كم نحن بحاجة إلى إحياء الربانية! كم نحن بحاجة إليها في خضم هذا الصراع الذي نحياه منذ عقد من الزمان أو يزيد! كم نحن بحاجة إليها؛ لتحيا قلوبنا، وتقوى عزائمنا، ونقدر على مواجهة التحديات والتصدي للتحولات والتقلبات! كم نحن بحاجة إليها وقد صار حال كل ساعٍ في خير منّا كهذه الحال التي يصورها المتنبي الشاعر: رمــاني الدهـــــــر بالأرزاء حتى … فؤادي في غشـــــــــــــــــــــاء من نبالي
فصرت إذا أصابتني ســــهام … تكســرت النصـال على النصال
وهــــان فمــــا أبالي بالرزايـا … لأنّي مــــــا انتــــــفعت بأن أبالي
والربانية التي ننشدها لها معنى قريب، وهو صحيح كلّ الصحة، غير أنّ هذا المعنى القريب له اتساع وشمول وله عمق وتأصيل، فلنبدأ أولا بالمعنى البسيط القريب قبل أن نذهب إلى المعنى الواسع العميق، وهو في الحقيقة معنى رائع رائق، فالربانية هي الانتساب للرب بالطاعة والذكر والعبادة والشكر وبالتسبيح والتحميد والتهليل والتمجيد والسياحة في آفاق الروحانيات العالية.
ولا ريب أنّنا بحاجة إلى هذه الربانية في صورتها هذه البسيطة وفي معناها المباشر هذا؛ لماذا؟ لأنّنا لم نَعُدْ – في ظل ما نعانيه من صراع خشن – نتحمل قسوة القلوب، وجفاف الألسنة، وجفوة الطباع، وما ترتب على ذلك من ضعف الروابط، وهشاشة الأواصر، وتهتك الصلات، وانهيار بنيان الأخوة، لم نعد نتحمل ذلك من أنفسنا، ليس هذا وحسب وإنّما لم نعد نصلح – إن استمر الحال على ما نحن عليه الآن – لمواصلة الطريق وللمضي قدما نحو الغاية االتي ننشدا ونريدها، الغاية الأخرية والأخرى الدنيوية: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ (13)) (الصفّ: 12-13).
وقد كان القرآن ينزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخوض الصراع ويعاني من كنود الجاهلية وجحودها حتى ليكاد من شدة المعاناة أن يقتل نفسه؛ كمّا عبر القرآن: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 3) (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف: 6)، فكان القرآن الكريم يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بستان الربانية ليستروح به، ويستعين بعطائه على هذه المعاناة، وعلى مواصلة الطريق، وقد تكرر الاقتران بين الأمر بالصبر على خشونة الصراع وتبعاته وبين التَّرَيُّضِ في ساحات الربانية الرحبة، على هذا النحو اللافت للنظر:
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) (ق: 39-40)، (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (طه: 130)، (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)) (ص: 17-20)، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)) (الطور: 48-49)، (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)) (الحجر: 97-99).
أبعاد أكثر عمقاً
هذا على الرغم من أهميته ليس البعد الأهم والأخطر في مسألة الربانية، فهناك أبعاد أكثر عمقا وأعمق أثرا، فلنذهب إلى الآية القرآنية التي دعت إلى الربانية، وللنظر فيما أحاط بنزولها من ظروف كانت سببا في نزول آل عمران من أولها إلى نيف وثمانين آية من بدايتها، قال تعالى: (مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)) (آل عمران: 79-80).
والسبب في نزول هذه الآية أنّ وفد نجران الذين نزل فيهم صدر سورة آل عمران فهموا دعوة النبي لهم بالدخول في الإسلام على طريقتهم المعتلة، فقالوا: يا محمد أتريدنا أن نعبدك؟ ففهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ القوم متأثرون بمنهجهم السقيم، فقد عبدوا المسيح عليه السلام من قبل، وهو منهج مناف لمنهج التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي جاء به جميع الأنبياء بما فيهم المسيح عليه السلام، فقال: معاذ الله أن أدعوكم إلى عبادة غير الله تعالى، أو كما قال؛ فنزلت الآيتان.
وقد وردت عن العلماء من لدن الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يومنا هذا عبارات متباينة في تفسير كلمة “ربانيين” فاتجه بعضهم إلى تحرير الجذر اللغويّ؛ فقرروا أنّ الربانية جذرها كلمة “ربّ”، فهي نسبة إلى “ربّ” مع زيادة الألف والنون، وزيادة الألف والنون هنا لها دور بلاغي لعله إكساب اللفظ فخامة، فبدلا من أن نقول ربيّ نقول رباني، وبدلا من أن نقول ربيون نقول ربانيون، فعلى هذا يكون الربانيون هم المنسوبون إلى الربّ تبارك وتعالى، وتكون الربانية هي الانتساب إلى الربّ.
لكن بأي سبب ينتسب الربانيون إلى الربّ تبارك وتعالى؟ هنا يأتي دور التفاسير التي لم تركز على الجذر اللغويّ لافتراضها استقراره من حيث الأصل، وذهبت وراء الوصف الذي يميز الربانيين، فقال بعضهم: كونوا ربانيين أي: كونوا علماء حكماء، وقال آخرون: علماء أتقياء، وقال آخرون وآخرون كلاما قريبا من هذا وذاك، لكنّ الذي نستفيده من جملة ما قالوه أنّه بغير العلم لا تتحقق هذه النسبة، وبالعلم وحده لا تتحقق، إنّما لابد من اجتماع العلم والعمل، العلم والتقوى، العلم والحكمة.
غير أنّ من المفسرين ولا سيما المتأخرين منهم الذين استفادوا من كلا الاتجاهين من توسع في تفسير الربانيين توسعا يستفيد من المعاني الواردة عن القدماء ولا يلغيها، فقالوا: إنّ الربانيّ ينتسب إلى الرب بالعبادة والطاعة والعلم والتقوى والحكمة، كما ينتسب إليه بالعمل العام الذي يأتي على وفق منهج الله، فهذا عالم ربانيّ لأنّه يربي الناس على وفق منهج الله، وهذا حاكم ربانيّ لأنّه يحكم الناس ويسوسهم على وفق منهج الله، وهذا جيل ربانيّ وهذه أمة ربانية .. وهكذا ..
دعوة للتحرر
نحن نريد – انطلاقا من هذا المعنى بسعته وشموله وعمقه – أن تكون الربانية سمة عامّة لنا جميعا، نريد أن نحرر الربانية من الأطر الضيقة الحرجة التي احتكرتها دهرا طويلا فأحسنت وأساءت، أحسنت حين حاولت أن تتصف بها في كافّة أنشطتها، وأساءت حين أدلجتها وجعلتها حكرا على الطائفة أو ملكا حصريا للجماعة، إنّ الربانية طاقة عملاقة لا تقبل الأدلجة ولا تخضع للملكية الحصرية، ولقد امتدحها القرآن في سياق يشعر بامتدادها مع كل جيل يرفع راية الحق: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146)، والربيون هم الأعداد الكبيرة والجموع الغفيرة من الربانيين المنسوبين للرب تبارك وتعالى.
ولكي تتحقق لنا هذه الصفة ونحوز هذه الطاقة الجبارة (الربانية) لابد لنا من الموافقة لمنهج الله تعالى، فإن استوفينا هذا الشرط في أي ميدان كنّا فيه حققنا الربانية، إنّ الذي نزع عن الوفد النجرانيّ صفة الربانية هو مخالفتهم لمنهج الله؛ لذلك جاءت الآية على هذا النحو: (مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) فالكتاب والحكم والنبوة هي الأوعية الحافظة لمنهج الله تعالى؛ فلنتوجه إليها بتجرد وبلا عصبية ولا عنصرية، فمن بذل وسعه في الالتزام بمنهج الله الذي جاء فيها فهو ربانيّ في موقعه، عالم ربانيّ وصحفي ربانيّ وحاكم رباني وحكومة ربانية ووزارة ربانية وهكذا، فليس ثم ما يدعو لحصر هذا المعنى الكبير ولا لاحتكاره.
وأخيرا .. هذه دعوة للتحرر والانطلاق؛ فقد اكتشفنا أنفسنا ووقفنا على أسباب الإعاقة، فالآن نخرج من ضيق المعاني المحتكرة إلى سعة المعاني الكبرى التي تسع الأمة كلها إن أرادت، وسوف تريد بإذن الله.