ما أكثرها! وما أبشعها! تلك الصور الفاسدة من الزواج العرفيّ الذي شاع في هذا الزمان؛ كم إنّنا بحاجة ماسّة، ليس لمراجعة ما يقع وما يشيع منها وحسب، وإنّما لمراجعة تلك الأوبئة النفسية الوخيمة التي لا تمثل الأنكحة الباطلة إلا انعكاساً من انعكاساتها الوبيلة في واقع الحياة! لقد صارت جريمة الزنى تمارَس في مجتمعات المسلمين في صور من الأنكحة العرفية، توشك أن تستقرّ فيها استقرار الزنى الصريح في المجتمعات الجاهلية، فما موقف الشرع منها؟ وهل من سبيل إلى حل هذه المعضلة؟
الزواج العرفيّ.. وحكمه
الزواج العرفيّ زواج تَعَرَّى عن الإجراءات الرسمية القانونية المدنية، فلا تسجيل في دفاتر الدولة، ولا حضور لقاضٍ أو مأذون، ولا استخراج لأوراق رسمية تثبت الزواج، وتضمن حقوق الزوجين وأولادِهما الذين سينحدرون من هذا الزواج، وسُمِّي عُرفيًّا لكونه ينعقد في مجالس غير رسمية، تُسمى عادة بالمجالس العرفية، وليس لجريان العرف به، فإنّ العرف الغالب جرى بعكسه، وقد تباينت صورُه وأشكاله، بدءًا من النّكاح الذي يحضره الشهود العدول والوليُّ ويُجريه ثِقَةٌ يفقه النكاحَ وما يُشترط له، وانتهاءً بتلك الصور الساقطة التي لا يتحقق فيها شرط واحد من شروط النكاح الشرعيّ فضلاً عن الأركان الأساسية.
فإن استوفى العقدُ أركانه وشروطه وَسَلِمَ من المبطلات؛ فهو عقد شرعيّ تترتب عليه كل آثار النكاح، من قيام الزوجية، وحلّ الاستمتاع بين الزوجين، وثبوت النسب للولد، وثبوت المهر والنفقة والتوارث، وانتشار الحرمة بالمصاهرة، وغير ذلك، ويبقى على الزوجين واجبات إن اختلت لا تضر بصحة النكاح، كاتخاذ إجراءات على وجه الاستدراك؛ لضمان الحقوق المدنية للزوجة والأولاد، وحماية الأسرة من مشكلات الضياع في متاهات الحياة خارج التَّرسيم، هذا إذا وقع النكاح مستوفياً الشروط والأركان.
أمّا إذا فقط شرطاً أو ركناً أو تَلَبَّس بمانع فهو نكاح باطل يجب فسخه، وإذا وقع دخول بعقد فاسد كهذا؛ فإنّ هذا العقد يكون شُبهةً، والشبهةُ إمّا أن تسقط الحد وتمحو وصف الزنى، وإمّا أن تسقط الحدَّ ولكن لا تمحو وصف الزنى، وإمّا ألا تقوى على إسقاط الحد أصلاً، ففي الحالة الأولى يَثْبُت المهر ونَسَبُ الولد، وفي الحالة الثانية يثبت المهر أيضاً، وعند الكثيرين يثبت نسب الولد -على خلاف الأصول- احتياطًا لحق الولد، وفي الحالة الثالثة لا ثبوت لمهر ولا نسب، ويثبت حدّ الزنى عليهما بشروطه المعروفة، وفي جميع الحلات يُفسخ العقدُ ويُفَرَّق بينهما في الحال، وتعتدّ المرأة -على خلاف في بعض الحالات- للاستبراء، هذه هي الجمل الثابتة في المسألة، جُلُّها متفق عليه وبعضها راجح رجحاناً قوياً.
ثوابت عقد النكاح بين الشروط والأركان
اختلف الفقهاء في تصنيف الأركان والشروط، لكن من تأمّل أقوالهم لم يجد بينهم في أصل المسألة كبير خلاف، فما لا يَعُدُّه الكثيرون من الأركان أدرجوه ضمن الشروط، والأركان والشروط فئتان متقاربتان؛ لأنّهما تشتركان في أنّ عَدَمَهما يَلْزَم منه عدمُ العقد وبطلانُه، وما لا يَعُدُّه البعض شرطَ صحة وُضِعَ من الأحكام ما يجعله شرط نفاذ أو شرط لزوم؛ مما يجعلنا نخرج بسهولة من الخلافات الجزئية التفصيلية إلى جملة من الثوابت التي لا بد من توافرها في عقد النكاح العرفيّ حتى يصح، وهذا بيانها:
– إيجابٌ وقبولٌ تامّان واضحان متوافقان، ومتصلان في مجلس واحد، ومستوفيان شروط الانعقاد.
– الزوج أو وكيله ووليّ الزوجة أو وكيله، واشتراط الوليّ هو قول الجمهور، وهو الراجح الصحيح، وقول الحنفية يُحْتَرم؛ فمن عمل بمذهبهم فإنّ للوليّ عندهم طلب الفسخ في حالات منها عدم الكفاءة.
– الشاهدان؛ ويشترط في الشاهدين ما يشترط في الشهود في أحكام القضاء في الإسلام.
– الإعلان؛ فلا بد من إعلان النكاح، ولا يكفي الشاهدان لتحقق شرط الإعلان على الراجح الصحيح، ولا سيما إذا وقع تواطؤ على الكتمان؛ لأنّ النكاح وما يترتب عليه من أحكام أمرٌ اجتماعيّ.
– ألَّا يقوم مانعٌ؛ كثبوت الحرمة بين الزوجين بأيّ سبب من نسب أو رضاع أو مصاهرة.
– المهر؛ فالأصل أنّ لها الْمُسَمَّى في العقد أو قبله، فإن لم يُسَمّ مهرٌ ثبت لها مهر المِثْل لا وكس ولا شطط، فإن تزوجت المرأة بلا وليّ بطل الزواج عند الجمهور، أمّا عند الحنفية فيصح، لكن إن زوجت نفسها بأقل من مهر المثل فلوليّها حق طلب الفسخ أو رفع المهر إلى مهر المثل على خلاف بينهم في المذهب، وفي النهاية لا يجوز الاتفاق على إسقاط حقها في المهر.
أنكحة باطلة هي إلى الزنى أقرب
وإذَنْ؛ فكيف يكون نكاحاً ذلك الذي يقع بكثرة مزعجة في أيّامنا هذه، ولا يتوافر فيه شروط وأركان رئيسة لا يمكن القول بصحة النكاح -ولا حتى بسقوط الحدّ أو انتفاء وصف الزنى- مع عدمها وافتقادها، فهذه، مثلاً، فتاة قابَلَتْ شاباً في شارع مشهور فأعجبته وأعجبها، فقررا ألا تغرب شمس اليوم إلا وقد شملهما فراش الزوجية وأحاطهما بغطائه ووطائه، فانعطفا إلى أقرب مقهى، فأجلسها وطلب لها «النسكافيه» ثم خرج مسرعاً؛ فما لبث أن جاءها يسعى ومعه شخصان لا تعرف عنهما أكثر مما تعرفه عن ذلك الذي ستنزلق تحته بعرضها وشرفها بعد ساعة أو أقل، وسرعان ما نطقا بكلمتين مما يتردد في مجالس العقود الشريفة، ثم ما لبث أن أخرج من جيبه قلماً وورقة، وسَطَّر ذلك الإثم، ليُوَقِّع هذان الفاسقان في أدناه؛ ولينطلق بها من فوره إلى مخدعه، وما هي إلا شهور قلائل حتى جاءتني المسكينة لتشكو لي «زوجها!» الذي طار ولم تعرف له أرضاً.
وبعد لأْيٍ وصلت إليه وناشدته الله أن يصلح ما أفسد، فأنكرها وأنكر ما حملته في بطنها معها، ولم تكن تلك الواقعة إلا واحدة مما تعرضنا له في محيطنا على ضيق أرضه وانخفاض سمائه، والنتيجةُ ضياعٌ وهلكة، وفواحشُ تُرتكَب بالتحايل على شرع الله تعالى.
وخلاصة القول: إنّه يستحيل في محكمات الدين وثوابت الملة وعرائس الشريعة الواضحة أن يصح عقد نكاح خلا من الوليّ والشهود العدول والإعلان في وقت واحد، وهذا أغلب ما يقع فيما يسمى كذباً بالزواج العرفيّ، ولا يشفع لبعضها أن جُلبت لها شهود من رعاع الشوارع وصعاليك الأزقة.
أنكحة عرفية جديدة لم تسلم من البطلان
لن أخوض في الخلاف الدائر حول مدى صحة زواج المسيار والزواج مع إضمار نية الطلاق وغير ذلك من ألوان الأنكحة التي شاعت أخيراً، فالخلاف فيها معتبر ومحترم، وإن كان الاحتياط بتركها أولى؛ إذْ الأصل في الأبضاع والذبائح الحرمة على خلاف الأصل العام في سائر العادات، لكنّني سأتطرق إلى موطن الخطر الحقيقيّ، حيث يجري التساهل في الضوابط والشروط التي وضعها القائلون بحل هذه الأنكحة، والأصل أن ما جاز بتَقَحُّم الرخص لا يصح التوسع فيه بتخطي الضوابط، وسأقف فقط عند مثال واحد، وهو أنّ بعضاً ممن يمتطون صهوة الحكم بجواز النكاح مع إضمار نية الطلاق، يسافرون إلى بلد من بلاد شرق آسيا الفقيرة، فينكح الواحد منهم فتاة، ولا يصرح في عقد النكاح بما أضمره من نية الطلاق، ويعيش معها مدة سياحته في هذا البلد، ثم يطلقها بعد أن يعطيها «مهرها!»، ثم يرجع كأن لم يكن شيء! اعتماداً على القول بصحة هذا النكاح ما دام لم يصرح بالتأقيت في عقد النكاح.
فعلى التسليم بصحة الفتوى في أصلها؛ فإنّ هذا النكاح نكاح متعة، وهو باطل بلا ريب، صحيح أنّه لم يُصَرَّح بشرط التأقيت في عقد النكاح، لكنّ العادة جرت في هذه البيئات بهذا، فهو معروف عندهم ومعتاد بينهم، يستقبلون عرباً أثرياء، فيُنكحونهم بهذه الطريقة، والطرفان يعلمان بما يجري، وربما اتفقا عليه قبل العقد صراحة، وحتى لو لم يجر اتفاقهم فقد جرى به عرفهم، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، فهذا نكاح متعة يقع بالحيلة، والسيئة تضاعف مع الذريعة؛ لأنّها تلاعب بالشريعة.
العلل والأدواء التي تقود إلى هذه الموبقات
ليس وراء كل هذه الظواهر الرديئة إلا تيارات الشهوات التي تهبّ على المسلمين عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل، وليس لهذه الأدواء من دواء إلا عبر مسارين متلاحمين؛ الأول: تيسير النكاح، والثاني: بث روح المقاومة للشهوات، حيث إنّها غزوٌ أخطر من الغزو العسكريّ، والله المستعان.
المصدر : مجلة المجتمع