كثيرة هي النصوص التي تبشر الأمة الإسلامية بالتمكين والاستخلاف، كثيرة ووفيرة وغزيرة، قوية في دلالتها وظاهرة في معانيها وصريحة فيما وردت فيه وسيقت لأجله، والقرآن وهو يحدثنا عن هذه البشريات يسوقها في إطار سنة إلهية ثابتة وماضية: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص: 5) (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105) (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
واستقراء الواقع الإنسانيّ عامّة وواقع الأمة الإسلامية خاصة يؤكد قرب وقوع التمكين للأمة الإسلامية برغم كل ما تعانيه اليوم؛ فالبشرية بكافة مذاهبها ومشاربها عجزت عن تحقيق ما تحلم به الإنسانية من سعادة وأمن واستقرار، والآن البديل الوحيد هو الإسلام، يقول مراد هوفمان: “عندما تنافس العالم الغربيّ والشيوعية على قيادة العالم كان يمكن اعتبار الإسلام نظاما ثالثا بينهما، ولكنه اليوم البديل للنظام الغربيّ، يتوقع بعض المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم … فليس الإسلام بديلا من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربيّ، بل هو البديل”[1].
غير أنّ السنن المتعلقة بالتمكين للمؤمنين وكذلك المتعلقة بأخذ الكافرين لها قوانين وشروط؛ لعل منها مراعاة الحالة التي تكون عليها الأمة الأسلامية والأمم الكافرة، فالأمة الإسلامية هي ستار قدرة الله في أخذه للكافرين وتمكينه للمؤمنين، وعدل الله يقتضي ألا يُعَجِّل بأخذ الكافرين وكسر شوكتهم بأيدي المؤمنين إذا كان ما يقيمه من الكفار العدل فيما بينهم أعلى وأرقى مما يقيمه المسلمون فيما بينهم، وقد ورد في الآيات والأحاديث شيء من هذا، أسوق منها على سبيل المثال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِنِ ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَنَزَلَ فِيكُمْ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: … وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ مَنْ غَيْرِهِمْ وَأَخَذُوا بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ ….)[2].
من هذه المنطلقات، ينظر التيار الإسلاميّ إلى المستقبل، ويستشرف التمكين الموعود، ويتطلع إلى الغاية التي يراها حتمية، وهي حتمية بلا ريب، لكنّ التوقيت والشروط والمقومات والمعوقات والتحديات أمور يغفل عنه البعض ويتغافلها البعض، هذه الغفلة وهذا التغافل يتعاونان على جرّ المسيرة إلى الوراء أو تعويقها عن المضي قدماً، فما هي التحديات الكبرى التي تواجهنا أو نواجهها، وما هي المعوقات التي تعترض طريقنا، ثم ما هي المحفزات والفرص التي يتوجب علينا أن نستثمرها، إنّ الإجابة على هذه الأسئلة ضروريّ لدى وضع تصور للمشروع الإسلاميّ الذي يتوجب على التيار الإسلاميّ أن يتبناه.
ويأتي تحدي (الوحدة والتوحد) على رأس التحديات؛ فبدونهما لا يمكن الوصول إلى تغيير حقيقيّ، ولو فرض وتحقق فإنّه سرعان ما تندثر ثمراته وتندرس آثاره، هذا إن لم ينقلب الخير فيه إلى شر والمصلحة منه إلى مفسدة، وقد كثرت على الساحة الإسلامية التجارب البائسة التي أفضت إلى نتائج كارثية بكل المقاييس، وأعني بالوحدة اتحاد طوائف العمل الإسلاميّ، وأعني بالتوحد اصطفاف التيار الإسلاميّ بكل مكوناته مع غيره من مكونات المجتمع لتحقيق غايات مشتركة.
ويبدو للمتابع أنّ كلا الأمرين صار يتعقد يوما بعد يوم؛ بالرغم من أنّ المفترض أنّ الدروس الواقعية يجب أن يكون لها دور في تلافي هذا التعقيد؛ مما يؤكد أنّ المسألة ليست متعلقة بمدى إيمان الناس بهذين الواجبين الكبيرين بقدر ما هي متعلقة بالفقه والفهم وخبرات التعامل، فالبعض لا يتصور الوحدة إلا في صورة واحدة هي الاندماج والانصهار الكامل بين جميع الفصائل وكافّة الأحزاب، ولا يرى الاصطفاف يتحقق إلا بنزول الجميع على أجندة واحدة قد تقصر بنودها أو تكثر، وقد يتمسك الفصيل الأكبر بفرض جميع بنودها أو أكثرها، وقد يقع العكس فيتسلط القلة بسبب استقوائهم بنفوذ أجنبي واستنادهم على قوى خارجية أو داخلية.
بينما يقضي الفقه السديد والفهم الرشيد بألا ضرورة لهذا ولا ذاك، وبأنّ الوحدة بين فصائل وأحزاب ومكونات التيار الإسلاميّ يكفي فيها وضع رؤية موحدة واضحة للجميع، وأهداف متفق عليها لدى الكلّ، ومشروع تضيق فيه مساحة الثوابت وتتسع فيه المساحات المرنة التي تحتمل الاجتهاد، ثم يتواضع الناس على طريقة لإدارة الاختلاف، وتنسيق الجهود، وتكامل الإمكانات والمواهب، وإدارة التعددية بشكل يظهر ما في التعدد من تنوع مثري ويخفي ما فيه من تشاكس وتنابز.
أمّا الاصطفاف مع المكونات الأخرى في المجتمع فيكفي فيه ميثاق شرف قليل البنود، يُكتفى فيه بالتأكيد على المبادئ الكبرى التي يتفق عليها أهل الوطن الواحد، كالحريات وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وإعلاء مصلحة الوطن والمواطنين، وتفعيل دور الإرادة الشعبية، وجذرية التغيير بما لا يدع فرصة للدولة العميقة والثورة المضادة، وغير ذلك مما لا يختلف فيه اثنان من المواطنين الصالحين الذين يعنيهم التغيير، مع وضع آليات للتواصل والتنسيق، والاتفاق أو التحالف على مواجهة عدو واحد وتحقيق الظفر عليه؛ من أجل الوصول إلى استحقاق مشترك وهو تحرير الوطن، وعندها من يختاره الشعب يأتي ببرنامجه، ويستمر التنافس الشريف تحت مظلة قوامها الحريات والحقوق والعدالة، ولا ريب أنّ قواعد السياسة الشرعية تسمح بهذا ولا تصطدم به ولا يصطدم بها.
قد يبدو للبعض أنّ هذا الذي قدمناه عن الوحدة والتوحد قليل لا يفي وضئيل لا يبلغ بنا الغاية، والحقيقة أنّه لا يقلل من هذا القدر إلا طوباويّ حالمٌ يقتات التصورات المثالية، ولا يعيش الواقع البشريّ بتدافعاته، أو مُسَوِّفٌ يرفض المتاح تعللا بالتمسك بالصورة المثالية التي يحول دون بلوغها كثير من العقبات التي منها هوى نفسه هو، إنّ الإعراض عن الميسور انتظارا للمعسور تعطيل لقول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103) وقوله عزّ وجلّ: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46)، وتأخير لواجب الوحدة الإسلامية الذي تضافرت النصوص الشرعية على إيجابه، وتقليل من أهمية التوحد والاصطفاف الذي تضافرت القواعد الشرعية على استصلاحه واستصحابه.
ونحن بعد ذلك بحاجة إلى إعادة إنتاج الخطاب، أو إلى تجديد الخطاب الشرعي والدعوي والسياسي، وهذا أحد التحديات الكبرى التي نواجهها وتواجهنا، ولا أعني بتجديد الخطاب تبديد المضامين الشرعية الثابتة باسم التجديد كما تذهب العلمانية – سواء منها العجوز الصريحة أو وليدتها وربيبتها المتوارية في غلالة من الدراسات الشرعية – فإنّ التجديد ليس تبديلا للشرع ولا للقيم والمبادئ ولا لأحكام الدين أو ثوابت الملة، وإنّما التجديد إحياء لذلك كله مع تطوير في الآليات وملء للفراغات ونفض للحشو الذي علق بمرور الأزمان، ولا يقوم به أدعياء مقحمون على الشريعة وإنّما هو وظيفة العلماء الربانيين من هذه الأمة، يشاركهم فيها المتخصصون المخلصون النابهون في المجالات الفنية المختلفة.
إنّ خطابنا سواء على المستوى الشرعي أو الدعوي أو السياسي غاية في الركاكة والاضطراب والتخلف، وإنّ مشكلات هذا الخطاب أكبر من أن تعالج ببعض الكتب أو المقالات أو الدراسات، إنّنا بحاجة إلى ثورة كبيرة وعمل دؤوب وجهد متواصل، وقبل ذلك إخلاص وتجرد وحسن تخلص من العقد الفكرية والسلوكية والحزبية، وإنّنا بحاجة قبل أن نلج هذا الميدان الخطر المليء بالفخاخ والمزالق؛ بحاجة إلى التوازن الشديد بين التمسك بالقيم الثابتة والمبادئ الراسية والعقائد والتصورات التي لا خلاف عليها وكذلك الأحكام الشرعية التي لا يسوغ الخلاف فيها، وبين المرونة والتعاطي مع كل جديد مفيد، والقدرة على مواجهة النوازل بما معنا من منهج ربانيّ صافي، أمّا الاندفاع والعجلة واقتحام الطريق بروح التمرد على التراث والخروج على تاريخ الأمة وهويتها فهذا هو الحَوْرِ بعد الكَوْرِ[3]، وأشد منه ضررا الجمود والتحجر الذي يغلق أبواب الاجتهاد والتجديد، وكما قيل: “فقد أضاع الإسلام جاحد وجامد”[4].
ولعل من أهم التحديات التي استجدت وما كان لها من قبل وجود ذلك التحدي الخطير الذي أبرزته الأحداث الأخيرة بعد انهيار الثقة بين الأجيال بسبب الكوارث المتتابعة والأخطاء المتوالية التي وقعت فيها الرموز والقيادات، فإعادة اللحمة بين الأجيال واستعادة الثقة بين الشباب والشيوخ تحدي كبير بلا أدنى شك؛ لأنّ كلا منهما يمتلك ما لا يمتلكه الآخر من مقومات إدارة الصراع، فالكبار – وإن كانوا قد أخطأوا في كثير مما اجتهدوا فيه – هم الأقدر على القيادة الرشيدة والتوجيه السديد وعلى وضع الرؤية والمشروع وعلى التأثير في القواعد الشعبية بخطابها، وهذا بالطبع سيشاركهم فيه الشباب، ولا يمكن أن يستقلوا به دونهم، والشباب هم الطاقة الفعالة التي تحول الفكرة إلى عمل والعقيدة إلى واقع معاش، فهم يمولكون ما لا يملكه القادة الكبار.
ولكي تنجح هذه العملية، لا بد من معرفة الأسباب والوقوف على المشكلات التي أنتجت هذه الحالة من فقدان الثقة، ولعل منها تلك الفتن التي سقط فيه عدد ليس بالقليل من علماء الفضائيات ومشاهير المديا بأنواعها، ولعل منها كذلك الأخطاء المتكررة من القيادات السياسية والحزبية والدعوية، تلك الأخطاء المنهجية القاتلة التي أوردت الجيل كله المهالك، ولعل منها أيضا حالة التنابز والاختلاف التي وقعت بين القيادات، والتي قسمت الصف الإسلاميّ ووضعت الشباب في حيرة؛ فلا بد إذاً من معرفة أسباب المشكلة ثم السعي في إزالتها قبل كل شيء.
ويلتحق بهذا التحدي الخطير تحدي آخر لا يقل عنه خطورة، وهو استعادة الثقة بين التيار الإسلاميّ والحاضنة الشعبية؛ فإنّ الأحداث الأخيرة وإن استتبعت سخطاً من الشعوب على الأنظمة المستبدة وعلى الانقلابات العسكرية؛ فإنّها استتبعت كذلك على التوازي سخطا على قادة الثورة وزعمائها وفي القلب منهم زعماء وقادة التيار الإسلاميّ؛ لقد كفرت الشعوب بالأنظمة ومعارضيها على السواء، وربما لم يقف الأمر لدى قطاعات كبيرة وشرائح واسعة عند هذا الحدّ بل تجاوزه إلى تمجيد القديم الذي قامت ضده الثورات والذي أسس لكل ذلك البلاء، وإلى لعن الثورات ومن قاموا بها؛ فهل بالإمكان استعادة الثقة؟ وكم يستغرق ذلك من الوقت؟ وما هي الوسائل والأساليب التي تحق ذلك؟ أسئلة صعبة تجعل التحدي ضخما وتستدعي لمواجهته جهودا جبارة.
وأخيرا يأتي التحدي الواقعي العسر الذي يتعلق بآليات التغيير، كيف وبماذا وبأيّ وسيلة من الوسائل وعبر أي آلية من الآليات يقع التغيير المنشود؟ أسئلة حيرت الباحثين وأرهقت المجربين، فما من شك أنّ التظاهرات والاعتصامات وحشد الكتل الشعبية في الميادين للهتاف والتنديد وغير ذلك مما استنفد طاقات وجهود الجيل كله لم يسقط نظاما واحدا، ولا يمكن أن يسقط نظاماً، وقد أثبتت تجربة الربيع العربيّ ذلك، فكل هذه الوسائل التي لا بد مع ذلك من توافرها وتزايدها لا يمكن أن تستقل بالحسم؛ وفي المقابل، يوجد تخوف مشروع من استعمال القوة في مواجهة الأنظمة، إذ قد يجر إلى حرب أهلية واسعة النطاق، كما يمكن أن يفضي إلى تدخل أجنبيّ عنيف؛ لكون سقوط الوكيل يستدعي تدخل الأصيل، وكما يقول عالم السياسة الكبير موريس دوفرجيه: “في الماضي حين كانت الجيوش ضعيفة نسبياً كان يسهل على الشعب أن ينتصر عليها انتصاراً سريعاً، أمَّا الآن فإنَّ الأسلحة التي تحتكرها الدولة قد بلغت من القوة أن الثورة الشعبية لا تستطيع أن تحطمها إلا بحرب أهلية طويلة”[5]، وهذه الحيرة لا تعني انعدام الوسائل التي تجمع بين السلمية والقوة المشروعة باستراتيجيات تتعامل مع الواقع بحسبه وتتلافى الحرب الأهلية، لكنّ هذا كله يستدعي دراسات ومشاورات وسؤال لأهل الذكر في المجالات العسكرية والأمنية، ووضع الخطط التي تحفظ الأوطان وتصون دماء الشعوب أثناء عملية التحرير.
ودون هذه التحديات العظام عقبات جسام، فالنظام الدوليّ الذي ينظر إلى التيار الإسلاميّ كله على أنّه التربة التي أنبتت ما يسمى بالإرهاب؛ صار بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر يمارس ضغوطا جبارة من أجل اجتثاث العمل الإسلاميّ من جذوره، عبر فرض هيمنة وعولمة من نوع خاص “لا عولمة السوق وتدفق رؤوس الأموال، بل عولمة رمزية أكثر عمقاً، وهي عولمة الهيمنة العالمية؛ وذلك باستثارته تحالف كل السلطات سواء منها الديمقراطية الليبرالية أو الشمولية الفاشية المتضامنة أو المتواطئة بصورة عفوية في الدفاع عن النظام العالميّ؛ فكل السلطات ضد (alien)[6]، فهذا النظام – وإن أبدى خلاف ذلك – هو ضد التغيير الذي قد يضر بمصالحه؛ ومن ثم فهو يدعم الأنظمة رغم دمويتها.
وإذا كان النظام الدولي عقبة كأداء فإنّ العقبة الأشد منها هي النظام الإقليميّ الذي تتزعمه إسرائيل وتتربع على عرشه؛ أيظنّ المسلم الراغب في التغيير أنّ إسرائيل يمكن أن تفرط في عملائها؟ أو يمكن أن تسمح بسهولة بتغيير يقرب نهايتها ويؤذن بقرب زوالها؟! إنّ يد إسرائيل ضالعة في دعم الانقلابات، ولاسيما الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر وأطاح بالرئيس محمد مرسي رحمه الله، وإنّ يدها لا تزال تعبث بالمنطقة من أجل الحيلولة دون نهوض أيّ بلد من بلدان الطوق بل وما وراء الطوق من الخليج إلى المحيط، وهي أنظمة كلها غارقة في العمالة إلى النخاع، وحاقدة على التيار الإسلاميّ، ومتمكنة بما لها من حبال مع أعداء الأمة في الخارج وبما تتمتع به من أوتاد للدولة العميقة في الداخل.
وقد يخيل للبعض أنّ تلك العقبات إن أزيلت فإنّ الطريق سيكون ممهدا للتغيير موطئا للتثوير، لكنّ الحقيقة المرة أنّ تلك العقبات رغم ضخامتها تتضائل أمام الأهواء التي تسيطر على النفوس، فإنّنا والله نعاني من الأهواء التي تتحكم في النفوس وفي القرارات وفي الخطط والاستراتيجيات، الأهواء والعصبيات والحزبيات والانتماءات التي صارت – بدلا عن عقد الإسلام – معقد الولاء والبراء، وإنّها لعقبات تحتاج إلى توبة وثورة على النفس؛ (فلا اقتحم العقبة)؟!
وتقوم بمحاذاة التحديات العظام والعقبات الجسام فرص نادرة ومحفزات وافرة، وهذا من رحمة الله تعالى وعدله، بل إنّ هذا من كمال حكمة الله تعالى في ابتلاء العباد؛ إذ يبلوهم بالشر والخير فتنة، والله على كل شيء قدير، فما هي هذه الفرص التي يتوجب علينا استثمارها؟
أول هذه الفرص إفلاس الحضارة المعاصرة إفلاسا تاما وعجزها عن تقديم شيء جديد للإنسان، مع نفاد رصيدها من الثقة في قلوب العباد وضمائر الخلق، وإعراضها التام عن الإجابة على أبسط الأسئلة الفطرية التلقائية التي تعترض الإنسان بما أنه إنسان كل يوم بل كل ساعة، وكما يقول مراد هوفمان: “عَبَدَ الناس في القرن العشرين – قرن العلم والتكنلوجيا – أصناما جديدة: القوة، المال، الجمال، الشعبية، الجنس، ومع التسليم بأنّ ذلك العلم لا يقدم إجابة للتساؤل عن معنى الحياة أو بدايتها ونهايتها؛ فلتكن الإجابة عن تلك الإسئلة بإغفالها أو الانشغال عنها”[7].
ولقد ازدادت ضراوة الفكر المعاصر وقسوته واندفاعه نحو الدعم المطلق للرأسمالية على حساب إنسانية الإنسان، وقاد هذا الفكر المتطرف إلى الانفصال التام عن وعود الحضارة المادية للإنسانية بالرفاه، “وعبر القرون القليلة الماضية قاد هذا الانفصال لهيمنة وسطوة القيم المادية، وهذا الانفصال عن عالمنا شكل حاضراً يركز على نمو اقتصادي غير محدود وغير مناسب، حيث حل إشباع حاجات الشراكات متعددة الجنسيات محل إشباع حاجات البيئة والشعوب الفقيرة”[8]، وصارت من بعدها آمال الإنسان في اتجاه وما ترتب له طغمة المنظرين ومعهم الحكومات ورجال الأعمال في اتجاه آخر.
إنّ هذه الظاهرة العامّة التي لم تستثن غربا ولا شرقا تضع الإسلام بديلا حتميا لا يبارى ولا ينازع، ولن تتردد الإنسانية في الأرض كلها في أن تتخذه منهجا لها في هذه الحياة، فلقد أوغلت الحضارة المعاصرة في تحدي الفطرة الإنسانية؛ إذْ تنكرت للرب تبارك وتعالى، كما أوغلت الحداثة في تحدي العقل الإنسانيّ والطبيعة الإنسانية؛ إذْ زعمت أنَّ الإنسان سيد هذا الكون وملك هذه الطبيعة، ثمّ أوغل النظام الدولي الذي ولد من رحم هذه الحضارة وضرب جذوره في تربة هذه الحداثة، أوغل في إهانة الإنسانية وفي النيل من كرامة الإنسان؛ إذ أغلى الفلس وأرخص النفس، ورفع من شأن المادة على حساب إنسانية الإنسان؛ فلا عجب – إذاً – أن تنشر منظمة الصحة العالمية في جنيف سنة 1978م قائمة مقارنة لنسب حوادث الانتحار … وكان الانتحار هو السبب الثالث من أسباب الوفاة … وفي تقرير للمنظمة سنة 1970م يبرز بوضوح: “أنّ هذه الظاهرة تتوازى مع التصنيع والتحضر وانهيار الأسرة[9]؛ وهذا ما سيدفع الإنسانية المعذبة للبحث عن البديل، ولن تجد إلا الإسلام، ويومها ستعض عليه بالنواجذ.
ويلتحق بتلك الفرصة فرصة أخرى مجاورة لها وقريبة منها؛ فإنّ العالم ينتظر إعادة ترتيب للنظام العالميّ يحدّ من عنفوان القوة الوحيدة المهيمنة على الأرض؛ لتتعدد مواقع النفوذ والهيمنة، وتعددها وتنافسها يخلق هامشا لا بأس به من الحريات ومن فرص التحرك الفعال، وهذا التوقع والاستشراف المبني على إحصائيات ورصد للواقع أفصح عنه كثير من الكتاب المراقبين، منهم فريد زكريا في كتابه الشهير “عالم ما بعد أميركا” فيقول: “تحتل الولايات المتحدة الموقع الأعلى في النظام الناشئ، لكنها أيضا البلد الأقل استفادة من النظام الجديد؛ إذ إنّ معظم القوى الكبرى الأخرى ستشهد تنامي أدوارها في العالم، في الواقع إنّ هذه العملية ناشئة منذ الآن، فالصين والهند تتحولان إلى لاعبين كبيرين في منطقتيهما، وما ورائهما، وروسيا انتهت من مرحلة التأقلم التي تلت نهاية الاتحاد السوفيتيّ، وهي تزداد قوة وعدائية أيضا، وبالرغم من أن اليابان ليست من بين القوى الصاعدة إلا أنها الآن أكثر استعدادا للإفصاح عن آرائها ومواقفها تجاه جيرانها، أوربا تتصرف في المسائل التجارية والاقتصادية بقوة وتصميم هائلين، وصوت البرازيل والمكسك يسمع بقوة في قضايا أمريكا اللاتينية، أمّا دول جنوب أفريقيا فقد اتخذت لنفسها موقع زعيمة القارة الأفريقية؛ جميع هذه القوى تأخذ لنفسها مساحة أكبر في الساحة الدولية من المساحة التي كانت كل واحدة منها تشغلها في الماضي”[10].
أمّا الفرصة الأكثر تأثيرا والأغزر عطاءً فهي أثر الدين الإسلاميّ نفسه في تحريك الشعوب وفي دفعها نحو التغيير، فالإسلام دين محرك فعال يغذي الإنسان بروح الفداء والتضحية، ويملأ قلبه قوة ومضاء وعزيمة، ويمنحه الثقة التي يواجه بها الكون كله بما فيه ومن فيه، وبحسب “غستاف لوبون” فإنّ جميع المعتقدات والأفكار السياسية والدينية والاجتماعية لا تكتسب قوة روح الجماهير إلا بعد اكتسائها بالعاطفة الدينية[11]، وقد أثبت التاريخ الإسلاميّ بما حفل به من أحداث عمق التأثير للعاطفة الدينية في الجماهير وقدرتها تحريكها نحو التغيير.
وأخيراً فإنّ هناك فرصة سانحة يجب انتهازها والبناء عليها قبل أن ينجح إعلام الأنظمة في مسخ عقول الناس، وهي حالة الوعي العام لدى قطاعات كبيرة من الشعوب، التي صارت تدرك بعمق ووعي كم هي عميلة وحقيرة وغارقة في الفساد هذه الأنظمة التي تحكمها، وذلك كله بفضل الثورات التي فشلت في تحقيق المكتسبات لكنها نجحت في كشف العورات وفضح السوءات.
وأخيرا فإنّ التيار الإسلاميّ بكافة مكوناته قادر على إعادة المسيرة في شكل جديد، قادر على ذلك إذا أراد، أو إذا أراد له رموزه وقياداته، ولذلك شروط تتعلق بالإجابة على كثير من الأسئلة التي يمكن أن نخصص للإجابة عنها مقالا آخر، منها: هل من الرشد والصواب ترك الجماعات على حالها أم يجب حلها وإنهاء دورها؟ وهل إذا اتخذ قرار بحلها يكون البديل إنشاء منصات عامة ذات خطاب متجانس؟ أم ماذا يكون البديل؟ وما هي آليات التغيير المطروحة؟ وما هي أقطاب المشروع الإسلاميّ؟ هل نستطيع أن نبني مشروعا على ما لدينا من إمكانات؟ وما ملامح هذا المشروع؟ وما المقترح للرؤية الجامعة؟ كل هذه الأسئلة تستدعي الإجابة عليها؛ لكي نواجه التحديات ونتغلب على العقبات، ونستثمر الفرص.
[1] الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولى 1997م – ص9
[2] سنن ابن ماجه (2/ 1332) – المستدرك على الصحيحين للحاكم (4/ 582)
[3] أي: مِنْ فَسَادِ الْأُمُورِ بَعْدَ صَلَاحِهَا، راجع: تحفة الأحوذي (9/ 281)، وقد استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، راجع: سنن الترمذي (5/ 498) وسنن النسائي (8/ 272) ومسند أحمد ط الرسالة (34/ 376)
[4] لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ – الأمير شكيب أرسلان – دار مكتبة الحياة – بيروت – لبنان – بدون تاريخ – ص88
[5] مدخل إلى علم السياسة – موريس دوفرجيه – ت: سامي الدروبي وجمال الأتاسي – دار دمشق – القاهرة – بدون تاريخ – ص 169
[6] روح الإرهاب – جان بودريار – ترجمة بدر الدين عمرو زكي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة – ط 2010م صـ88 – و آلين هذا اسم لمخلوق فضائي وهمي من كوكب آخر.
[7]الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولى 1997م – ص20
[8] التغير العالميّ من أجل بشرية أكثر إنسانية – إيدموند . ج . بورن – ترجمة سماح خالد زهران – المركز القومي للترجمة – مصر – ط 2015م – الهيئة العامة للمطابع الاميرية ص 116
[9]الإسلام بين الشرق والغرب – على عزت بيغوفيتش – ترجمة محمد يوسف عدس – دار النشر للجامات مصر – مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام – ط ثانية 1997م صـ123
[10] عالم ما بعد أمريكا – فريد زكريا – ترحمة بسام شيحا – الدار العربية للعلوم ناشرون – ط أولى 2009م ص 61-62
[11]ر: سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون – ترجمة هاشم صالح – دار الساقي – ط أولى 1991م صـ 94