة يُرَدُّ إلى نظر الإمام؛ فينظر فيه بحسب حاجة المسلمين، وليس ملزماً بمدة معنية لا يزيد عليها، وله أن يوقته بمدة، وله كذلك أن يعقده مطلقا دون توقيت بمدة، فإن وقته كان لازما لا يُنقض إلا بنبذ العقد إليهم عند خوف الغدر منهم، وإن كان مطلقاً كان جائزاً، والإطلاق لا يقتضي التأبيد؛ لأن معنى الإطلاق أن «يقول: نكون على العهد ما شئنا، ومن أراد فسخ العقد فله ذلك إذا أعلم الآخر ولم يغدر به»([30])، وهذا هو ما رجحه ابن تيمية ابن القيم([31]).

أثر الشروط في التمييز بين المشروع والممنوع

إن الذي يتابع أحداث معاهدا السلام العربية الإسرائيلية ابتداء من كامب ديفيد ومرورًا بمدريد وانتهاء بأوسلو، وينظر في بنودها، ويطالع نصوصها، ويتأمل نتائجها يجزم بالنظرة العابرة بأنها مصادمة لمقاصد الشريعة، فإذا ما أمعن النظر الفقهي من خلال عرض هذه الاتفاقات على الشروط التي قررها العلماء فسوف يتبين له أنها لم تستوف شرطا واحدا من شروط صحة عقد الهدنة في الإسلام.

    فلم يتوفر في واحدة من هذه المعاهدات شرط الأهلية؛ لأن الذي يتولى عقد معاهدة السلام اليوم حكام لا شرعية لهم، نبتوا في ظلِّ جَبْرية صَلْعاء خشوم تَتَسَوّل الشرعية في المحافل الدولية الغارقة في النفاق الدوليّ، وتفتقدها في عمق الأمة العربية، التي لم تقم باختيار حاكم واحد من حكامها في حياتها المعاصرة ولو مرة واحدة، وبرغم عدم شرعية هذه الأنظمة وعدم أحقيتها بتمثيل شعوبها، سنتجاوز هذا ونفترض أنّ هؤلاء حكامٌ بحكم الواقع المفروض علينا شِئْنا أمْ أَبَيْنا، فبرغم ذلك – الذي يُعَدُّ تَنَزُّلاً غير مقبول في الأصل – لم يتوفر في واحدة من هذه المعاهدات شرط الأهلية؛ لأنّه في ظل انقسام الأمة إلى كيانات متعددة فإن عقد الهدنة لا يمكن أن يصح شرعًا إذا عقده واحد من الحكام بانفراده، إلا إذا كان أمر السلم يخص الإقليم الذي يحكمه فقط ، ولا ينعكس على غيره من بلاد الإسلام، والعدو الإسرائيلي ليس عدوا لإقليم واحد، وقضية الصراع مع هذا الكيان لا يمكن أن تتجزأ؛ ليس لأنها تضر جميع الأطراف وحسب، ولكن لذلك ولأمر آخر أكبر وأقدم، وهو أنها قضية صراع على الدين والمقدسات، لذلك لا يصح أن يعقد الصلح مع إسرائيل حاكم واحد بانفراده، ولا يصح أن تكون المحادثات ثنائية بين إسرائيل وكل طرف عربي على حدة؛ لأنها قضية واحدة، ولأن العدو واحد، ولأن الضرر واقع على الكل، يقول الدكتور الدريني([32]): «وعلى هذا فالإسلام يوجب إذا تعددت دوله في أقاليمه المختلفة، ألا ينفرد رئيس دولة إسلامية منها بعقد السلم مع العدو المشترك دون سائر رؤساء الدول الإسلامية، توحيدا للسياسة الخارجية، فقد جاء في الصحيفة ما نصه: « وَأَنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدٌ، وَلا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ »([33]).

    ثم إن هناك أمراً هاما مبنيا على وجوب الشورى وعلى أنها في نظام الحكم الإسلامي ملزمة للحاكم، هذا الأمر هو أن معاهدة السلام تتطلب لكي تتمتع بصفة اللزوم والنفاذ أن يوافق عليها أهل الشورى([34])، وأهل الشورى الذين يُرَدُّ إليهم أمر معاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي ليسوا محصورين في إقليم واحد ، وإنما هم مبثوثون في جميع أنحاء العالم الإسلامي، في أنظمة حكمه.

    أمّا المقاومة الفلسطينية فالأمر أمرها؛ لأنّها تدافع عن بلادها هي، وقد جاءت في سياق تاريخي شاغر من السلطان الشرعيّ، ولا توجد للأمة مؤسسة جامعة لها شرعية، وهي الجهة الوحيدة في الأمة القائمة بأمر الله تعالى في الرباط والجهاد، فإلى قيادتها يرد أمر الحرب والسلم فيما يتعلق بالقضية التي تخصها، فشرط الأهلية متوفر لها بالتمام والكمال.

    وأمّا شرط تحقق المصلحة فبالنسبة لجميع معاهدات السلام العربية الإسرائيلية لا أعتقد أنّ الأيام والأحداث تركت للناظر في المصلحة مساحة للاجتهاد، فكأنّ مجرى الأحداث لسانُ جهيزةَ الذي قطع قولَ كلِّ خطيب، فها هي إسرائيل في المنطقة دولة عظمى، متربعة على عرش الشرق الأوسط، وقد مدت أذرعها الإخطبوتية في أحشاء الأمة الإسلامية، وصارت لكل دولة من تلك الدويلات العربية الهزيلة المتهافتة سَمْعَها الذي تسمع به وبَصَرَها الذي تبصر به، ولو شاءت لغزتهم جميعا ولطوتهم عن آخرهم؛ فهي اليوم تملك من السلاح والعتاد والمعلومات ما لا تملكه هذه الدويلات مجتمعة، ولكنّها تعرض عن ذلك بمحض إرادتها، وربما لو كان هناك ما يعيقها عن ذلك فليس إلا هذه المقاومة الصامدة المنصورة التي لم يضرها خذلان من خذلها؛ فلم تزل تقاتل حول بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس.

    لقد بدأت مكاسب إسرائيل الكبرى بذلك الاعتراف الرسميّ من دول المواجهة مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، فلم تعد إسرائيل في عرف هؤلاء جميعا كيانا صهيونيا غازيا غاصبا محتلاً، بل لم تعد عدواً، وإنّما صارت دولة لها احترامها وسيادتها على ما تزعم أنّها أراضيها، وهذا في الواقع وفي ضمير الأجيال الحالية والآتية له أثره الكبير في سلب الشرعية عن أيّ مقاومة أو نضال أو جهاد، ثم استمرت المكاسب تصب في جانب إسرائيل بعمليات التطبيع؛ حيث تغلغل الكيان الصهيونيّ في أحشاء الأمة في جميع المجالات السياسية والتعليمية والاقتصادية والزراعية؛ ليجني المكاسب ونجني نحن الخسائر.

    إنّ المصلحة الشرعية التي تصورها العلماء وتحدثوا عنها كشرط لصحة عقد الهدنة لا علاقة لها بأفكار هؤلاء الحكام وطموحاتهم الصغيرة الضيقة، فهؤلاء الحكام ينشدون استقرارا لعروشهم ، وسلما يريحهم من القيام بما يجب عليهم وعلى الشعوب المسلمة من الجهاد لدفع المعتدي ومنع فتنته الواقعة والمتوقعة؛ لذلك عندما فسر العلماء المصلحة ضربوا لها أمثلة متعلقة باستراتيجية الجهاد الذي يجب أن يستمر ولا يتوقف، فإن كان بالمسلمين ضعف وبعدوهم قوة لا يقدرون عليها؛ انتفعوا بالهدنة في استعادة قواهم واستجماع قوتهم لمواصلة الجهاد، وإن كان بهم قوة ولكن يأملون في عدوهم أن يسلم فيسلم بإسلامه أمم وشعوب؛ اتخذوا من الهدنة ذريعة للتسلل إلى العقول والقلوب، وأحلوا قوة البيان محل قوة السنان، وهكذا.

   واليوم ترتب إسرائيل لبناء الهيكل على أنقاض المسجد، ولفرض الدين الإبراهيمي على الشرق الأوسط، ولصفقة القرن التي تفضي إلى تفردهم بالقدس عاصمة موحدة، وتفردهم بالقيادة للمنطقة برمتها، وفي سبيل ذلك تخطو خطوة أوسع في التطبيع مع دول عربية في المحيط البعيد عن المواجهة؛ لكي تكون حلفا تقوده بنفسها في مواجة أي قوة أخرى في المنطقة يمكن أن تكون عائقا أمام مشروعها الكبير، ويومها سيكون نتنياهو هو لورانس العرب الجديد؛ فأين هي المصلحة.

    أمّا المقاومة فقد رأيناها قد استهدفت من الهدنة مصالح عظيمة جدًا، منها إدخالالمساعدات وتبادل الأسرى بواقع ثلاثة لنا لكل واحد لهم، ونطمع في الهدن القادمة أن ترتقي المقاومة في شروطها إلى تحقيق مصالح أكثر بأن تشترط على العدو أن يوقف الحرب نهائيّا وأن يقوم بتبييض السجون وتصفيرها من السجناء، وان يتوقف عن مخطط التقسيم الزماني والمكاني، وغير ذلك من المكاسب.

    وأمّا عن شرط عدم اشتمال عقد الهدنة على شرط فاسد، فإنّنا لو تأملنا معاهدات السلام العربية الإسرائيلية لوجدناها مشتملة على جملة كبيرة من الشروط الفاسدة، مما يمهد للقول بعدم جوازها وعدم صحتها، من هذه الشروط الفاسدة: أن المعاهدة تضمنت ضرورة الاعتراف الكامل بدولة إسرائيل «وهذا يُعَدُّ تقريرا للغاصب في البقاء على اغتصابه لأرض فلسطين وللأماكن المقدسة»([35])، ومنها أنَّها تضمنت اتفاقا على قيام علاقات طبيعية كتلك القائمة بين الدول التي هي في حالة سلام دائم، وهذا الشرط هو الذي فتح الباب على مصراعية لإسرائيل كي تعشش في ضمير الأمة وفي كيانها، فتفسد الأخلاق والثقافة والاقتصاد وغيرها من مجالات الحياة الإسلامية، ومنها النصّ على وجوب حماية أمن إسرائيل وتأمين حدودها، وفي هذا الشرط إلغاء لواجب جهاد الدفع ضد عدو محتل غاصب، وفيه التمكين للمشروع الصهيونيّ، حيث يعطي إسرائيل الفرصة لتنطلق في ظل هذا الأمن إلى غايتها العظمى، ومنها ما اشتملت عليه بعض هذه المعاهدات من اتفاق على التعاون الأمني، ذلك التعاون الذي يستهدف بالدرجة الأولى  المقاومة الإسلامية، وهو من قبيل التعاون مع العدو على العدوان، ومنها ذلك الشرط الذي يفرض على المتعاقدين عدم الانصياع إلى أيّ معاهدة أو اتفاقية أخرى تتناقض معها، وقد اشتملت جميعها على هذا الشرط، الذي يعد ناسخا لكل الاتفاقيات والعهود التي بين العرب أنفسهم؛ بما في ذلك اتفاقية الدفاع المشترك؛ لذلك لا تستطيع الدول العربية سواء منها دول المواجهة أو غيرها أن تتحرك لدفع العدوان عن غزة، بل لا تستطيع دولة من الدول الموقعة على الاتفاقيات تلك أن تهدد مجرد تهديد باستخدام القوة ضد العدوان الإسرائيليّ الذي تكرر على غزة والقطاع والقدس، والذي يمارس الاستيطان ويتوسع فيه يوما بعد يوم بالمخالفة لكل المواثيق بما في ذلك تلك الاتفاقيات المتهالكة، « ومن أمثلة الشروط الفاسدة في نظر الإسلام: اشتراط نزع سلاح المسلمين كلا أو بعضا، أو اشتراط ضرائب دائمة في أموالهم، أو اشتراط بسط سيادة العدو على بعض الأقاليم الإسلامية ([36])، ومنها «ما حدث من الحكومة المصرية من التنازل عن سيطرتها على الأراضي التي كانت خاضعة تحت يدها حتى تم احتلالها عام 1967 كقطاع غزة»([37])، ومن أمثلتها أيضا شرط ضرورة التطبيع الثقافي، ذلك الشرط الذي ينافي عقيدة الولاء والبراء، وينتج عن العمل به طمس الشخصية الإسلامية ([38])، هذه الشروط الفاسدة تجعل عقد الصلح محرما؛ لعدم مشروعية محل العقد ([39])، لذلك أفتى كثير من علماء الأزهر ببطلان الصلح مع إسرائيل على التنازل عن جزء من أرض فلسطين([40]).

    وأمّا شرط عدم التأبيد فمما لا شك فيه أنّ جميع المعاهدات العربية الإسرائيلية نصت نصا واضحا على التأبيد في الديباجة التي تعد من صلب المعاهدة، واشتملت في موادها على نصوص تؤكد هذا المعنى باحترام الحدود الدائمة، واستقلال كل طرف وسيادته على أراضيه، مع أنّ فحوى المعاهدات وسياقاتها التاريخية والواقعية تؤكد معنى التأبيد دون حاجة إلى نصّ، فالتأبيد في كل هذه المعاهدات مقطوع به.

النتيجة

ونخلص مما تقدم أنّ جميع معاهدات السلام واتفاقيات التطبيع التي وقعت بين العدو الصهيونيّ وبين الدول العربية باطلة؛ لأنّها جميعًا لم تسعد بشرط واحد من شروط صحة الهدنة، وبطلانها يعني أنّها لا تلزم الأمة، ومن حقّ الأمة نقضها في أيّ وقت شاءت، أمّا الهدن التي عقدت بين حماس والصهاينة فهي إلى الآن كلها هدن مشروعة، وندعو الله أن تستمر على هذه الحال، وهم اهل لذلك، والله المستعان.

ثبت المراجع

  • أحكام أهل الذمة، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله(ابن القيم)، دار ابن حزم، بيروت الطبعة الأولى، 1418- 1997 تحقيق: يوسف أحمد البكري، شارك توفيق العاروري
  • أحكام معاهدة السلام في الفقه الإسلامي والقانون الدولي، د. ياسر السيد محمد رسالة دكتوراه، من كلية الشريعة والقانون 2007.
  • الأم محمد بن إدريس الشافعي – دار المعرفة بيروت.
  • البحر الزخار – أحمد بن يحيى بن المرتضي – دار الكتاب الإسلامي – بيروت
  • بداية المجتهد ونهاية المقتصد – اربن رشد الحفيد – دار الحديث – القاهرة – ط 2004م
  • بدائع الصناع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاسائي، دار الكتب العلمية، بيروت
  • التاج الإكليل لمختصر خليل – محمد بن يوسف العبدري – دار الكتب العلمية بيروت
  • التاج المذهب لأحكام المذهب – أحمد بن قاسم العنسي الصنعاني – مكتبة اليمن،
  • تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق عثمان بن عليّ الزيلعيّ – دار الكتاب الإسلامي بيروت
  • تحفة المحتاج في شرح المنهاج، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي، دار إحياء التراث العربي
  • الجوهرة النيرة لأبي بكر بن محمد بن عليّ الحدادي العبادي – المطبعة الخيرية.
  • حاشية الجمل – سليمان بن منصور العجيلي المصري – دار الفكر بيروت،
  • حاشية الصاوي على الشرح الصغير – أبو العباس أحمد الصاوي – دار المعارف القاهرة مصر.
  • حاشيتا قليوبي وعميرة أحمد سلامة القليوبي وأحمد البرلسي عميرة – دار إحياء الكتب العربية بيروت
  • خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم د. فتحي الدريني  
  • درر الحكام شرح غرر الأحكام محمد بن فرموزا منلا خسرو – دار إحياء الكتب العربية – بيروت – لبنان.
  • زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر الزرعي أبو عبد الله (ابن القيم) مؤسسة الرسالة، بيروت طبعة 14-1407-1986، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، عبد القادر الأرناؤوط
  • شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام جعفر بن الحسن الهذلي- مؤسسة مطبوعاتي إسماعليان
  • شرح السير الكبير محمد بن أحمد بن ابي سهل السرخسي، الناشر: الشركة الشرقية للإعلانات
  • شرح مختصر خليل محمد بن عبد الله الخرشي- دار الفكر بيروت
  • شرح منتهى الإرادات منصور بن يونس البهوتي -عالم الكتب بيروت
  • صبح الأعشي في صناعة الإنشاء للقلشندي أحمد بن عليّ ت: د يوسف علي طويل – دار الفكر دمشق ط أولى 1987
  • العناية شرح الهداية محمد بن محمد بن محود البابرتي – دار الفكر بيروت
  • الفائق في غريب الحديث محمود بن عمر الزمخشري ت على محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم 2/26 دار المعرفة بيروت،
  • فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين – إصدار جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت، ط1، 1410هـ.
  • الفروع محمد بن مفلح بن محمد المقدسي – عالم الكتب، بيروت
  • الفتاوى الكبرى احمد بن عبد الحليم بن تيمية، دار المعرفة، ط 1، 1386، تحقيق: حسنين محمد مخلوف
  • الكافي لموفق الدين ابن قدامة – دار إحياء الكتب العربية القاهرة
  • كشاف القناع عن متن الإقناع منصور بن يونس البهوتي- دار الكتب العلمية بيروت، شرح منتهى الإرادات منصور بن يونس البهوتي – عالم الكتب
  • المبسوط شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي، دار المعرفة، بيروت، ط 1406
  • المحلي بالآثار – علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري أبو محمد – دار الآفاق الجديدة، بيروت
  • المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د. إبراهيم الديك  
  • المعجم الوسيط – مجمع اللغة العربية القاهرة ، مكتبة الشروق الدولية ط 4، 2005م
  • مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج – شمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني – دار الكتب العلمية – الطبعة: الأولى، 1415هـ – 1994
  • مفاهيم ودروس من صلح الحديبية، د. محمد بن عبد الله الشباني، مجلة البيان عدد 87  
  • المهذب في فقة الإمام الشافعي أبو اسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي – دار الكتب العلمية بيروت
  • نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – محمد بن شهاب الدين الرملي  

([1])انظر لسان العرب (9/58-59)، والمعجم الوسيط (ص978)، وصبح الأعشي في صناعة الإنشاء للقلشندي أحمد بن عليّ ت: د يوسف علي طويل (14/2) وما بعدها – دار الفكر دمشق ط أولى 1987

([2]) الفائق في غريب الحديث محمود بن عمر الزمخشري ت على محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم 2/26 دار المعرفة بيروت، لسان العرب (4/662).

([3]) مغني المحتاج (6/86)، وانظر تحفة المحتاج (9/304).

([4]) المبسوط للسرخسي (10/86)، بدائع الصنائع (7/ 108)، ونصب الراية (4/239)، شرح السير الكبير (4/1689) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 3/245، العناية شرح الهداية 5/455 ، الجوهرة النيرة 2/259  

([5]) التاج والإكليل 4/ 605، شرح مختصر خليل محمد بن عبد الله الخرشي (3/ 150) ، بداية المجتهد (1/512)، أشرف المسالك (1/113) حاشية الصاوي على الشرح الصغير – أبو العباس أحمد الصاوي 2/317 دار المعارف.

([6]) أسنى المطالب (4/224)، مغني المحتاج (6/86)، تحفة المحتاج (9/304) حاشية الجمل 5/228 – نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 8/ 106

([7]) الإنصاف (3/211)، كشاف القناع (3/111) ، شرح منتهى الإرادات (1/655)  

([8]) التاج المذهب لأحكام المذهب (4/449) مكتبة اليمن، البحر الزخار – أحمد بن يحيى بن المرتضي (ص446-447)  

([9]) شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام جعفر بن الحسن الهذلي(1/303-304) مؤسسة مطبوعاتي إسماعليان

([10]) جوهر النظام في علمي الأديان والاحكام للمسالمي (ص603).

([11]) انظر: سبل السلام (1/202)، الدرر البهية (1/339)، نيل الأوطار

([12]) انظر: أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224)، البحر الزخار (ص446)، والموسوعة الفقهية الكويتية (25/232).

([13]) انظر المحلي لابن حزم (7/357-358).

([14]) تفسير الطبري (م 6 ج 10 ص 43-44).

([15]) رواه البخاري ك الشروط باب الشروط في الجهاد … برقم”2543″(ج5ص2112).

([16]) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى برقم”1641″(ج2ص927)بإسناد حسن رجاله ثقات عدا محمد بن سعد الهاشمي وهو صدوق حسن الحديث، واورده ابن جرير الطبرى في تاريخه برقم”651″(ج4ص1521)،والذهبي في تاريخ الإسلام برقم”1502″(ج4ص1727).

([17]) المبسوط للسرخسي 10/86 وانظر: درر الحكام شرح غرر الأحكام 1/284  

([18]) شرح مختصر خليل للخرشي (150).

([19]) أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224) وانظر: الأم محمد بن إدريس الشافعي 4/200  

([20]) كشاف القناع (3/112).

([21]) انظر: بدائع الصناع للكساني (108)، وأشرف المسالك (1/113) التلقين (1/238).

([22]) انظر المحلي: (7/357-358).

([23]) شرح السير الكبير (5/ 1750).

([24]) شرح مختصر خليل، للخرشي (ص151).

([25]) التاج الإكليل (4/605).

([26]) أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224).

([27]) انظر: الكافي لموفق الدين ابن قدامة (4/231) دار إحياء الكتب العربية القاهرة

([28]) بداية المجتهد (1/283)، المهذب (2/332) حاشيتا قليوبي وعميرة 4/238 ،الفروع محمد بن مفلح المقدسي6/253 – شرح منتهى الإرادات 1/655 ، مطالب أولي النهى 2/585، التاج المذهب 4/449

([29]) بدائع الصنائع (7/108).

([30]) أحكام أهل الذمة،  (2/874).

([31]) مجموع الفتاوى (29/140) – القتاوى ابن تيمية، (5/542)  – زاد المعاد (2/875) – أحكام أهل الذمة، (2/874).

([32]) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم د. فتحي الدريني (ص356).

([33]) رواه القاسم بن سلام في كتاب الأموال برقم”440″(ج1ص279)، وابن زنجويه في الأموال برقم”574″(ج1ص322) والحديث إسناده يحسن إذا توبع؛ لأنّ رجاله ثقات عدا عبدالله بن صالح الجهني وهو مقبول، وقد أورده حميد الله في الوثائق السياسية (ص59-62).

([34]) انظر: أحكام المعاهدات في الشريعة الإسلامية، د. الغنيمي (ص65-66).

([35]) أحكام معاهدة السلام في الفقه الإسلامي والقانون الدولي، د. ياسر السيد محمد (ص640)، رسالة دكتوراه، من كلية الشريعة والقانون 2007.

([36]) المعاهدات في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام، د. إبراهيم الديك (ص164).

([37]) أحكام معاهدة السلام (ص663)، بتصريف بسيط.

([38]) مفاهيم ودروس من صلح الحديبية، د. محمد بن عبد الله الشباني، مجلة البيان عدد 87 (ص8).

([39]) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم (ص361).

([40]) ر: «فتوى علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين (ص15)» وما بعدها، جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت، ط1، 1410هـ.