سبع سنوات مضت وانقضت من عمر هذا الجيل؛ فهل وجدنا في تاريخنا المعاصر فقرة زمنية مليئة بالأحداث الكبرى كهذه الفقرة؟ وهل شهدنا فيما مضى من عهدنا تناقضات أعنف مما شهدناه في هذه السبع العجاب؟ وهل مرّ بالناس طوال حياتهم على اختلاف أعمارهم مثل ما مر بهذا الجيل من ارتفاع وانخفاض وعلو سوفول وكرٍّ وفَرٍّ ونصر وهزيمة؟ إنَّها السنوات السبع الأكثر فتنة للأمّة في واقعها المعاصر في أغلب الأصقاع وعلى جميع الأصعدة، وإنَّه لَلْجِيلُ الذي تَحَمَّل وحده أغلب آثار الإخفاقات الماضية؛ فلا تثريب على الجيل ولا لوم عليه إذا وجدناه قد أصابته أدواء أو انتثرت على جسده بثور أو دمامل، وأيُّ محاولة لإخراجه في الصورة العامَّة على أنَّه تمزق وتشتت وانتهى أمره؛ هي محاولة بائسة مُبْئِسة.
ومع ذلك، فإنَّ كل من له اطلاع على الواقع، لم يتلق فيلم الجزيرة ذاك إلا بالاستنكار والاستهجان؛ إذ كيف يختزل حصاد السبع الشداد في أعداد من الشذاذ لو ضُرِبت في ألف لم تفلح المحصلة في جعل الشذوذ قاعدة ولا أصلا لآثار تلك الفترة؛ لأنَّ الغالبية العظمى لم تزدد بالأحداث إلا إيمانا ووعيا ونضجا وخبرة ورغبة عارمة في التغيير. هذا هو الأصل الذي لا يقلل من قيمته تعليق الثورة ولا التوقف المؤقت عن المقاومة، فإنَّ لذلك أسبابا ليس هذا موضع الحديث عنها، وما عدا هذا الأصل استثناءات ضرورية، وليست تلك الظواهر إلا أعراضا تقع لكل جيل من الخلق تحدث له أمثال هذه الحوادث المتقاربة زماناً، المتباعدة أثرا ونتيجةً.
وفي عهد النبوة وقعت انكسارات نفسية تدرجت من التساؤل الحاد إلى الانتكاس والارتداد، فهاهم أولاء خيرة الصحابة يتساءلون على أعقاب أحد في دهشة وعجب: “أنَّى هذا”؟! كيف نهزم ونُغْلَبُ ونحن أهل الله وخاصته؟! ويتطلب الأمر المدهش نزول قرآن يتلى: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَاٌ” (آل عمران: 165)، بل ويستدعي سيلا من الآيات يتدفق بالتثبيت والتربيت: “هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)” (آل عمران: 138-142).
وبمحاذاة هذا السيل المتدفق؛ حزمة من الضوء الكاشف تجلي وتظهر واقع النفس البشرية التي يعتريها الضعف أحيانا في أوقات الأزمة: “وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)” (آل عمران: 152-153).
ومن الثابت تاريخيا أنَّ البعض ارتد عن الإسلام إبان الإعلان عن رحلة الإسراء والمعراج؛ وما احتف بهذا الإعلان من تساؤلات تكذيبية روجها إعلام الجاهلية، وآخرين ارتدوا بسبب حادث تحويل القبلة وما أحاطه من شبهات أثارها إعلام اليهود، أمَّا الذين ارتدوا عن الإسلام على إثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن لم يتمكن الإسلام في نفوسهم، فقد بلغوا من الكثرة و”الزخم” أن صار أهل الثبات وسط أمواجهم الهادرة كغنيمات محاصرة في ليلة شاتية مطيرة حالكة الظلمة، ثم كان ماذا؟ انتصر دين الله وتمكن المسلمون من نواصي العمران البشري وملكوا أكناف الأرض، في أقل من عشرة أعوام.
وهذا الجيل الذي اكتشفته الثورة وأخرجته، وتربى في الميادين والساحات، وتعاقد وتعاهد وتآلف وتعاضد، هذا الجيل موجود وقائم. وإذا كانت الشعارات والأجندات قد خذلته، وإذا كانت القوارب الخاصة قد ألقت به في عرض المحيط فهو لا يزال حياً، ولا يزال يحمل في صدرة بذور الثورة وأنوية المقاومة. وفي اللحظة التي تكتمل فيها شروط استعادة المسار الثوري ستجده جاهزاً بارزً كأنَّه لم تصبه كبوة، وشروط استعادة المسار تنتظر دور الكبار، الذين يناط بهم توحيد البوصلة، ووضع الرؤية، ورسم ملامح المشروع الثوري الكبير، وتحديد المراحل، والتخطيط والترتيب والبعث.
والحديث عن عودة الثورة يجب أن يتوجه إلى استراتيجية خفض الزمن والكلفة، فكلما استقام المسار دنت الغاية وتدنت الكلفة، أمَّا النصر فهو قادم لا ريب في ذلك، ونصوص الوحيين قاضية به، ومعطيات الواقع تؤيد ذلك وتؤكده. فبرغم الآلام الجسام تبقى الأمة قادرة على العطاء، ولقد تبين للناس أنَّ هذه الأمة تزداد مع ازدياد الضربات يقظة ورشدا ويزداد شبابها لمعانا وبريقا، والله المستعان وعليه التكلان.