الدجل (النهضويّ!)

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

ما كنت أتوقع أن يأتي الدَّجَلُ في صورة فكر نهضويّ؛ حتى قرأت وسمعت لبعض دعاة العصرانية ومفكري النهضة، وهم يمارسون – بالوكالة عن الأمة – مراجعات فكرية، ليس فيها إلا جلد التراث وتعليق التجارب على أعواد المشانق، وعلى التوازي يمارسون التمجيد الدائم ل (هُبَل) وتلميعِهِ ونفضِ الترابِ عن وجهه الكئيب! هذا في حدّ ذاته ليس مزعجًا؛ فالهزيمة النفسية صنعت ولا تزال تصنع النماذج التي لا تُتْقن إلا فنّ التطويع والتركيع، تطويع ثقافة المغلوب للغالب، وتركيع واقع المغلوب لواقع الغالب، لكنّ المزعج والمخيف هو افتتان كثير من فتيان الأمة وفتياتها بهذا اللون الجديد من الدجل العريض.

    إنّ النموذج الغربيّ الذي تمجده النُّخَب العربية من دعاة (النهضة!) هو في حقيقته (هُبَل) العصر، وفي الوقت الذي تسعى الأمة للفكاك من أسر هذا الطاغوت، وللخلاص من أغلاله وقيوده؛ نرى الكثيرين ممن يضعون لنا (مشروع النهضة!) يجتهدون في تلميعه والاعتذار عنه، وتسويغ ما يمارسه من عسف وجور، وما يقوم به من عدوان غاشم على الأمة ومقدراتها وثقافتها ودينها، وفي المقابل يُقَدِّمون تاريخنا وواقعنا على أنّه مصدر كل شر أساس كل بلاء؛ فإلى أيّ وجهة يأخذنا هؤلاء الأدعياء؟!

    في لقاءٍ له على قناة من قنوات “اليوتيوب” سُئل “جاسم سلطان”: هل الغرب لديه مسوغات مقبولة لما يفعله في المنطقة؟ ما الذي يحمل الغرب على أن يظلم ويبطش ويخرب في بلادنا؟ فجاء الردّ معبأً بهذه الجمل القاصمة لفقار الظهر: “المشكلة الحقيقية هل نحن نريد ديمقراطية أصلا .. الرسائل التي نرسلها للآخر ما هي وما محتواها .. لو حصرت خطب الجمعة في بلادنا وما فيها من كراهية وعداوة للغرب .. عندما ينظر الغرب فيرى عندنا مجموعات تنادي بأننا أمة فاتحة فمن طبيعي أن يتحرك لإيقاف هؤلاء الفاتحين عند حدهم”!!

    وكأنّ السائل تفاجأ بالإجابة التي بدا أنّ الرجل يخص بها الواقع العربيّ؛ فأراد أن يلفت نظره إلى أنموذج من العداوة المبتدأة؛ فسأله: وماذا فعلت تركيا حتى تصنع أمريكا معها ما تصنع إلى حد دعمها للانقلاب الفاشل؟ وبعد محاولات بائسة في تصحيح النظرة إلى موقف أمريكا انطلق في ذات الاتجاه قائلا: “الذاكرة التاريخية تقول: إنَّ تركيا هي الدولة الفاتحة .. وهذا هو الفضاء المخيف .. كل من الفريقين ينظر للآخر من خلال ذاكرة التاريخ .. ماذا يجب على الطرفين؟ .. يحب عليهما فهم التاريخ مع إمكانية تجاوز هذا التاريخ وإلا خرجت لك داعش ..”

    هكذا! .. نحن – إِذَنْ – من استفزّ الأسد وعبث له عند أنفه؛ فلنتحمّل ما يجري لنا دون أن نجرؤ حتى على اتهامه بالعدوان، فما فَعَلَهُ الغرب بنا مجرد ردّ فعل لما يصدر منّا، ونحن والغرب نتقاسم فضاءً مرعبا في ذاكرة التاريخ، ونحن والغرب مدعوون لتجاوز التاريخ المليء بالفتوحات، فلنتجاوز نحن عمّا فعلوه بنا ليتجاوزوا هم عمّا فعلناه بهم، لنتجاوزْ إذن؛ فلا استعمارًا زحف على بلادنا وقسَّمها واحتلها عقودا طويلة مارس فيها العسف والخسف والتغريب والتصليب والابتزاز للثروات والامتصاص للمقدرات والمقررات، ولا كيانًا صهيونيّا انغرسَ في خاصرة أمتنا ودُعِمَ إلى أن صار سرطانا متفشيا في أحشائها، ولا عدوانًا أمريكيّا مَزَّق العراق ومسخ ديموغرافيته مسخًا لا اعتدال بعده ولا استقامة، ولا تربصًا وقع بالربيع العربيّ فأطاح بآمال الشعوب وبدّد أحلامها قبل أن يبدد شملها، لا شيء من ذلك وقع، أو لا شيء من ذلك حيث وقع له قيمة أو وزن، ولو في مجرد الحكم على الآخر ومعرفة سلوكه وطباعه!!

    لكن دعونا من شأننا؛ فنحن قوم لا نكف عن اللعب تحت أقدام الكبار بما يجلب علينا الخراب والدمار، وتعالوا ننظر إلى العالم الآخر، الذي لم يكن له مع الغرب تاريخ مرعب مليء ب”الفتوحات!”، ماذا فعل الغرب بالعالم من غير المسلمين “المذنبين”، ماذا فعل في أفريقيا التي ربما لم تر يوما “سحنةً” بيضاء، غزتها ومزقتها وسحلتها، وسرقت ثرواتها وقتلت شعوبها، ولا تزال لليوم تتقاسم حظوظ الابتزاز والهيمنة والاغتصاب لكل الثروات، وذلك كله بعد أن اقتادت منهم 210 مليونًا تم اصطيادهم وبيعهم في أسواق النخاسة؛ ليبنوا بسواعدهم السوداء المتينة حضارة السيد الأبيض، وفي النهاية وبعد أن وضعت “الذاكرة التاريخية” أوزارها يرفض الغرب في صلف مجرد تقديم الاعتذار للقارة المنهوبة المنكوبة.

    فإذا ابتعدنا أكثر عن منطقتنا العربية الآثمة تاريخيا وواقعيا، وعبرنا الأطلسي من أفريقيا؛ لتلقي بنا أمواجه العاتية فوق صخور القارة الأمريكية الجنوبية والوسطى، فسوف نسمع من الروايات ما يشيب له شعر الوليد ويقشعر منه شعور الجامد البليد، لا لشيء إلا لمجرد الخوف من تجارب “ديمقراطية” ستكون سببًا في نهوض البلاد وفي وقف الابتزاز الأمريكي لها، يقول الكاتب (الأمريكي) نعوم تشومسكي: “فقد أعاقت الولايات المتحدة بعض الحكومات البرلمانية، وأسقطت بعضها، كما حدث في جواتيمالا عام 1945م وتشيلي عام 1972م، ولم يكن القتل العادي هو عمل القوات التي حركناها في نيكاراجوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو جواتيمالا – ولكنه كان بصفة واضحة قتل القسوة والتعذيب السادي: تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وفضّ بكارتهن، وقطع الرؤوس وتعليقها في الخوازيق، ورطم الأطفال بالجدران حتى يموتوا”([1])!

    ومن الصحفي الأمريكي “نعوم تشومسكي” إلى البرلمانية الكندية “نعومي كوين”، التي تعزو كل ما وقع للمنكوبين في المخروط الأمريكي الجنوبي إلى طغيان الرأسمالية النيوليبرالية، التي تقوم عن عمد بإحداث تلك الصدمات؛ لتهيئ الأوضاع لتغييرات جذرية تقبل بههيمنة الرأسمال، ولو بانقلابات عسكرية تطيح بالحكم الدستوري، تقول في كتابها “عقيدة الصدمة”: “كان الإخفاء عن وجه الأرض بحلول منتصف السبعينيّات قد أصبح الطريقة الأولى لتطبيق نظرية مدرسة شيكاغو على امتداد أراضي المخروط الجنوبي، ولم يمارسها أحد بالحماسة التي مارسها بها الجنرالات الذين حكموا القصر الجمهوري؛ ففي نهاية حكم هؤلاء كان قد اختفى ما يقارب ثلاثين ألف شخص، رمي العديد منهم – على غرار نظرائهم التِّشِيليّين – من الطائرات في المياة الموحلة”([2])!

    ولْيسمحْ لنا المفكر النهضويّ أن نغوص في “ذاكرة التاريخ”؛ لنذكر أمريكا التي تقود الغرب (الديمقراطيّ) بما فعلته بأمّة من البشر خلقها الله وأورثها القارة قبلهم، أين ذهبت أمة “الهنود الحمر” وما الذي جنوه حتى يتم محوهم من الوجود محوًا على يد رعاة البقر الغلاظ المناكيد، بتشجيع من قادة الغزو الأمريكي والغربيّ لأرض الله باسم الكشوف الجغرافية، فهل سبق لهم أو للأفارقة السود فتح أوربا إلى حدود النمسا؟ كما فعل الأتراك الذين يجب عليهم – حسب رؤية المفكر النهضويّ! – أن يعتذروا، أو يتجاوزوا عما يجري لهم اليوم لقاء التجاوز عما وقع منهم أمس.

    وحتى شعوبهم لم تَسْلَمْ منهم، فالخمسون مليونًا – حسب الإحصاءات الأكثر تفاؤلا وتساهلا – الذين قتلوا في الحرب الثانية أكثرهم من المدنيين الأبرياء، من شعوبهم وشعوب العالم، حيث ارتكب الطرفان – ولاسيما الحلفاء – جريمة تدمير المدن فوق رؤوس الناس للضغط على الخصم، هذا سوى من قتلوا في الحرب الأولى وفي حروب أخرى دارت رحاها في القارة الأوربية، وراح ضحيتها نساء وأطفال وشيوخ وأجنة في أرحام أمهاتها؛ لا لشيء إلا لتلبية أطماع الزعامات، وترجمة خصومات المذاهب.

    أمّا ديمقراطيتهم التي تعيرنا بها فلا نريدها؛ فاملأ بها “فضاءك” الحالم؛ لا نريدها لأنّنا يوم أن أردناها وطلبناها مزقونا في بعض بلادنا وانقلبوا علينا في بعضها الآخر، لا نريدها لأنّهم لا يريدونها لنا، فإن كنت مُكَذِّبي فاسأل التاريخ، فإن لم يسعفك لكونك تعودت أن تباردر إلى جلده ولا تتريث معه فاسأل الواقع؛ فهو أصدق شاهد، فإذا وجدت التحول الديمقراطي الذي جاء بكرزاي والمالكيّ وأمثالهما قد غمر أمَّتنا بنعيم الديمقراطية ثم تبين لك أنَّ نَبْتَة الديمقراطية في مصر بعد ثورتها قد تَعَهَّدها الاتحاد الأوربي بالرعاية والعناية؛ فأنت على حقٍّ وتستحقّ أن نغير لك حقائق التاريخ لتوافق مذهبك، ثم تحامل على نفسك واسأل كل الأنظمة المستبدة التي حكمتنا عقوداً بالوكالة عن الاستعمار مُتَغَنِّيةً كلها بمبادئ الديمقراطية، فإن عُدْت بعد طول البحث والتحري بخفي حنين فاقعد واسمع مني.

   إنك يا سيدي، وسائر من يقول بقولك – وإنّهم لَكُثْرٌ – تَجْرُون وراء سراب، وتَجُرُّون الأمّة كلها للجري وراءكم، لكنّ الفرق بينكم وبين من يجري وراءكم أنّهم يرونه ماءً، وأنتم ترونه سراباً، وهل يخفى على مثقف مثلكم ما صَدَّرته أمريكا للعالم من أهوال، باسم التحول الديمقراطيّ، وباسم الدفاع عن حقوق الإنسان، وهل تجهل أنّها في أغلب ممارساتها استظلت بمظلة هيئة (الرمم) ؟!

   إنَّني لا أرفض كل ما جاءت به الديمقراطية، وأبادر إلى توضيح حقيقة تساعدنا على سرعة الخروج من هذه النقطة، وهي أنّ الديمقراطية وافقت الإسلام في ركن من أركان  النظرية السياسية وخالفته في ركن، وافقته في مبدأ الشرعية السياسية، وفي أنّ الأمّة مصدر شرعية الحاكم ومصدر السلطات، وخالفته في عنصر السيادة، السيادة التي هي – حسب تعريف جان بودان – التفرد بالحقّ في إنشاء الخطاب الملزم، والملاحظ باستقراء الواقع والتاريخ المعاصر أنَّ المالك الحصريِّ للديمقراطية يُصِرُّ على أن يهبك منها ما يخالف شريعتك “السيادة”، ويحرمك مما يوافقها “الشرعية السياسية”، فهل تجرؤ أن تخالفني؟

    إنّ الديمقراطية التي لا تأتي على هوى الغرب وأمريكا محارَبَةٌ لا محالة، هكذا تقول سياستهم المرئية والمسموعة والملموسة والمحسوسة، فلسنا بحاجة – لاستفاضة العلم بسلوكهم – إلى شهادة تشومسكي الذي يقول: “نستطيع مما سبق أن نفهم بسهولة سياسة الولايات المتحدة في العالم الثالث؛ نحن نعارض بمثابرة وإصرار الديمقراطية إذا كانت نتائجها خارج نطاق سيطرتنا”([3])!

    وأمّا “داعش” التي تلوح بها فتلك بضاعة وصناعة شاركتم في إنشائها وترويجها مع الغرب المجرم، لأنّها في أصل نشأتها لم تكن سوى ردَّ فعل لأفعال وأقوال، لأفعال إجرامية وأقوال انهزامية، فأمّا الأفعال فمنهم وأمّا الأقوال فمنكم، فسامحكم الله وهداكم، وانتقم الله منهم ومن داعش على حد سواء، وإذا كنّا نحن المسلمين نُعَيَّرُ بداعش فالذي تعلمه أنت ولا يعلمه الكثيرون هو أنّ التنظيمات المشابهة لداعش تملأ الغرب وعلى رأسه أمريكا، لكنّني سأحدثك عمَّا هو أهم.

    إنّ الدعشنة هي روح الغرب كله وفي القلب منه أمريكا زعيمة العالم، فإن كنت في ريب من ذلك فاسأل الغرب نفسه، ألم يأتك نبأ الكتاب الذي بيع منه 18 مليون نسخة وظل على مدى السبعينيات يحتل المركز الأول في مبيعات الكتب بأمريكا؟ وهو كتاب “نهاية أعظم كرة أرضية”! ل “هول لندسي” ذلك الكتاب الذي يؤصل بنصوص توراتية لنظرية نهاية العالم في معركة هرمجدون، وقد كان من قراء هذا الكتاب الرئيس الأمريكي “ريجان”([4])!

    إنّه لمن الأجدر بك – وأنت مفكر مشهور وتملك تواصلات هائلة – أن تدعو لمحاكمة الغرب، أن تدعو لمحاكمة عالمية للغرب، تشارك فيها قامات فكرية وحقوقية وسياسية عالمية، فإن أبيت وسخرت من دعوتي فسوف ترى في الغد من يعرض هذا المقترح من مفكري الغرب أنفسهم، كهذا الذي يقولها بصراحة: “إنّ اكتشاف الغرب وبقاءه تأسَّسَا على الإنكار الكبير لحقيقة عدوانه وشره” “ويكون الموقف الحاليّ بتجاهل هذه الأحداث وتجنبها وحظرها وعدم التأمل فيها كجزء من تاريخ الغرب في تصور الغرب لذاته؛ إنّهم يحتاجون إلى اهتمام عاجل”([5])!

    أمّا تصوراتك عن الفتوح الماضية والمستقبلة فأتركه للقارئ؛ لعله يجد فيه فسحة للتندر، والسلام.


([1]) راجع: ماذا يريد العم سام؟ – نعوم تشومسكي – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – مصر – ط أولى 1998م – صــــ21

([2]) عقيدة الصدمة “صعود رأسمالية الكوارث” – نعومي كلاين – ترجمة نادين خوري – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت لبنان ط الثالثة 2011م – صـــــــــــ 134

([3]) ماذا يريد العم سام؟ – نعوم تشومسكي – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – مصر – ط أولى 1998م – صــــ20

([4]) راجع: النبوءة والسياسة – جريس هالسل – ترجمة محمد السماك – دار الشروق – القاهرة – ط ثانية 2003م – صــــ 18

([5]) راجع:  إعادة التفكير في الحداثة – جيرمندر ك بامبرا – ترجمة ابتسام علام وحنان حافظ – المركز القومي للترجمة – ط أولى 2016م – صـــ 121