الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
الأصل الذي لا خلاف عليه أنّ “الدماء المعصومة لا تُهدر”، ومن هذا الأصل ننطلق لتقرير حقوق الضحايا لحوادث القطارات في مصر، وما شابهها وما وقع من الحوادث على صفتها، ومن باب أولى حقوق الذين يموتون في السجون بالإهمال الطبيّ وغير ذلك من الأسباب التي تقع بسبب الإهمال من موظفي الدولة والمسئولين، أمّا الذين استشهدوا في أحداث يناير وفض رابعة وأمثالها فالقصاص هو الحق الشرعيّ لهم، القصاص ممن باشر وأمر وحرض وأفتى، وهذا موضعه في غير هذا المقال الذي خصصته لديات القتلى في الحوادث التي تكون بسبب إهمال الدولة وتفريطها فيما يجب عليه تجاه المواطنين.
ولنبدأ بتوضيح المنطلق والتدليل عليه، فالدماء المعصومة كدم المسلم والذمي والمعاهد والمستأمن مَصونةٌ في شريعة الله تبارك وتعالى، لا تُهدر بحال ولا تَبْطُل؛ فإذا قُتل معصوم الدم فَعَلى الدولة أن تبحث عن قاتله وتثبت الجناية ونوعها، وترتب على ذلك الجزاء بالقصاص أو الدية وفق أحكام شرعية بينها القرآن والسنة واشتملت عليها كتب الفروع الفقهية، فإن لم يُعرف قاتله، أو عُرف وكان الجزاء الدّية ولم يكن له مال ولا عاقلة فإنّ الدية تكون من بيت المال؛ لئلا يهدر الدم المعصوم.
وقد أوصى مجمع الفقه الإسلاميّ بذلك في قراره 145 حيث نصّ على: “يوصي مجمع الفقه الإسلامي الدولي مختلف الحكومات والدول الإسلامية، بأن تضع في تشريعاتها نصوصاً تضمن عدم ضياع الديات، لأنه لا يُطَلَّ (لا يُهدر) دم في الإسلام”([1])، كما أوصى بذلك مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية بقرار من الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، حيث نص على: “لا يطل (لا يهدر) دم في الإسلام، وعلى الدولة تعويض المستحقين من قتلى لا يعرف قاتلهم، أو عجزة لا يعرف من أعجزهم، أو عرف ولم يوجد له مال يكفل التعويض”([2]).
ومستند هذا الحكم الكليّ القاطع أنّه قد علم بالاستقراء التام لنصوص الكتاب والسنة ولمصادر الشرع وموارده وللأحكام المفصلة الثابتة بنصوص الوحيين أنّ مِنْ أهم مقاصد الشريعة حفظ النفس، وأنّ الدماء لها حرمة يجب أن ترعى، وأنّ الأحكام الشرعية فصلت ببيان تام القصاص والديات في الأنفس وما دونها بيانا يؤكد حرصها الشديد على ألا يهدر دم في الإسلام، إلى حدّ ذهابها وراء الجريمة التي لم يثبت فيها دليل ماديّ على مجرم بعينه لمجرد وجود لوث (يعني شبهة أو قرينة لا ترتقي لمستوى الدليل) حيث شرعت القسامة، بل وإلى حد التعويض بدية كاملة للقتيل الذي لا يعرف قاتله قط ولا يعثر له على أثر.
وقد روى البخاريّ ومسلم حديث القسامة، حيث قُتل عبد الله بن سهل في حيّ من خيبر بينهم وبينه عداوة، فقضى رسول الله بالقسامة لوجود اللوث، فاعترض أهل القتيل بأنّ هؤلاء الذين يقسمون من يهود ولا يتورعون، “فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ”([3])، أي من بيت المال، وقد أدرك الفقهاء الحكمة من القسامة، فقالوا: “شرعت القسامة لصيانة الدماء وعدم إهدارها، حتى لا يهدر دم في الإسلام أو يطل”([4])، كما روى أحمد وغيره خبر الهذلي الذي قتله بعض الخزاعيين يوم الفتح وهو يؤم رسول الله ليسلم لوتر كان بينهم في الجاهلية، فلكونه لم يسلم بعد ولا يعرف قصده من قدومه على رسول الله، ونائرة الحرب قائمة مع وجود وتر كان في الجاهلية؛ لم يقتص منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لمجرد أنّه أمّ رسول الله وبدا عليه أنّه يريد الإسلام، مع اعتبار أن ما وقع منه إنما وقع في الجاهلية؛ وداه رسول الله من بيت المال، حيث وقف خطيبا فقال: “أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَإِنَّمَا أَحَلَّهَا لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ أَمْسِ، وَهِيَ الْيَوْمَ حَرَامٌ كَمَا حَرَّمَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ أَعْتَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ فِيهَا، وَرَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَ بِذَحْلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَدِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ، الَّذِي قَتَلْتُمْ “، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”([5]).
بل رُوي أنّ رجلا قُتل في زحام الناس بعرفة، فجاء أهله إلى عمر، فقال: بينتكم على من قتله. فقال عليٌّ: “يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم، إن عَلِمْتَ قاتله، وإلا فأعط ديته من بيت المال”، وعلى هذا بنى الفقهاء قولهم: “إذا وجد القتيل في مكان يكون التصرف فيه لعامة المسلمين، كالشارع الأعظم النافذ، والجامع الكبير، والسجن وكل مكان لا يختص التصرف فيه لواحد منهم، ولا لجماعة يحصون، فالدية في بيت المال؛ لأن الغرم بالغنم، فلما كان عامة المسلمين هم المنتفعين بهذه الأماكن كان الغرم عليهم، فيدفع من مالهم الموضوع لهم في بيت المال. وكذلك إذا قتل شخص في زحام طواف أو مسجد عام أو الطريق الأعظم ولم يعرف قاتله، فديته في بيت المال، لقول علي رضي الله عنه: لا يطل دم امرئ مسلم”([6]).
ولا خلاف بين العلماء في أنّ الإهمال والتفريط وترك الاحتراز لا يسقط الضمان ولا يبطل الديات والأروش، بل إنّ الحكم الثابت أنّ الخطأ والجهل والنسيان لا يسقط الضمان، وإنّما المرفوع بهذه الأمور وبالإكراه هو الإثم والعقوبة الأخروية، أمّا الضمان المترتب دنيويا لا يسقط بشيء منها، وقد ورد في كتب القواعد الفقهية والفروع عبارات كالمواد القانونة الصارمة، ففي المجلة وردت قاعدة بلفظ: “الإتلاف يستوى فيه الخطأ والعمد”([7])، وفي كتاب الاستذكار لابن عبد البر المالكى وردت قاعدة بلفظ “الأموال تضمن بالخطأ كما تضمن بالعمد”([8]) وفي عدة البروق للونشريسي بلفظ “التعدى على مال الغير يستوى فيه الجهل والعمد”([9]) وفي المحلى لابن حزم الظاهرى بلفظ: ” أموال الناس تضمن بالعمد والنسيان”([10])
فهذه القواعد المتناثرة بعضها ذكر مع العمد الخطأ وبعضها ذكر الجهل وبعضها ذكر النسيان، فتكون المحصلة أن “الضمان يترتب على الخطأ والجهل والنسيان كما يترتب على العمد” يقول العلامة السعدى: “الإتلاف يستوى فيه المتعمد والجاهل والناسى، وهذا شامل لإتلاف النفوس المحترمة والأموال والحقوق، فمن أتلف شيئاً من ذلك بغير حق فهو مضمون، سواء كان متعمداً أو جاهلاً أو ناسياً؛ ولهذا أوجب الله تعالى الدية في القتل الخطأ، وإنما الفرق بين المتعمد وغيره من جهة الإثم وعقوبة الدنيا والآخرة في حقه وعدمه في حق المعذور بخطأ أو نسيان”([11]).
وأشد من التفريط والإهمال وترك الاحتراز في إثبات الضمان التركُ الذي يكون فعلا إذا قُصد، فقد قرر الفقهاء قاعدة كلية نَصُّها: “الترك فعل إذا قصد”([12])، ولذلك قرر الفقهاء أنّ: “الشخص إذا كان عنده من الطعام أو الشراب زيادة على ما يمسك صحته، وكان معه مضطر فإنه يجب عليه مواساته بذلك الزائد فإن منع، ولم يدفع له حتى مات ضمن دية خطإ إن تأوّل في المنع وإلا اقتص منه … وقال اللخمي لا فرق بين التأويل وعدمه؛ فعلى المانع الدية في الحالتين”([13]).
ولأجل أنّ الإهمال والتفريط وترك الاحتراز وعدم الاحتياط يترتب عليه الضمان ولا يسقط بسببه؛ ذهب جمهور العلماء إلى أنّ من مات بتعزير الإمام فإنّه لا يهدر دمه، لكن الخلاف فقط: أَتَخرج ديته من بيت المال أم تُخرجها عاقلة الإمام؟([14]). بل ذهب الكثيرون منهم إلى أنّ الإمام إذا جلد شارب الخمر فمات وَدَاه من بيت المال، برغم أن العلماء اتفقوا على أنّ إقامة الحد إذا ترتب عليها موت المحدود لا يثبت بسببها الدية([15])، والفرق هو أنّ الحدود منصوصة ومقدرة في كتاب الله، أمّا حد الخمر والتعازير فهي اجتهادية تخضع لتقدير الحاكم، ومن ثم يضمن لاحتمال ألا يكون قد احتاط أثناء التقدير لسلامة النفس، وقد روى البخاري عن عليّ قوله: «مَا كُنْتُ لِأُقِيمَ حَدًّا عَلَى أَحَدٍ فَيَمُوتَ، فَأَجِدَ فِي نَفْسِي، إِلَّا صَاحِبَ الخَمْرِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ وَدَيْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ»([16]).
فإذا ما أسقطنا هذا السياق الشرعيّ المحكم على واقع حوادث القطارات في مصر تبين لنا بوضوح أنّ كل ضحايا هذه الحوادث لهم حقوق مضمونة من المال العام للدولة؛ وهذا هو أقل ما تؤخذ به الدولة على فرض أنّ الأمر لم يصل من رأس الدولة ونظامها إلى حدّ الترك الذي يكون فعلا إذا قصد، فمجرد الإهمال وترك الاحتراز وعدم الاحتياط لأرواح الناس يترتب عليه الضمان، وهو الدية الكاملة لكل قتيل، والأرش بحسب حال الإصابة للمصابين، مع إيقاع عقوبة تعزيرية على الموظفين المتسببين بما فيهم الوزير المسئول، وأكبر دليل على الأهمال وترك الاحتياط وعدم الاهتمام أو الاكتراث هو تكرر هذه الحوادث بشكل يؤكد تورط الدولة بمؤسساتها في دماء المواطنين.
والدية مائة ناقة باتفاق، أو ألف دينار من الدنانير التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدينار يساوي اليوم 4.25 جراماً من عيار 24 أي أنّ الدية مقدارها 4250 جراما فإذا ضرب في 57 دولار ثمن الجرام الواحد كانت الدية 242 ألف دولار أمريكي تقريباً. فإن قال قائل – وكم بالمقولات من ترهات – إنّ الدولة فقيرة لا تستطيع، أجابته القصور الشاهقة المنتشرة في طول البلاد وعرضها، وأجبناه: إنّما أفقرها الذين أرخصوا دماء أبنائها، وإنّها لجريمة كبرى ترتكب في حق الوطن والمواطنين بل في حق الإسلام والمسلمين أن تقوم الدولة بإهدار دماء الرعية وأموالها، هذا بيان للناس وإعذار إلى الله، ثم دعوة لشيخ الأزهر الذي يشتغل بأمور يكفي لها صغار طلاب العلم الذين لم يظفروا هم ولا علماء الأمة جميعا بمثل ما يتمتع به هو من الحصانة القانونية والدستورية والشعبية والدولية، أدعوه للجهر بالحق في هذه القضايا الكبرى، وإلا فليقلل من الحركات التلفزيونية التي تعجب الجماهير ويلزم مكتبه حتى يطويه الموت أو الفوت.
([1]) قرار رقم 145 بشأن العاقلة وتطبيقاتها المعاصرة في تحمل الدية
([2]) المادة 35 من مشروع الدستور الإسلامي الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية بقرار من الإمام الأكبر عبد الحليم محمود رحمه الله عام 1978م
([3]) متفق عليه صحيح البخاري (9/ 75) صحيح مسلم (3/ 1292)
([4])الموسوعة الفقهية الكويتية (33/ 168)
([5]) مسند أحمد مخرجا (26/ 298)
([6]) الموسوعة الفقهية الكويتية (21/ 92)
([7]) مجلة الأحكام العدلية م / 1433.
([8]) الاستذكار 22/271.
([9]) عدة البروق ص 335.
([10]) المحلى 7/414.
([11]) القواعد والأصول الجامعة للسعدى ص 48.
([12]) المنثور للزركشي 1/284
([13]) ر: الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 112) بتصرف واختصار
([14]) ر: نيل الأوطار (7/ 173)
([15]) ر: شرح السنة للبغوي (10/ 339)
([16]) صحيح البخاري (8/ 158)