الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
كم من موضوع في كتاب الله تتشوف القلوب إلى الإحاطة بأطرافه؛ على سبيل تفعيل دور القرآن الكريم في حل مشكلات الأمة ومشكلات البشرية كذلك، وموضوع التمكين من الموضوعات التي تتعلق بها قلوب العباد، وتتحرك نحوها للاستخبار والاستبصار؛ لكونهم يوقنون بوعد الله لهم بالتمكين، ويفتقدون في ذات الوقت الصورة الكاملة المحيطة بهذا الوعد، ولهذا سوف نتناول موضوع التمكين تناولاً يجلي الحقائق ويميط الغبش ويرسم الصورة الكاملة.
ونبدأ بتقرير القرآن لحقيقة واقعية ملموسة، وهي أنّ الله تعالى أعطى – ويعطي – التمكين لأمم مسلمة ولأمم كافرة، فمن أمثلة التمكين الذي أعطاه الله تعالى للأمم المسلمة تمكين الله تعالى ليوسف وسليمان وذي القرنين ثم للأمة الإسلامية، فيوسف عليه السلام مكن الله له تمكينا بعد تمكين، قال تعالى: (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف 21) ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) (يوسف 56) وأخبر تعالى أنّه آتى سليمان من كل شيء، وهذا غاية التمكين: ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) (النمل 16) وقال عن ذي القرنين: ( إنّا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً ) (الكهف 84) وعن هذه الأمة قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (الأنفال 26)
أمّا ما أعطاه الله تعالى من التمكين للأمم الكافرة فكثير ذكره في القرآن، قال تعالى – مستنكراً على عاد قوم هود انحرافهم بما مكن الله لهم عن الجادّة ومعددا مظاهر التمكين الذي وهبه لهم – قال سبحانه: ( أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ . أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ . وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) (الشعراء 128-131) ونفس الطريقة مع ثمود قوم صالح: ( أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ . وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ) (الشعراء 146-149) وفي سورة الفجر: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ) (الفجر 6-10) وقال تعالى في آية جامعة من سورة الأنعام: ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ) (الأنعام 6) ومثلها في سورة الأحقاف: ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (الأحقاف 26)
وإذا كان هذا الذي قرره القرآن واقعاً بشرياً؛ فإنّ القرآن لا يكتفي بتقرير هذا الواقع حتى يأتي بتفسيره تفسيراً محكماً، يسكن إليه العقل، وتأوي إليه الفطرة، وتذوب به العقد الفكرية المستعصية؛ فها هو القرآن الكريم يبين السنن التي يمضي عليها التمكين، فيتنوع بتنوعها، فهناك تمكين يمضي على سنة الإمهال والإملاء، قال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام 44-45) فهؤلاء فتح الله عليهم أبواب كل شيء من أدوات التمكين الاقتصادي والعسكري والمعماري وغير ذلك ليمهلهم ويملي لهم. وقال تعالى: ( ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) (الأعراف 95) أي: أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة الرخاء والسعة والصحة ” حتى عَفَواْ ” أي: كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم”().
وهناك تمكين آخر يمضي على سنة الاختبار والامتحان والابتلاء والفتنة، من ذلك ما أعطاه الله تعالى لسليمان عليه السلام فاجتاز الابتلاء ونجح في الاختبار، فها هو في ذروة التمكين يتذكر الحقيقة التي بها نال التمكين: ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (النمل 40) ومن ذلك ما أعطاه الله بني إسرائيل فسقطوا في التبديل فنزع الله منهم وأدال عليهم، قال تعالى: ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (الأعراف 168) أي اختبرناهم بالنعم والنقم”(). فالحسنات هي النعم التي إن أعطيت لأمة كانت مظهراً من مظاهر التمكين وثمرةً من ثمراته، ومنه ما أشار إليه قول الله تعالى: ( وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (طه 131)
وهناك تمكين يمضي على سنة الجزاء والمكافأة ومقابلة الإحسان بالإحسان، وهذا هو عين ما أعطاه الله تعالى ليوسف عليه السلام: ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ . وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) (يوسف 56-57) فأجر الإحسان جاء منه جزء معجل في صورة التمكين، لذلك أكمل بعدعا: ” ولأجر الآخرة خير ” ونلاحظ هنا أن التمكين الذي أعطاه الله تعالى ليوسف نوع غير التمكين الذي أعطاه الله لسليمان – عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام – لأنّ يوسف وعد التمكين ولم يطلبه، قال تعالى: ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) (يوسف 15) أمّا سليمان فطلب التمكين، قال تعالى: ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (ص 35) فأعطى الله التمكين ليوسف بعد أن اجتاز الابتلاء جزاء لإحسانه، وأعطى سليمان التمكين ابتلاءً فاجتاز الابتلاء.