التحولات القادمة .. والواجبات الحاسمة

كثر الحديث في الفترة الماضية – ولاسيما إبَّان اشتداد أزمة كورونا – عن تغيرات مرتقبة سوف تطرأ على النظام العالميّ الذي يحتوينا ويبسط علينا – رغماً عنَّا – أذرع هيمنته، وبدا الحديث للكثيرين واقعياً ومنطقياً؛ فقد كشفت الأزمة عن حقيقة كانت تتوارى خلف خطابات الهيمنة المعتمدة على عُلُوّ الصوت وارتفاع مصدر الصوت، هذه الحقيقة ببساطة شديدة هي إفلاس العالم المعاصر بنظمه ومؤسساته ونظرياته وأفكاره وعجزه عن منح السعادة والأمن للإنسانية.

   غير أنّ الأسباب والأبعاد والآفاق والآماد لهذا التغير المرتقب أعمق وأوسع من جائحة كورونا وتداعياتها، فلا تمثل هذه الجائحة إلا محطة من محطات قطار التغيير، وإن كانت محطة رئيسية ومحورية؛ بما لها من دلالات قوية على انتهاء دور عقيدة حداثية كان لها بالغ الأثر في تشكيل وعي الشعوب وفي تحديد ورسم أشكال الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبما لها من اثر على اقتصاديات كثير من الدول والتكتلات التي كانت تعاني في الأصل من أدواء ليس لها دواء.

   ولا ننس أنّ جميع هذه المحطات بما فيها المحطة الأخيرة “جائحة كورونا” ليست سوى أسباب ظاهرة وراءها يد القدرة الإلهية، ووراءها السنة الماضية في الخليقة منذ ظهور الحضاراة الإنسانية على ظهر هذا الكوكب؛ وهي سنة التداول: “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” (آل عمران 140)، وما من شك في أنّ الحضارة المعاصرة قد شاخت وآن لها أن ترحل وتسلم الراية للوريث المنتظر، وأنّ خزان القيم الحضارية لديها مهترئ مخروق القاع يتسرب مخزونه بمرور الأيام بصورة غير مسبوقة للأنام.البيات الدائم:

    وإذا كنّا نحن أهلَ الإسلام ننتظر تحقيق وعد الله لنا بالتمكين والاستخلاف؛ فإنّه لا يصح أن نعيش الانتظار على طريقة البيات الدائم في ظلمات “سامراء”؛ فإنّنا أمّة عملية تأخذ بزمام المبادرة لتحويل الأمل إلى نية وعمل، ومن هنا جاء جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال السائل عن الساعة على هذا النحو العمليّ: “وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا”([1])، فما هي التحولات المتوقعة في الزمن القريب، والتي يمكن أن يستثمرها المسلمون في تحقيق تقدم نحو الهدف الكبير؟! ثمّ ما هي الواجبات التي يلزم النهوض بها حتى لا تضيع الفرصة مثلما ضاعت فرص كثيرة؟!

   إنّ الدراسات الجادة المحايدة القائمة على رصد الواقع وتتبع الظواهر البشرية وتحليلها تشير كلها إلى توقعات لشكل النظام العالميّ القادم يختلف كثيرا عن النظام الحاليّ، حيث تؤكد أنّ هيمنة القطب الواحد سوف تتلاشى؛ ليحل محلها هيمنة متعددة الأقطاب، وأنّ النظام الدولي القادم سوف تتعدد فيه مراكز القوى والهيمنة بأكثر مما كانت عليه قبل نهاية الحرب الباردة؛ مما سيسمح بهامش من حرية الحركة للأنظمة والشعوب والكيانات السياسية والفكرية والحركية.

   أمّا الهيمنة الأمريكية والاستبداد الذي يمارسه القطب الواحد فسوف يتلاشى حتماً، وقد تنبأ بهذا منذ أكثر من عقد من الزمان “صمويل هنتنجتون” في كتابه ذي الشهرة العالمية الفذّة “صدام الحضارات” عندما قال: “الاستعمار الأوربيّ انتهى، الهيمنة الأمريكية تنحسر، وذلك يتبعه تآكل في الحضارة الغربية … القوة المتنامية للمجتمعات غير الغربية الناتجة عن التحديث تؤدي إلى إحياء الثقافات غير الغربية في أنحاء العالم”)([2]) “الضغطة الغربية التي استمرت مئتي عام على الاقتصاد العالميّ سوف تنتهي”([3]).

   وعلى نفس الخط يمضي الكتاب الأوسع انتشارا والأكثر مبيعا في العالم “مستقبل الحرية” للكاتب الأمريكي من أصول هندية “فريد زكريا” الذي يعلن بشجاعة وصراحة: “الاحترام العام للسياسة والنظم السياسية في كل الديمقراطيات المتقدمة يراوح في أدنى مستوياته”([4]) “الحكومة في أمريكا اليوم ينظر إليها كالديناصور المتعب العالق في شباك تاريخه، وغير القادر على الاستجابة لمشاكل الغد”([5]) ” أصبحت الحكومة الأمريكية في كلمات (راوخ) “كتلة مجمدة عملاقة من البرامج المعظمة العالقة في أزمة نقدية دائمة”([6])، ويردّ الظاهرة في هذا التراجع إلى أسباب من الصعب تلافيها لأنّها خرجت عن السيطرة، بعضها يعود لطبيعة الشعب الأمريكي، وبعضها إلى طبيعة النظم السياسية وعدم قدرتها على تقديم المزيد، وبعضها – وهو الأخطر – إلى المجموعات النفعية التي صار لها في الغرب عموما وفي أمريكا على وجه الخصوص الأثر البالغ؛ فيقول: “ماديسون تخوف من المجموعات النفعية الضاغطة على الحكومات، وسمى ذلك “أذى الأقلية” وقال: “الحرية لفئة كالنار للهواء”([7]).التحدي الأكبر:

   وفي كتابه الآخر “عالم ما بعد أمريكا” الذي يقل عن “مستقبل الحرية” شهرة على المستوى العام لكنه على المستوى السياسي يربو عليه بكثير، إلى درجة أنّه نال اهتمام الزعماء الأمريكيين، وقد رصد الإعلام صورة للرئيس الأمريكي السابق “أوباما” حاملا نسخة من هذا الكتاب؛ في هذا الكتاب يتحدث عن “فريد زكريا” بتفصيل أكثر؛ فيقول ضمن ما يقول عن عالم ما بعد الهيمنة الامريكية: “لكنّ التحدي الأصعب الذي تواجهه الولايات المتحدة هو التحدي الدولي؛ فهي تواجه نظاماً عالمياً مختلفا تماما عن ذلك الذي اعتادت على التحرك ضمنه، صحيح أنّ الولايات المتحدة لا تزال اللاعب الأكثر قوة في العالم في الوقت الحاضر، لكن الميزان يتغير مع كل عام ينقضي”([8]).                                 

   ويستطرد مشيرا بإجمال إلى المراكز الجديدة المنافسة بقوة: “تحتل الولايات المتحدة الموقع الأعلى في النظام الناشئ، لكنها أيضا البلد الأقل استفادة من النظام الجديد؛ إذ إنّ معظم القوى الكبرى الأخرى ستشهد تنامي أدوارها في العالم، في الواقع إنّ هذه العملية ناشئة منذ الآن، فالصين والهند تتحولان إلى لاعبين كبيرين في منطقتيهما، وما ورائهما، وروسيا انتهت من مرحلة التأقلم التي تلت نهاية الاتحاد السوفيتيّ، وهي تزداد قوة وعدائية أيضا، وبالرغم من أن اليابان ليست من بين القوى الصاعدة إلا أنها الآن أكثر استعدادا للإفصاح عن آرائها ومواقفها تجاه جيرانها، وأوربا تتصرف في المسائل التجارية والاقتصادية بقوة وتصميم هائلين، وصوت البرازيل والمكسك يسمع بقوة في قضايا أمريكا اللاتينية، أمّا دول جنوب أفريقيا فقد اتخذت لنفسها موقع زعيمة القارة الأفريقية؛ جميع هذه القوى تأخذ لنفسها مساحة أكبر في الساحة الدولية من المساحة التي كانت كل واحدة منها تشغلها في الماضي”([9]).

   وكان صمويل هنتنجتون أيضا قد توقع أو تنبأ بمثل ذلك بناء على استقراءات وإحصائيات عديدة، فها هو يقرر أنّ هنالك صورتين متقابلتين لقوة الغرب بعد انتهاء الحرب الباردة، الأولى: سيطرة وتحكم الدول الغربية، فهي تتحكم في النظام المصرفي العالمي وفي العملات الصعبة العالمية وفي الأسواق كذلك، ولديها القدرة على الانتشار العسكري والتدخل السريع، وتهيمن على الاتصالات والفضاء، وأمريكا مع إنجلترا وفرنسا يتحكمون في القرارات السياسية والأمنية الفاصلة، وأمريكا مع ألمانيا واليابان يتحكمون في القرارات الاقتصادية الحاسمة .. وفي المقابل الصورة الثانية التي تبدأ في تغييب الصورة الأولى ببطء ولكن باطراد، وهي صورة التراجع والاضمحلال في الغرب يقابله ظهور بؤر ومراكز جديدة في أماكن أخرى من العالم، الهند صاعدة وواعدة وراء الصين، والعالم الإسلاميّ يزداد عداء للغرب، والانهيار المتوقع للغرب يتسم بالبطء في البداية ثم بتسارع الخطى بعد ذلك كما يتسم بأنّه لن يسير في خط مستقيم([10]).العالم الجديد:

   هذه هي الوضعية الدولية المتوقعة بقوة لدى كبار المفكرين والسياسيين أيضا؛ وعليه فنحن سنكون أمام عالم أكثر قابلية للحركة وأكثر سماحاً بهوامش الحرية، ولا ريب في هذا، وأصدق دليل عليه أنّ فترة الحرب الباردة وما كان يسودها من استقطاب بين قطبين متنافسين أعطت فرصة كبيرة لتفلت كثير من الدول من قبضة الاستعمار، ولو كانت بلادنا مثل: الصين واليابان وكوريا وغيرها لربما كان لها اليوم شأن آخر، بل إنّ البعض يعتبر أنّ من أسباب السبق الذي أحرزته أوربا الغربية في ميدان الحرية هو حالة التنافس بين سلطة الكنيسة والسلطة الزمنية، والتي كانت مفقودة في الشرق بسبب تمركز قوة الدولة الرومية في القسطنطينية بعد سقوط روما على يد الجرمان؛ بما جعل دور القصر يطغى على دور الكنيسة في الشرق وينفرد بالهيمنة؛ الأمر الذي ترتب عليه تأخر دول شرق أوربا عن أخوانها في غرب أوربا في ميدان الثورات ونيل الحريات.

   وكذلك حالة التنافس الشديدة بين الملك من جانب وبين اللوردات والنبلاء الإقطاعيين من جانب آخر، ولاسيما في بريطانيا؛ حيث أثمر توازن القوتين حراكا متيناً أثمر “الماجنا كارتا” التي تمثل الوثيقة العظمى المشتملة على أصول فكر الحرية وحقوق الإنسان، وذلك في عام 1215م أي قبل بزوغ شمس الثورات في أوربا بقرون عديدة.

   فالواجب على الحكومات العربية أن تحاول عبر سلسلة من الإجراءات المتوازنة والمتدرجة أن تتخلص من الخضوع المطلق للهيمنة الأمريكية، وأن تحاول التعويض بعلاقات سياسية واقتصادية ترقى لمستوى التحالفات مع جهات عديدة، ولاسيما القوى الإسلامية الواعدة كتركيا وماليزيا وغيرهما، وأعتقد أنّه بالإمكان من الآن إيجاد واقع عربي إسلامي جديد يتحقق فيه قدر كبير من التكامل الاقتصادي والتعاون العسكري والأمني، مع قدر كبير من الانسجام على مستوى العلاقات الخارجية.دور الشعوب:

   أمّا الشعوب فهي ركيزة الإصلاح؛ لأنّها عدّة الأمة للصعود والنهوض، هذه الشعوب لديها القدرة على حمل حكوماتها على الجادة، وبين أيديها من الوسائل الحضارية الراقية وقنوات التقويم والتصحيح الكثير والكثير، وهي تتميز عن غيرها من الشعوب بأنّ المنهج الربانيّ الذي تتربى عليه في مساجدها وعباداتها يلهمها الثبات والرشد، كل ما هنالك أنّها مطالبة بالسعي والعمل والأخذ بالأسباب.

   وأمّا الخطاب الشرعيّ فهو مدعوّ بقوة للتجديد ليواكب كل جديد، ليس التجديد على الطريقة التي يفرضها الحداثيون العابثون، الذين يريدون تبديل الدين وتزوير الشريعة باسم التجديد، وإنّما التجديد الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»([11])؛ لذلك طريقنا طويل وواجباتنا كثيرة وكبيرة؛ والله المستعان على ذلك كله.


([1]) متفق عليه صحيح البخاري (5/ 12) برقم (3688) وصحيح مسلم (4/ 2032) برقم (2639)

([2]) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالميّ – صمويل هنتنجتون – ت: طلعت الشايب – ط ثانية 1999م صـــــــ 151

([3]) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالميّ – صمويل هنتنجتون – ت: طلعت الشايب – ط ثانية 1999م صـــــــ 45

([4]) مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – صـ 271

([5]) مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – صـ 197  

([6]) مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – صـ 193 

([7])راجع: مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – صـ198

([8]) عالم ما بعد أمريكا – فريد زكريا – ترحمة بسام شيحا – الدار العربية للعلوم ناشرون – ط أولى 2009م صــــــــــــــــ 59

([9]) عالم ما بعد أمريكا – فريد زكريا – ترحمة بسام شيحا – الدار العربية للعلوم ناشرون – ط أولى 2009م صــــــــــــــــ 61-62

([10])انظر: صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالميّ – صمويل هنتنجتون – ت: طلعت الشايب – ط ثانية 1999م صـــــــ 133-136

([11])سنن أبي داود (4/ 109) برقم (4291)