مع ميلاد فجر النهضة، لم يكن أمام البشرية إلا أن تخوض غمار الحرب على كل ما يتنافى مع كرامة الإنسان، وأن تدفع الثمن باهظًا في سبيل استنقاذ الإنسان من أَسْر الذلّ والقهر، ومَنْحِهِ الحريةَ المسلوبة والكرامة المنهوبة، لم يكن بإمكان البشرية أن تصبر أكثر مما صبرت، ولا أن تسكت أكثر مما سكتت؛ بعد أن انحدرت إنسانية الإنسان، وانتُهكت حرمته في محاكم التفتيش التي داهمت بالحديد والنار القلوبَ والعقول والضمائر والمشاعر؛ لإلقاء القبض على كل خاطرة أو هاجسه تخالف أهواء الكنيسة ومزاعمها.
واندفعت أوروبا تحمل الراية، وانطلقت تقود البشرية نحو فتح جديد وعهد وليد، يشهد تكريمًا للإنسان، ورفاهية وأمنًا، وسعادة وعيشًا كريمًا، ولكن ما جرى بعد الميلاد السعيد لم يكن ليخطر ببال القريب ولا البعيد.
إذ ما كادت الثورة الفرنسية ترفع شعار الحرية والإخاء والمساواة، وما كاد مجلس الثورة يصدر وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن؛ حتى فوجئ المجتمع الإنساني بفرنسا تتقدم أوروبا نحو حروب توسعية وحركات استعمارية نتج عنها ويلات، وظلت مستمرة في سياستها الاستعمارية حتى بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ تحت ستار الانتداب، وذاقت البشرية الويلات من هذا الاستعمار إلى حد أن بلدًا واحدًا كالجزائر تَنَاقص عدد سكانه من أربعة ملايين إلى ثلاثة، هذا بحسب تقدير مصادر عسكرية فرنسية، أما حسب تقدير بعض الجزائريين الذين عاصروا المأساة فإن المصاب كان أفدح بكثير(1 )، فأين شعار الإخاء الإنساني الذي أعلنته فرنسا؟
وما كادت أوروبا تتجاوب مع زئير الثورة الفرنسية، وتتغنى في الآفاق بأنشودة الإخاء الإنساني حتى فوجئ بنو الإنسان بجحافل الاستعمار الأوربي تدوس كرامة الإنسان، وتنتهك حرمته، وتضرم الأرض من تحته نارًا متأججة، ولم تستفق أوروبا من دفعتها المحمومة تلك إلا على الآثار المروّعة للحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى حدِّ أنّ أحد أبطال الحرب الكبرى “لويد جورج” يصور المنحدر الهابط الذي انـزلقت إليه أوروبا فيقول: “لو رجع سيدنا يسوع المسيح إلى العالم لما عاش إلا قليلاً، إنه سيرى الإنسان لا يزال بعد ألفي سنة مشغوفًا بالشر والإفساد والقتل والفتك ببنـي نوعه … سيراهم يتهيأون لحرب أشد هولاً من الأولى، وأعظم فتكًا وتعذيبًا، سيراهم يتسابقون في اختراع الآلات الجهنمية، ويبتدعون وسائل التعذيب”( 2).
وفي سياق تصوير الوحشية والهمجية كتب “وليام بفاف” في صحيفة “الهيرالد تريبيون” في: 1/10/2002 مقالاً ذكر فيه أن بريطانيا في الحرب العالمية الثانية اتخذت قرارًا بقصف المدن الألمانية عام 1944- 1945 واستهداف المدنيين بغرض تحطيم الإرادة الألمانية، وأن أمريكا حذت حذوها في اليابان صيف 1945 مما نتج عنه قتل عدد من المدنيين يفوق الذين ماتوا في هيروشيما ونجازاكي( 3).
أما أمريكا التي قالت للناس: إنها الراعية لحقوق الإنسان والمدافعة عن حريات البشر فشأنها مع الإنسان والإنسانية عجيب ومريب! وقصتها معه الأسرة البشرية دامية ومبكية. إن الذي ابتُلي به سكان هذا الكوكب على يد السادة الأمريكان لم يكن ليقع عليهم بهذه القسوة لو أنهم تعرضوا لغزو من كوكب خارجي من مثل ما تصوره لنا السينما الأمريكية.
والقصة طويلة وفصولها دامية، ولكننا نختزلها في هذه الإشارات السريعة: في عام 1664م صدر كتاب بعنوان “العملاق” لـ”يور دجاك” يتضمن نصائح للقوات الأنجلوسكسونية المتزعمة للمهاجرين البروتستانت إلى القارة الأمريكية الجديدة، جاء فيه: “إن إبادة الهنود الحمر، والخلاص منهم أرخص بكثير من أيّ محاولة لتنصيرهم أو تمدينهم؛ فهم همج عراة… ووسائل تحقيق الانتصار عليهم كثيرة: بالقوة، بالمفاجئة، بالتجويع، بحرْق المحاصيل، بتدمير القوارب والبيوت بتمزيق شِبَاك الصيد، وفي المرحلة الأخيرة بالمطاردة بالجياد السريعة والكلاب المدربة التي تنهش أجسادهم”(4 ).
وفي عام 1730م أصدرت الجمعية التشريعية تشريعًا يقنّن عملية إبادة ما تبقى من الهنود الحمر فأصدرت قرارًا بتقديم مكافأة قدرها 40 جنيهًا مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر و40 جنيهًا مقابل أسر كل واحد منهم، ثم ارتفعت المكافأة بعد 15 سنة. وفي عام 1763م أمر القائد الأمريكي “جفرى آهرست” برمي بطانيات ملوثة بالجدري للهنود الحمر في تجمعاتهم؛ مما أدى إلى موت عشرات الألوف منهم، ثم تكرر هذا منهم فيما بعد، ولكنها كانت هذه المرة ملوثة ببكتريا الكوليرا، فتلقاها الهنود الحمر على أنها مواد إغاثة؛ مما أدى إلى الفتك بقبائل بأكملها(5 ).
واستمر هذا المسلسل الدنيء حتى آل أمر أمة من البشر بأكملها إلى ما يشبه الفناء والانقراض؛ مع أنهم كانوا هم أصحاب الأرض.
وبعدها فوجئت أمريكا بأنها في أمسّ الحاجة إلى يد عاملة تُسخَّر لبناء وتشييد إمبراطورية السيد الجديد، فتوجهت إلى أفريقيا لتقع مأساة إنسانية ثانية لا تقل بشاعة عن سابقتها، وكشفت بعد ذلك منظمة اليونسكو عن حجم المأساة عندما أصدرت في عام 1987م تقريرًا يصوّر هول ما حدث للأفارقة على يد الأمريكان وعلى يد تجار الرقيق الذين كانوا يَجلبون للأمريكان، جاء فيه أن أفريقيا فقدت من أبنائها في تجارة الرقيق واصطيادهم نحو 210 مليونا، وأن ما لا يقل عن 25 مليون منهم قد هلك أكثرهم قبل أن يصلوا؛ من سوء المعاملة ومشقّة الرحلة إلى العالَم الجديد.
وفي أول ظهور لأمريكا على ساحة الصراع العسكري الدولي كان الفزع الأكبر الذي روّع البشرية، أحدثه السيد الجديد برميتين إحداهما فوق هيروشيما والثانية على نجازاكي، حَصَدَتَا من بني الإنسان في غداة واحدة مئات الآلاف، سوى عشرات الآلاف من الجرحى والمشوّهين، وجميعهم من المدنيين الأبرياء.
لكن برغم كل هذه الكبوات وكل هذه النكبات واصلت البشرية المعذّبة جهادها؛ واستمدت من مرارة الحربين الكبيرتين، ومن دماء الملايين من الأبرياء، ومن أشلاء الملايين من الأطفال طاقة ووقودًا؛ لتثب وثبتها الكبرى وتصدر – من خلال عصبة الأمم- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومرة ثانية يتصدّر العالم الغربي ويحمل الراية، ولم لا؟ أليس هو سيد العائلة البشرية على هذا الكوكب؟ أليس هو صانع الحضارة والمدنية؟ أليس هو المبشر بعهد جديد سعيد، تشرق فيه شمس الإنسانية؟ فليأخذ الفرصة للمرة الثانية، شاءت البشرية أم أبت.
ولا ريب أن هذا الإعلان كان له أثر كبير في داخل المجتمع الأوروبي خاصة والغربي عامة، لكن الإنسانية لم تنته عند شاطئ أوروبا وأمريكا، والذي أصدر الإعلان ليس عصبة الغرب وإنما عصبة أمم الأرض، فهل سعدت أمم الأرض بهذا الإعلان، وهل تحقق لها ما طال انتظارها له؟ لننظر..
رفعت أمريكا شعار حقوق الإنسان بقبضة ملطخة بدماء الملايين من بني الإنسان، وما هي إلا سنوات حتى صدق ظن الإنسانية المعذبة فيها؛ حيث بدأت أمريكا – التي خرجت من الحرب العالمية الثانية ظافرة- تتحرش بدول العالم وأنظمته، مستخدمة أخبث وأبشع وأخسّ جهاز عرفته الإنسانية واكتوت بناره وجحيمه، ألا وهو جهاز المخابرات المركزية الأمريكية “CIA “.
ولقد توسع هذا الجهاز اللعين في مفهوم الأمن القومي الأمريكي، وفي إجراءات حماية أمريكا والدفاع عن أمنها إلى حد أفقد البشرية أمنها وسلامتها وسلبها كرامتها وحريتها “فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن هناك 75 حربًا وتدخلاً عسكريًا ودعمًا لانقلاب عسكري، وكلها لا علاقة لها بالدفاع عن النفس وإنما للتوسع والسيطرة”( 6).
ولم يجرب العالم على زعيمة الدنيا صدقًا قطّ، فكم من مرة تتدخل باسم حماية حقوق الإنسان ثم تكون النتيجة هي الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان، وكم من مرة تتدخل باسم الديمقراطية ثم تكون النتيجة هي إحلال عملاء لها مسلّطين فوق رقاب البشر بسيوف أمريكية الصنع؛ يقول نعوم تشومسكي الكاتب الأمريكي الشهير: “لم يُثر انقلابٌ فاشيٌّ في كولومبيا إلا قليلاً من احتجاج حكومة الولايات المتحدة، بينما لم تهتم بانقلاب عسكري في فنـزويلا ولا بعودة السلطة للمعجب بالفاشية في بنما” ويقول: “أعاقت حكومتنا بعض الحكومات البرلمانية، وأسقطت بعضها، كما حدث في إيران عام 1953م وجواتيمالا عام 1945م وتشيلي عام 1972م، ولم يكن القتل العادي هو عمل القوات التي حركناها في نيكاراجوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو جواتيمالا – ولكنه كان بصفة واضحة قتل القسوة والتعذيب السادي: تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وفضّ بكارتهن، وقطع الرؤوس وتعليقها في الخوازيق، ورطم الأطفال بالجدران حتى يموتوا… “(7 )
ولقد خاضت أمريكا حروبًا دامية ضد بلاد لم تطرف لها عين، وكان من أقسى هذه الحروب حرب فيتنام، تلك الحرب التي تسببت في بدايتها فقط وحتى منتصف عام1936 م في مقتل 160 ألف شخص وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص واغتصاب 31 ألف امرأة وبقر بطون 3 آلاف أحياءً وإحراق أربعة آلاف أحياء ومهاجمة 46 قرية بالمواد السامة. أما العدد النهائي لضحايا الحرب الفيتنامية فكان أكثر من ستة ملايين ( 8) ولقد اعترف “وليام كولمبي” المشرف على برنامج “فين يكس” في فيتنام في شهادة أدلى بها أمام الكونجرس بأنه قتل 20587 من نشطاء “ألفيت كونج” أما الذين استجوبوا بأساليب مرعبة، منها دق الخوابير الخشبية في أدمغتهم، وإدخال المناظير المكهربة في إستهم، وقطع الأصابع والآذان ثم الإلقاء من الطائرات فكانوا 29 ألفًا.
أما ما جرى أخيرًا على يد أمريكا وحلفائها من انتهاكات لحقوق الإنسان في العراق وأفغانستان وسوريا وغيرها فأمر يحتاج أن يفرد له مكان أوسع، ولست أرى أنَّ الوصف يوفيه حقه بعد أن عاينته الأبصار.
لكننا نريد الآن أن نخلص إلى ما هو أخطر مما سبق، وهو محاولة تقليص النظرية ذاتها وتشويه معالمها، هذا الخطر بدأ يدبّ إلى نظرية حقوق الإنسان على يد زعيمتي الحرية والديمقراطية في العالم: بريطانيا وأمريكا، وذلك من خلال سَنّ قوانين مخالفة لإعلان حقوق الإنسان، ومحاولة تفسير بعض بنود حقوق الإنسان تفسيرًا يخالف روح الإعلان ويوافق روح العدوان، وهذا ما دعا منظمة العفو الدولية في تقرير لها نشر في لندن – إلى انتقاد الحكومة البريطانية في أن ما سنّتْه من قوانين لمكافحة الإرهاب يمثل انتهاكًا لحقوق الإنسان، وأنها قيدت سلطة المحاكم، وأضعفت الحظر على القبول بالأدلة التي يتم الحصول عليها عن طريق التعذيب، كما وجهت انتقادها أيضًا للولايات لمتحدة الأمريكية، وذلك في تقرير لها نشرتْه مؤخرًا عن وضع الإنسان في العالم عام 2004م وكان وجه الانتقاد أن الولايات المتحدة أقرت استخدام أساليب استجواب تنتهك الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وأنها تبذل جهودًا كبيرة لإعادة تعريف مفهوم التعذيب الذي حددته اتفاقات جنيف(9 )، وفي الجملة كما قال نورمان ميلر: “أمريكا أصبحت أكثر فظاظة، وربما أصبح العالم كله يسير في هذا الطريق؛ لأنها تقوم بتصدير هذه الفظاظة”( 10).
وبعد هذا العرض الموجز السريع؛ يحق للإنسانية أن تستوقف الراحلة لتحاسبها؛ لذلك أجدها على حقٍّ إن دعت إلى: (محاكمة الحضارة الغربية) الفكرة مطروحة للنقاش، فكرة إجراء محاكمة علنية يرافع فيها ممثلون عن جميع الشعوب التي تضررت، أمام منصة من المفكرين المحايدين؛ لعل البشرية تتعلم الدرس وهي على مشارف التحول الحضاري القادم، وإنّه لقريب (11 ).
—————–
الهامش
(1 ) انظر: المغرب العربي: دراسة في تاريخه الحديث وأوضاعه المعاصرة د/ صلاح العقاد صـ116.
(2 ) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين صـ92، لأبي الحسن الندوي.
(3 ) حديث الأحداث، خالد أبو الفتوح صـ168.
(4 ) انظر مقال د/ عبد العزيز كامل بمجلة البيان عدد175 صـ60.
(5 ) راجع: “حديث الأحداث” خالد أبو الفتوح صـ74.
(6 ) منير شفيق “الحياة” 24/2/2002.
(7 ) مجلة البيان عدد 175 صـ61.
(8 ) (نيويورك تايمز) 8/11/1997.
(9 ) الشرق الأوسط 26/5/2005.
(10 ) النيوزويك 4/2/2003.