بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما أجملها وأروعها! كمْ هي حلمٌ رقراق، يداعب الأخيلة والأشواق! أكْرِم بمنبتها ومخرجها! ثم أكْرِم وأنْعِم بثمارها وأزهارها وظلالها الوارفة، حسبُها شرفًا أنّها نبتت مَنْبَتًا باهرًا ساحرا، فهي في اللغة( ) راجعة إلى أصلين، الأول: الاستخلاص والإظهار، الثاني: الجمال والحسن، ففي لغة العرب: شارَ العسلَ أي استخرجه من الخلية، والشارَةُ حسنُ المنظر؛ فهي – إذَنْ – استخلاص وإظهار أحسن الآراء بعد عرضها وتداول النظر فيها، أمّا في كتاب الله تعالى فقد وردت ملصقة بالمجتمع المثالي هكذا: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) وذلك في سورة مكيّة نزلت لتضع دستورا لأول مجتمع سياسيّ قائم على أرشد الدعائم.
مواضع النزاع وذرائع الضياع
لكنّها اليوم عَصِيَّةٌ أبيّة، تلوح للطامع كظبي جامح لا تناله السهام، وتبدو للعطشى كسحابة هائمة في السماء تبشر بالخير ثم تمضي لا تلوي على شيء، يظنها الناظر قريبة المنال بينما هي بعيدة الوصال؛ فهل نحن بالغوها يوما من الأيام؟ في الحقيقة ما أكثر القول وما أنْدَرَ الفعل! حتى القول والتنظير شابه الكثير من التشويه الخطير، ولعل أخطر ما تعرضت له الشورى في خطاب المعاصرين هو ذلك الخلاف المفتعل حول حكمها تارة وحول لزومها تارة أخرى، فهذا يقول بالوجوب وذاك يقول بالاستحباب، وكلٌّ يسوق من أقوال العلماء ما يظنّ أنّه ينتج له مدعاه، ثم لم تلبث – بعد أن وضعت الحرب الأولى أوزارها دون حسم – أن شبت حربٌ ثانية لم تُحسم للآن حول لزومها؛ أَهِيَ – سواء قُلْنا بوجوبها أو استحبابها – ملزمةٌ أم معلمة؟ أهي ملزمةٌ للحاكم أم هي مجرد آلية تُعْلِمُهُ بالصواب ثم هو سيد قراره؟
ونحن المسلمين وسط هذا الغبار والدخان ضائعون على المستويين العلميّ والعمليّ؛ فلا نحن – إذْ تَطَلَّعنا إلى التمكين – وضعْنا تصورا لمشروع إسلاميّ جامع تتوسطه الشورى كمبدأ سياسيّ واجتماعيّ جوهريّ، ولا نحن – إذْ سلكنا سبيل الدعوة والتربية عبر مؤسساتنا – نجحنا في تطبيق الشورى في مناشطنا ومجامعنا، لقد كشفت الأحداث الأخيرة عن تخلف شديد في الرؤية والحركة على السواء، فلا رؤية ناضجة ولا مشروع واضح المعالم، ولا ممارسة للشورى وفق آلياتها وأخلاقياتها التي تضمن سلامة المؤسسات العلمية والدعوية والاجتماعية؛ فغابت المؤسسية وغلبت الشخصنة على الأعمال الجماعية، وَوُجِد فينا آحاد يستطيع الفذّ منهم أن يبتلع مؤسسة في جوف شخصيته، كأنّهم ثقوب سوداء قابعة في قعر الفضاء، فإن نشطنا في شيء من أمر الشورى ففي جدل على الدوام حول الإعلام والإلزم!
الانقسام حول الإلزام والإعلام
ذهب كثير من العلماء والباحثين المعاصرين( ) إلى أنَّ الشورى ملزمة، وذهب آخرون من المعاصرين أيضًا( ) إلى أنَّ الشورى معلمةٌ فقط، وساق كل فريق من الفريقين أدلته، والعجيب أنّ كل واحد من الفريقين حاول أن يحوز الآية الكريمة في صفّه، وهي قول الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159]، فالقائلون بالإلزام قالوا: إنّ العزم هو الأخذ برأي الأكثرية أو الإجماع لأهل الشورى، والقائلون بعدم الإلزام قالوا إنّ العزم لا يكون إلا بأن يعمل بما عزم عليه سواء وافق أو خالف رأي المشيرين، والواقع أن الآية الكريمة ليس فيها – البتة – أدنى دلالة على أن الشورى ملزمة أو معلمة، فعبارة العزم التي وردت في الآية لا تفيد جواز مخالفة أهل الشورى ولا تفيد إلزاميّتها، وإنّما هي تنتقل بالشورى إلى دائرة التنفيذ؛ حتى لا تتحول الشورى إلى (مكلمة) لا ينبني عليها عمل في واقع الحياة، فليست الآية – إذن – مع أحد من الفريقين.
ومن عجيب ما استدل به الفريقان أيضا ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «لو اتفقتما في مشورة ما خالفتكما»، فالأولون أخذوه على ظاهره، والآخرون تأولوه على هذا النحو العجيب: “يفهم منه أن النبي يأخذ برأي أبي بكر وعمر إذا اتفقا في مشورة ولو خالف هذا جمهور الصحابة”( )، وهذا يعني عندهم أن رأي الأغلبية لا يعمل به، وأن الشورى غير ملزمة ولو كان المشيرون أغلبية! بينما الحديث أصلا ضعيف؛ لأن في سنده شهر ابن حوشب وعبد الرحمن بن غنم وعبد الحميد بن بهرام، والثلاثة، مُتَكَلَّمٌ فيهم( )، فهذا من عجائب الاستدلال في قضية مركزية كهذه! فإذا هجرنا هذا المنهج المتهافت وذهبنا إلى السوابق التاريخية وإلى مقاصد الشريعة طاشت كفّة القائلين بعدم الإلزام.
القول الفصل
إن القول بعدم إلزامية الشورى يفضي إلى إفراغ الشورى من معناها، وإلى التكريس للاستبداد والعسف، والدَّفْعُ بأن الشورى شُرعت لمعرفةُ الرأي الصواب( ) لا يُغني إلا كما يُغني من الجوع الاستياكُ بعود الأراك؛ لأن معرفة الرأي الصواب لاجدوى لها إذا كان الحاكم سيفعل ما بدا له خطئًا كان أو صوابًا، ومحاولة الهروب من شبح الاستبداد بالاتكال على أن «الشريعة الإسلامية من خلال نصوصها قد وضعت يدها على مفتاح الدكتاتورية والاستبداد وأغلقته بما شرطت من شروط في الحاكم»( )؛ هذه المحاولة هي عين التكريس للاستبداد؛ لأن الإمام مهما توافرت فيه الشروط ليس معصوماً، وشهوة السلطان تستبدُّ بولي الأمر إذا استبدَّ بالأمر دون الرعية، والشعوبُ إذا استسلمت لحكامها استسلامَ العباد لربهم حركت فيهم شهوة التألُّه، والرعيةُ إذا (تنعجت) فلا تلومَنَّ إلا نفسها إذا وجدت حكامها وبطانتهم ذئاباً ضارية، وإذا كنَّا لا نشك في أن السلطان للأمة، فلماذا نشك ونرتاب في أن الأمة لها أن تلزم الحكام بما أشارت عليهم به؟! لا مناص – إذن – من القول بإنّ الشورى حيث تكون في النظام السياسي فهي ملزمة وواجبة، وإلا فالإبطال لحكمة الحكم الشرعيّ لا مفرَّ منها.
السوابق التاريخية أقوى داعم للقضية
تقف جميع السوابق التاريخية شاهدة على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين رضي الله عنهم لم يخالفوا الشورى التي تقع في الشأن العام قطّ، بل إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل بها في غزوة أُحُدٍ عندما غَلَبَتْ ورَجَحَتْ “عدديا”، وخرج للقاء قريش خارج المدينة، على كراهته للخروج ورؤياه التي رآها وتأولها بأنّ المدينة تمنعه لو تحصن بها، ولم يؤثر عنه ولا عن أحد من خلفائه الراشدين الذين دلَّنا على سنتهم في الحكم أنّهم خالفوا ما قررته الشورى، وجميع ما يتعلق به القائلون بأنّ الشورى ليست ملزمة إنّما هي علائق هشّة أوهى من خيوط العنكبوت، فأمّا زعمهم بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خالف الشورى في الحديبية فهو محض جهل بسياق الأحداث، فقد شاور رسول الله الناس في المواجهة للمناوئين أو المضيّ إلى العمرة فمن قاتلهم قاتلوه، ومضوا على ذلك حتى بركت القصواء، فلما قيل: خلأت القصواء؛ قال النبيّ «مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا»( )، هذه الحادثة كانت بداية التحول، وبها خرج الأمر من حدود الشورى العامة … فإذا كُلِّم في ذلك قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري( )، فالأمر إذن لم يكن أمر شورى وإنّما كان أمرًا شرعيا، والشورى تتجانف عن الأحكام الشرعية بلا خلاف.
أمّا مُضِيُّ أبي بكر في قتال مانعي الزكاة برغم مخالفة الصحابة، فهذا لم يكن قطّ، لأنّ الحوار الذي دار بين الشيخين أبي بكر وعمر انتهى بقيام الحجة وانصياع الصحابة للدليل بما فيهم عمر، الذي أعلن ذلك صراحة: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَعَرَفْتُ، أَنَّهُ الْحَقُّ»( ) وإنفاذ بعث أسامة كان تنفيذا لوصية النبيّ والتزاما بنصه الوارد عنه، وأمّا مسألة سواد العراق، وهي الأرض المغنومة فقد كان عمر يرى فيها أن توقف على المسلمين، وأن يترك أصحابها يزرعونها ويدفعون خراجها لبيت مال المسلمين، وكان معه على هذا الرأي عليٌّ ومعاذ وغيرهما من أجلة علماء الصحابة، بينما رأت جمهرة كبيرة من الصحابة كبلال بن أبي رباح وغيره أنّها تدخل في عموم آية الأنفال؛ فتخمس كسائر الغنائم، ولم يحسم عمر قراره إلا بعد المشورة، وظل الأمرُ مطروحاً يومين أو ثلاثة( )،والذي يؤكد خضوع عمر للشورى وعدم استبداده بالرأي قولته المشهورة عن جبهة المعارضة التي تزعمها بلال: «اللهم أكفني بلالاً وأصحابه»( )، وقد نقل أبو عبيد القاسم من سلام أن عمر – زيادة على ذلك – استطاب نفوس الفاتحين فتنازلوا عن حقهم برضي( )، أو بالأحرى عمّا ترجح عندهم أنّه حقٌ لهم.
وحول الوجوب نزاع آخر لا قيمة له
أمّا الوجوب فلا أدري لماذا يرتاب البعض فيه! فقد حسمته آية آل عمران، حيث جاء الأمر فيها مباشرًا: (وشاورهم في الأمر) والأمر مستلزمٌ الوجوب، وكذلك آية الشورى: (وأمرهم شورى بينهم)، غير أنّ الوجوب فيها مستفاد من جهة إخرى، وهي مجيء الشورى وسط حشد من المحكمات التي تمثل دستورا لمجتمع سياسيّ رشيد، والواقع أنّها معركة اختلقها المتأخرون وحاولوا تحميلها على الأوائل، والمشهور عنهم الوجوب؛ لذلك تجد أنّ هناك فرقًا واضحًا بين النقول التي نقلها القائلون بالوجوب عن العلماء وبين النقول التي نقلها القائلون بالاستحباب، وهو أن أقوال القائلين بالوجوب واضحةٌ وصريحة ولا تحتمل إلا الوجوب، مثل قول ابن عطية: « والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه»( )، وقول ابن خويز منداد: «واجب على الولاة مشاورة العلماء»( )، وقول الرازي: «فقوله وشاورهم يقتضي الوجوب»( )، وقول الجصاص عن تأويل الأمر في الآية بما يصرفه عن الوجوب: «فهذا تأويل ساقط لا معنى له»( )، أما الأقوال التي نقلها القائلون بالندب فأغلبها لا يفيد الندب صراحة، فعلى سبيل المثال: قول الإمام أحمد: «ما أحسن هذا – المشاورة – لو كان الحكام يفعلونه»، فليس فيه لا وجوب ولا استحباب، إن هو إلا الحضّ.