“التوحيد” .. قيمة حضارية (1)

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لا إله إلا الله .. كلمة ملك بها المسلمون العرب والعجم، ودانت لهم بها الشعوب والأمم، كلمة أعادت في لحظة من عمر الزمان رسم الخريطة البشرية على هذا الكوكب؛ فلم تعرف الدنيا على طول امتدادها وكثرة ما غشاها من نوازل تحولاً مفاجئاً؛ يزيل حضارات ويديل ممالك، ويقيم على أنقاضها بناءً حضارياً إنسانياً غاية في العظمة والشموخ كهذا التحول العبقريّ الفريد؛ الذي وقع بسحر “لا إله إلا الله”.

   إنَّها بحق معجزة لا تقل روعة وجلالاً عن معجزة القرآن نفسه، كيف وقع هذا الانقلاب الكونيّ بهذه السرعة المذهلة وبهذا العمق المستغرق ؟! وكيف جاء على يد فتية نبتوا في الصحراء، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء!! لكأنَّ هذه الكلمة سرُّ الحياة سرى في الموات؛ أو شعاع ثاقب من الأفق البعيد مزق شمل الظلمات! أو نبع ماء تفجر على حين غرة فإذا الأرض تهتز خضراً وتموج بالنبات.

   الآن وقد رأينا وسمعنا وخبرنا التاريخ ندرك بعمق أبعاد صيحة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أول بعثته: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا”([1]) “يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم”([2])، وندرك كيف كان يصبر عليها ويطوف بها على مجالس القوم، بل وفي أسواقهم، وندرك كذلك كيف كان حرص الجاهلية على الحيلولة دون وصولها لقلوب الناس شديداً.

   لقد أدرك الناس – المؤمنون منهم والمعاندون – أنّ هذه الكلمة منهج حياة وطريق نجاة، وأدركوا كذلك أنَّها تعني تحرير الناس من كل العبوديات الزائفة، وأنَّها أوسع باب وأسلم طريق إلى الحرية الحقيقية، والحرية كما تعلمون هي العدو اللدود للطغاة المستبدين، وهي كذلك اللغة التي لا يفهمها الساقطون في غياهب العبودية للطغاة المستبدين، وإنَّ الحرية لهي الأساس الأول والأكبر لحضارة إنسانية راقية تصل الدنيا بالآخرة، وتحقق للناس السعادة في الآخرة والأولى.

   إنَّ كلمة “لا إله إلا الله” تخط طريق الحرية الحقيقية، وتخط بذلك طريق الحضارة الكاملة الراشدة؛ لأنَّها – عملياً – تحطم أكبر معوقات التقدم الإنسانيّ، وهو الطاغوت، الذي تجاوز حدَّه بالظلم والقهر والاستبداد والتأله؛ فطغى بهذا التجاوز على حق الإنسان في كل شيء من مقومات الإنسانية؛ لذلك كان أعظم تفسير لكلمة “لا إله إلا الله” في موضعين من كتاب الله، يعلنان الرفض لكل ما يقيد الإنسان، الأول في سورة البقرة: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا) [البقرة:256] والعروة الوثقى هي الحبل الوثيق المحكم المأمون([3])، والمقصود بها كما روي عن بعض السلف هو كلمة ” لا إله إلا الله”([4]) والموضع الثاني في سورة الزخرف (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف 26-28) والكلمة الباقية هي كما روي عن بعض السلف “لا إله إلا الله”.

   فالحرية التي هي أساس الحضارة الإنسانية وأصل الرقيّ الإنسانيّ ركنها الأول الكفر بالطاغوت والبراءة من الآلهة المزيفة، وركنها الثاني هو العبودية والتسليم لله وحده، أي: “لا إله إلا الله” وبغير العبودية لله لا يكون الإنسان حراً ولو توهم أنَّه حرٌ؛ لأنَّه إنما خلق ليكون عبداً لله، وبعبوديته لله وحده يتحرر، وبغير ذلك يقع من حيث يدري أو لا يدري في العبودية لغير الله، وهنا تكون التعاسة؛ لذلك قالها بتلقائية واحد من الجنود العاديين (ربعي بن عامر): ” (الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها- ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) ([5])

   من هنا ندرك القيمة الحضارية العالية لهذه الكلمة العظيمة، ويزيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إدراكاً لها في هذا الخبر الرائع الذي يضع بين أعيننا صورتين متقابلتين، الأولى لذلك الذي استولت عليه عبادة الدنيا؛ فسقط في جبّ العبودية لها؛ فعجز عن دفع أضعف الأضرار عن نفسه؛ فهو من ثمَّ أعجز عن دفع ظلم الظالمين واستبداد المجرمين، والآخر قد امتطى صهوة جواده حرا طليقا من كل العبوديات بما فيها عبادة الأنا والذات؛ فهو لا يبالي – ما دام على الحقِّ – أهو في المقدمة المنظورة أم في المؤخرة المغمورة، فقال عليه الصلاة والسلام: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ»([6])

   ومن الحرية إلى الانطلاق المتزن، وليس بالانطلاق وحده تصل الإنسانية إلى ما تريد من الكرامة، لا؛ حتى يوصف الانطلاق بالتوازن والاتزان، وحتى تعرف البشرية في اندفاعها نحو التقدم غايتها وتبصر طريقها، ولقد انطلقت الحضارة المعاصرة انطلاقة هائلة في كل ما يتعلق بالمادة البليدة، بينما فيما يتعلق بالإنسانية تخبطت وتعثرت؛ فكانت النتائج مروعة ولا زالت، أمَّا الحضارة الإسلامية فقامت – برغم ما أصابها من عثرات – على أساس الاتزان والتوازن والانسجام والتلاحم بين الأمور المادية والأمور  الأخلاقية، وبين الوسائل والغايات، وبين ما يجب للفرد وما يجب للجماعة؛ وذلك بفضل التوحيد الذي يجمع شمل الإنسان، ولا يجعله يتفرق مع الأهواء؛ فيتناقض في المنطلق والأداء.  (يتبع إن شاء الله).


(1) مسند أحمد (16603) سنن الدارقطني (2976) سنن البيهقي الكبرى (358) المستدرك للحاكم (4219)

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد – ابن القيم – مؤسسسة الرسالة بيروت ط 27 سنة 1994م  3/39

(3) الكشاف للزمخشري – دار الكتاب العربي – بيروت – ط 1407ه  1/304

(4)  نفسير الطبري – مؤسسة الرسالة – ط أولى 2000م 5/421

(5) البداية والنهاية – ابن كثير – ط دار إحياء التراث العربي – 1988م  7/46

(6) رواه البخاري (2886)