الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
الأزمة! .. ما الأزمة؟! وما أدراك ما الأزمة؟! لقد فَتَحْتَ أيها الأحمق المدفوع بالنزق والطيش بابا كان موصداً، ودفعت إلى ساحة الصراع موضوعاً كان خاملا خامداً؛ حيث ذَكَّرْتنا وذَكَّرْت كل من يصطلون بناركم أنّ في حياة البشرية أزمةً جوهرية، تنبع منها كل الأزمات، وذلك عندما انْبَعَثَتْ من جوفك – انبعاثَ البَخَر الكريه من فم الخبيث – هذه الجملة: (إنّ الإسلام يعيش أزمة في الأرض كلها)، لَكَأَنّك أردت أن ترمي البومة فأصبت اليمامة! أو تكسر الشوكة فقصفت الزهرة! حيث أطلقت كلاما يصدق على حال عضال، ولكنك صرفته إلى جهة بريئة منه براءة الرُّشْد من الخَبَال والهدى من الزيغ والضلال.
الوحيد من بين جميع الأديان والمذاهب والملل والنحل الذي لا يعيش أزمةً نابعة من ذاته هو الإسلام، كل ما يعتنقه الأحياء الذين تشرق عليهم الشمس وتغرب من تصورات وأفكار وأيديولوجيات وعقائد يمثل أزمات حقيقية تحياها البشرية، ويتسبب في كوارث إنسانية لا حد لكثرتها، ولا نظير ولا نِدَّ لأثرها السيء على بني الإنسان، خلا الإسلام العظيم، الفارقُ البارقُ بين الإسلام وكل هذا الركام والحطام هو أنّه وحده الذي إذا غاب عن واقع الحياة حَلَّت بها الأزمات والنكبات، هذه حقيقة أسطع من الشمس وألمع من البدر وأَظْهَرُ وأَبْيَنُ من شعاع الضحى.
الأزمة التي يعيشها الإسلام ويعيشها كل من جاء الإسلام ليخرجه من الظلمات إلى النور هي أنت وأمثالك، الأزمة التي يعيشها الإسلام وكل المخاطبين بالإسلام هي أنتم وأسلافكم، الأزمة ليست نابعة من الإسلام ولا من تعاليم وأحكام الإسلام ولا من تراث وتاريخ الإسلام، الأزمة تصدر منكم وتنبع من أصلكم لِتُلْقِي بثقلها وكَلْكَلِها على الإسلام وأهله، ثم على من جاء الإسلام لتحريرهم من الطغاة من أمثالكم ومن أمثال الذين صنعتموهم على عينكم، الأزمة هي حضارتكم المأزومة، التي عرفَتْ كيف تُورِدُ البشرية الرَّدَى ولم تعرف كيف تسلك بها سبيل الهدى، التي لم تزدد بعلمها بالطبيعة إلا كفرا بالله، ولم تزدد بمعرفتها بالإنسان إلا تعطيلا لوظيفته في الحياة، التي في ظلها يستطيع الطفل الوليد أن يجيب عن آلاف الأسئلة عن خلق الإنسان، بينما لا يستطيع آلاف الحكماء أن يعرفوا لماذا خُلق هذا الإنسان!!
دعني أيها الكائن المسكون بالأدواء أضع أصبعك على موضع الداء، إنّ منبع البلاء الذي تَفَجَّر في تربتكم النَّكِدَة وسرى منها إلى العالم كله هو هذه الكتلة الملْتَبِسة المكونة من صليبية حاقدة وعلمانية مُتمردة، لا يستطيع العقل أن يستوعب كيف اجتمع هذان الضدان في ثقافتكم وكيف انصهرا وتمازجا وتآلفا برغم ما بينهما في الأصل من تنافر وتباعد، لم يكن عندنا ما كان عندكم ولا شهدنا ما شهدتم، يوم أن بالغت الكنيسة في طغيانها واستبدادها ومطاردتها لكل شاردة وواردة تَعِنُّ للعقول، حتى أحصت على الناس الأنفاس وألقت القبض على الخواطر والهواجس مع أصحابها الذين اقترفوها وتلبسوا بها، وحرقت العلماء تحريقا وقتلت المفكرين ودعاة الحرية تقتيلا؛ فكانت ردة الفعل على الجانب الآخر غاية في الشطط: علمانيةً تقيم الحياة على أساس من رفض ألوهية الله، وحداثةً تقول بموت الإله، وإلحاداً ينبذ الدين كله نبذ النواة، ثم لم يعرف الخلق كيف امتزج هذا الجديد بذاك القديم، وكيف تعايشت الصليبية بحقدها الأسود مع العلمانية بظلامها الأنكد، وكيف تضخم هذا الورم الخبيث ليصيب الجسد الإنساني كله بالشلل والكلل؟!
إنّ الميزة التي تفرد بها هذا الدين والتي تعد منبع الفضائل ومنشأ المقاصد هي أنّه دين الفطرة، فالإنسان مفطور على ما جاء به الإسلام، ومن ثمّ فكل ما جاء به الإسلام منسجم مع طبيعة الإنسان غاية الانسجام، وما من شيء يكون للإنسان مصلحةً حقيقيةً في دنياه أو أخراه إلا وهو في دين الله ظاهرٌ بلا خفاء وبارزٌ بلا غموض أو جفاء، وقد أخبر القرآن الكريم – وكفى به بيانا وفرقانا – أنّ الفطرة التي فطر الله الناس عليها والنشأة التي ابتدأ الله الخلق عليها هي الموافقة لهذا الدين القيم الحنيف الذي يجب أن يقيمَ الناسُ وجوهَهُم إليه مُنِيبين لله تعالى؛ فقال عزّ وجلّ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم: 30)، ومن هنا يبدو الفارق الجوهريّ بين الإسلام وغيره، وهو أنّ الابتعادَ عن الإسلام وتقديمَ غيره عليه مصدر الأزمات التي يحياها الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
لقد أَثبتُّم بما ارتكبتم من جرائم في حق الإنسانية عبر التاريخ المعاصر كله أنّكم لست مؤهلين للحديث عن أيّ دين ولا أي مبادئ إنسانية؛ فكيف سولت لكم أنفسكم أن تتناولوا الإسلام العظيم بحديث فيه لمز وغمز وطعن، وهل نسي الفرنسيون ما فعلوه بالجزائر وغيرها من المستعمرات في قارات العالم القديم والجديد على السواء، مِنْ لَدُنْ الحملات الصليبية التي استبطنتها الكشوف الجغرافية ومرورا بحملات الاستعمار التي تظاهرت بالحماية والانتداب وتقاسمت العالم الإسلاميّ مع شركائها في الطغيان، وانتهاء بالصراع الدنيء على ثروات الأمم ومقدرات العباد في أفريقيا وغيرها.
وليتكم إذْ طَحَنْتُم الشعوب الفقيرة، وقُمْتُم بامتصاص خيراتها من أجل تحقيق شيء من الرفاهية لشعوبكم بهدف إغراقهم في الغفلة عمّا تمارسه الرأسمالية من نهب وسلب واستبداد واستعباد؛ ليتكم إذ فعلتم ذلك وَضَعْتُم ضمانات لمستقبل الإنسانية سواء في بلادكم أو في غير بلادكم، الإنسانية التي تصرخ الآن من ثقل وطأة الرأسمالية الطاغية ومن تغولها على الدولة المتغولة أصلا على الإنسان! لقد تعالت الصرخات الْمُنذرة بالخراب واليباب، والمنددة بالرأسمالية المتوحشة والديمقراطية الزئبقية المتلونة والدولة المدنية المتألهة، والْمُتَنَدِّرة من الصعود الطاغي لليمين المتطرف في بلاد تَدَّعي أنها علمانية، والْمُنذرة بكارثة تحل وشيكا على الإنسانية بسبب ممارسات هذا الاتجاه الذي جمع بين الحقد والهوج والطيش والعجلة والسطحية والرعونة في أحط أنموذج للتكتلات السياسية في تاريخ الإنسانية.
لقد وقف الناس على حقيقة الادعاء بسيادة الإنسان وألوهية العلم الحديث، وذلك في جائحة كورونا، لقد سقطت دعوى الحضارة المعاصرة بأنّ الإنسان سيد هذا الكون، وانكشف حجم الزيف الذي مارسته وهي تعلن عن انتهاء دور الإله؛ لتدفع البشرية إلى مستنقع من الغرور الزائف والكبرياء المقيت، ولقد اهتزت الإنسانية من أعماقها داخل كل إنسان؛ ووقفت مع نفسها وقفة كفرت بعدها بكل ما تقولون وتدعون أيها الكاذبون الدجالون، وعمّا قريب سترى الناس يبحثون وينقبون عن الحقيقة، ويوم أن يجدوها في هذا الدين العظيم فلن يمنعهم من التشبث بها تلك الأنياب الغليظة التي تطبقون عليها شفاهكم إلى حين، (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون).