الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليس بوسع أحد لا يندرج اسمه ضمن جماعة الإخوان المسلمين أن يدعي الانتساب إليها، لكن بوسع كل أحد أن يدعي الانتساب إلى الإمام البنا، ولا يملك أحد داخل الجماعة أو خارجها أن يرد دعواه، إذا كان هو في ذاته وحياته يؤمن بما بَثَّه الإمام في الأمة من تعاليم ويجتهد في الالتزام بها؛ ذلك لأنّ الانتساب إلى العظماء لا يكون بالادعاء، وإنّما يكون بالاتباع والاقتداء، كما قال تعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (آل عمران 68)، وعندما أسس الإمام الجماعة أرادها أن تكون للأمة لا لنفسه ولا لها، فلا هو منحصر فيها ولا هي محتكرة له.
ولعل هذا الاستهلال الذي يبدو خشنا هو الأنسب للمقام؛ فنحن أمّة تتوق في هذا التيه الذي ضُرب عليها إلى صوت الحادي، الذي صار بين صياح الموالين ونباح المناوئين ضعيفا متهافتاً لا يُفْصِحُ ولا يُبِيْن.
إنّه لمن الحق والعدل أنّ نُقِرَّ ونُقَرِّرَ أنّ الإمام البَنَّا كان من كبار المجددين، الذين يصدق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»([1])، وإن كنّا نعتقد أنّه لم ينفرد بالتجديد؛ إذ إنّ زمان الاجتهاد المطلق قد ولّى، ويلزم للقيام بالاجتهاد والتجديد قياما يغطي شُعَب الإسلام ألا ينفرد به شخص واحد، وليس في الحديث ما يحتم انفراد المجدد بالتجديد، لذلك قيل: “لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط”([2]).
وإذ نعاني تحولات حادة في مسيرة العمل للإسلام، وإذ تعاني الأمّة كلها مخاضاً هائلاً يبشر بميلاد كبير لحضارة إيمانية ترث كل تلك الحضارات التي أفلست من كل شيء إلا المادة والشهوة واللذات الزائفة، وإذ تمرّ المنطقة برمتها بمنعطف غاية في الشدة والحدة، وإذ صار المسلمون في هذه الأرض غرباء قد رماهم المجتمع الدولي كله عن قوس واحدة، وإذ سالت الدماء وتناثرت الأشلاء وتكالب الأعداء؛ وجب علينا العودة إلى درب هؤلاء المجددين العظماء، الذين أثروا هذا القرن بعلمهم وعملهم وعطائهم الباعث، من أمثال البنا وسيد قطب والموددي وغيرهم ممن شملتهم حقبة يتسع له عقد واحد في مطلع القرن المنصرم، وذلك ريثما يهيء الله للأمة مجددين ينفخون فيها الروح من جديد، وهذه إحدى فوائد علمنا بالسنة الإلهية المشار إليها في الحديث الآنف الذكر، وهو حديث صحيح بلا ريب.
إنّ حاجتنا إلى العودة إلى عطاء هؤلاء الكبار أشد من حاجة الغريب إلى وطنه، ولقد تغربنا كثيرا عن منابعنا الصافية، حتى صار البعض منّا يبحث عن تأويلات يخرج بها من التقيد بأقوال لأئمتنا يحتم العقل أنّه لا مخرج لنا إلا بأن نأخذها بلا تأويل، وأفعال ومواقف لهم يتطلب الواقع أن نقتدي بهم فيها بلا تردد ولا تعطيل، فلست أدري بأي سبب ننتسب إليهم إن لم يكن الانتساب ليس إلا الانتماء الحركي للجماعة أو الحزب؟!
هذه فائدة كبيرة يجب أن نبادر إلى تحصيلها، أمّا الفائدة الثانية فهي السعي للتجديد؛ فإنّ التجديد لا يأتي بغتة كانفجار البركان، وإنّما يأتي المجدد على ثبج أمواج متتابعة من المحاولات والتجارب، كما أنّ المهدي لن يخرج في أمة تغط في النوم وتغرق في السبات، وإنّما يكون خروجه تتويجاً لأجيال توارثت حمل الراية جيلا بعد جيل، وفصيلا في إثر فصيل.
والتجديد هو بعث الأمة من جديد، وما تتطلبه عملية البعث من تجديد في الخطاب الدعوي والشرعي والسياسي والفكري؛ بما يحقق عالمية الإسلام وبقائه على الدوام، ومن تجديد في علوم الشرع ينفي عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ومن تجديد في الهمم والمقاصد والعقول والسواعد؛ بما يرتقي بالأمّة إلى مستوى المغالبة والمواثبة التي تتطلبها النهضة القادمة، هذا هو التجديد المفيد، أمّا ما يدعونه تجديداً ويقصدون به الخروج على أحكام الشريعة الثابتة فهذا تخريب وعربدة ومضرة وفسدة.
لقد كان الإمام الشهيد روحا سارية في أوصال الجيل كله، وقلبا نابضا في جسد الأمة بأسرها، وكان استشهاده درسا عظيما لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فهو الرائد الذي امتلك رؤية ثاقبة بعيدة المدى تجاوز بها الخلافات الضيقة بين المذاهب والأحزاب والفرق والجماعات إلى قضايا الأمة الكبيرة وإلى الصراع الأكبر مع القوى التي تستهدف اقتلاع الإسلام من جذوره، وهو القائد الذي ساس الناس بالحب والقدوة والشورى الحقيقية الفعالة، وهو العالم المجتهد الذي ظل رابضاً بثاقب فكره عند رؤوس القضايا وأمهات المسائل؛ إذ في تحريرها وتقريرها خلاص كبير من العقد والمعضلات، وهو الداعية الذي اتسع صدره للناس حتى صار سكناً آمنا وظلا وارفاً، إنّه مَن عَلَّم الجيل أنّه لا فلاح لنا في الدنيا والدين إلا بالعلم المدعوم بالفهم، ولا قيمة للعلم والفهم إلا بالعمل والسعي، ولا جدوى من ذلك كله إلا بالإخلاص وصلاح النية.
وكذلك كان أمثاله من المجددين في عصره، فهل نحن على استعداد لإحياء الذكري عن طريق تجديد العهد معهم؟ إن كنّا كذلك فالذكرى لنا، وإن كنّا غير ذلك فالذكرى شاهدة علينا، ولا معنى لمن يقيم ذكرى تشهد عليه بأنّه مُنْبَتُّ الصلة عن صاحبها.
رحم الله الإمام رحمة واسعة، وتقبله وإخوانه الذين لحقوا به بإحسان في الشهداء، وردّ الله شاردنا غلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
([1]) سنن أبي داود برقم (4291)
([2]) فتح الباري(13/ 295)