الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليس المطلوب أن يكون كل الناس مثل (محمد مشالي) وليس بوسع كل الناس أن يفعلوا مثلما فعل، وقديما قال سفيان الثوريّ: “ومن منّا مثل أحمد بن حنبل؟”؛ مُعَبِّرا عن عجزه وعجز الناس في زمانه عن مجاراة الإمام أحمد في الزهد والورع، فمن ذا يستطيع أن يجاريَ (طبيب الفقراء) في تفانيه وبذله وتضحيته؟ ومن ذا يملك من سعة الصدر ورقة القلب ورهافة الحسّ ما يحمله على أن يضحي بحياته كلها في سبيل التخفيف من آهات الناس والتقليل من معاناتهم؟!
إنّ الله تعالى يصنع هؤلاء الرجال الأفذاذ لا ليُسْتَنْسَخوا؛ فإنّهم نُسَخ عبقرية غير قابلة للاستنساخ، ولا ليتكرروا كثيراً في حياة الناس؛ فإنّهم كالعملة النادرة أو الجوهر النفيس، وإنّما يصنعهم الله على عينه لينزل بالمثال إلى أرض الواقع؛ ولينفض عن الخلق التعللات والمعاذير، وليُعَلِّم الإنسان – جنس الإنسان – كم هي الفضيلة سهلة وممكنة، وليقيم به في حياة الناس قمة من الإنسانية سامقة وباسقة؛ فيظل الخلق يرمقونها ويتطلعون إليها كلما أثقلتهم هواتف المادة وأوهاق الطين.
لم تشهد ساحة الإنسانية في زماننا هذا عبقرياً يفيري فرية، وإنّ للعبقرية لَأَطيافا تفوق بأضعاف مضاعفة أطيافَ الشعاع اللاهب الثاقب، إنّها عبقرية القراءة الصحيحة للحياة، والتفسير القويم لها، فلقد فَسَّر على طريقته وحسب تخصصه قول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام 162)، وفَسَّر على سجيته وطبيعته معنى الإنسانية ومقتضى كون الإنسان إنساناً، وفسر بقلبه الكبير وعمله الجليل معنى الرحمة وحقيقة التراحم، فتحولت بتفسيره العمليّ كل هذه المعاني إلى واقع مشاهد محسوس؛ وذلكم هو سر العظمة والعبقرية.
لو أنّ كل طيبيب فعل مع واحد من كل عشرة من المرضى ما فعله مشالي، ولو أنّ كل مهندس أو مدرس أو محاسب أو محامي أو غيره فعل المعروف نفسه على طريقته وبحسب تخصصه مع واحد من كل عشرة؛ لامتلأت الدنيا خيرا وبرا، ولتقلصت وانزوت الحالات المأسوية كما يتقلص الحريق وينزوي لهيبه إذا تكاثرت على إطفائه الأيدي المتوضئة المترعة شهامة وإنسانية ونجدة، هذه هي وصية مشالي التي كتبها على صفحة الحياة بأنفاس أنفه الأحدب الذي يقطر رقة وعذوبة وحلاوة روح.
إنّنا مَعْشَرَ بني آدمَ أهلٌ للرحمة الغضة الندية نعطيها حقا ونأخذها استحقاقاً، أهل للتراحم نتداوله ونتبادله ويزجيه كل منّا إلى الأخر بسخاء وصفاء؛ فنحن خلق الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، والذي فطرنا على الاستقامة ودواعيها ولوازمها: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30)، وإنّنا كذلك لفي مسيس الحاجة إلى هذه الرحمة وهذا التراحم؛ وقد قست الحياة وأظلمت ولم يعد فيها للإنسانية من يؤويها ويرعاها، بعد أن كشرت عن أنيابها قوى الإمبريالية والرأسمالية النيوليبرلية البالغة في التوحش حداً مخيفاً.
وإنّنا مَعْشَرَ المسلمين أَوْلَى الخلق جميعا بها وأحوجهم جميعاً إليها، أولى الخلق بها لأنّنا أصحاب رسالة ربانية عالمية، أسمى وصف لها هو هذا الوصف العبقريّ الباهر: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107)، وأحوج الخلق إليها لأنّنا – من بين خلق الله جميعاً – اجتمعت علينا صروف الدهر ورزايا العصر، فإذا تذاكر الناس الظلم كنّا أول من ذُكر فيمن وقع عليهم الظلم والقهر، وإذا رؤي الفقر والمرض والحرمان من كل مقومات الحياة الكريمة كانت شعوبنا وسط دائرة الرؤية؛ فإن لم نتراحم ونتواءم فأين نذهب في دروب هذه الحياة التي تزداد كل يوم وحشة؟!
الآن ندرك قيمة الحديث: “الراحمون يرحمهم الرحمن” وندرك قيمة الحقيقة التي يحملها بروح الجماعة التي ترى الرحمة النازلة من السماء غيثا لا يصيب إلا الرحماء المتراحمين، إنّ حاجتنا إلى التراحم فيما بيننا أكبر من حاجتنا إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ لأنّ التراحم مقدمة إلى كل هذه الاستحقاقات، فبدونه لن نكون يدا واحدة ضد من يسلبنا هذه الحقوق، وبدونه لن تكون لنا يد ندفع بها الظلم والبغي الذي يمارس علينا من داخل بلادنا ومن خارجها.
فيا أيها المسلمون في مصر ويا أيها المسلمون في كل مكان من أرض الله، خذوا من هذا الرجل العبرة والمثل؛ حيث لم تهبط به ثيابه البالية وهيئته الرثة كما لم ترتفع بالكثيرين منَّا أزياؤهم الفاخرة وألبستهم الزاهية، وحيث مضى وخَلَّفَنا فلم ينقص من عمره إمساكه على نفسه ولم يزد من أعمارنا إسرافنا على أنفسنا، خذوا منه العبرة والعظة؛ لتسعدوا بالتراحم، ولتنعموا بالتواد والتواصل، ولتخرجوا وتخرجوا أمتكم من الضيق إلى السعة ومن الذل والتبعية إلى العزة والتمكين.
رحم الله الدكتور محمد مشالي طبيب الفقراء والمساكين، وكثّر الله من أمثاله في المسلمين .. آمين