الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم أعلم مبدأً اتفقت العقول والفِطَرُ على إقراره وتعظيمه والاعتراف به إجمالاً ثم اختلفت في تفاصيله وطرائق تنزيله كهذا المبدأ الجليل: (العدل)؛ لذلك لا يصح تناوله بمعزل عن كتاب الله الذي جاءنا بالحق والعدل، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾ (الشورى 17) والميزان هو العدل”( )، بل لا يصح تناوله ولا يتم الانتفاع به حتى يكون المنطلق من كتاب الله تعالى؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
والحديث عن العدل في القرآن شامل وكامل، وإن كان قد تناول الخطوط الكلية بالدرجة الأولى، وهو يدور حول محورين: الأول العدل الإلهي في معاملة الخلق، والثاني: العدل الذي أوجبه الله تعالى على الخلق، ومن البديهي أن يكون الأول أصلا عقديا للثاني، وأن يبقى الأول منسوبا للاعتقاد والثاني منسوباً للأحكام العملية، وهذا يؤكد ظاهرة الشمول والعمق والتناغم في تناول هذه القضية.
فأمَّا عن العدل الإلهي في معاملة الخلق؛ فمن مظاهره أن الله تعالى لا يظلم أحدًا يوم القيامة ولو مثقال ذرة، وقد بين الله هذا في أكثر من موضع، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾[النساء : 40] ومن مظاهره أن الله لا يؤاخذ العباد إلا بعد قيام الحجة الرسالية عليهم، برغم قيام البراهين الكونية، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء : 15]، ومنها أن الله تعالى لا يحمّل نفسًا وزر نفس أخرى، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَلاَتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[فاطر : 18] ومنها أنَّ السنن الإلهية لا تحابي أحداً من خلق الله مهما كانت درجة قربه من الله، والأمثلة على ذلك في القرآن أكثر من أن تحصى، منها قول الله تعالى لنبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر 65)، وغير ذلك من المظاهر الشديدة الظهور.
وأمَّا عن العدل الذي شرعه الله تعالى وجعله ميزانًا يضبط التعامل، فمنه العدل في الحكم؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[النساء : 58]، ومنه العدل في القول وفي تقدير الناس وفي إبداء الرأي في الأشخاص والكيانات والمذاهب والآراء؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواوَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام : 153]، ومنه العدل في العِشْرة بين الزوجين، فقد بين الله تعالى أن لكل واحد منهما على الآخر مثل ما عليه تجاهه، وهذا في قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[البقرة : 228]، ومنه العدل في المعاملة المالية؛ حيث حرم الله أكل الأموال بالباطل؛ فقال: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾[النساء : 29].
وفي الجملة فإن الله تعالى لا يظلم أحداً، ولا يحب لأحد أن يظلم؛ ولذلك قال في الحديث القدسي: “يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا”( )، فالعدل عقيدة وشريعة، عقيدة إيمانية وشريعة إسلامية، وهو بهذا الشمول وبهذا العمق وبهذا الانسجام، لكن يبقى سؤال له أهميته، ما هو الميزان الذي يتم به معرفة العدل والتفريق بينه وبين الظلم، هذا ما يختلف فيه الناس؛ لذلك لا يصح أن يطلق المبدأ دون أن يربط بالمنهاج الربّانيّ الذي يبينه ويفصله ويحققه في واقع الحياة.
ومن هنا يجب أن نعطي العناية للآيات التي تقرر أنَّ حكم الله تعالى ومنهجه هو مكمن العدل ومهده ومسكنه، وهذا أهم ما في الموضوع، قال الله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)﴾ (المائدة 48-50) وقال جل شأنه وعزّ سلطانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ (النساء 105) وقال في آية أعم تشمل الحكم وغيره مما يختلف فيه الناس: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (الشورى 10) ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا﴾ (الأنعام 114) وغير ذلك من الآيات وهي في القرآن كثيرة وفي أقطاره منثورة.
فالعدل له معايير لا يستقل العقل بإدراكها عن الشرع المطهر، رغم اتفاقها مع العقل والفطرة في الأصل؛ لأنَّ فطرة الناس تتغير وقناعاتها تتبدل بحسب الأهواء وبمقتضى ضغط الفتن؛ ومن هنا لم يترك تقدير العدل لعقول الناس وعلومهم دون أن يكون الشرع مهيمناً على ذلك كله ومتداخلا مع كل إجراء من شأنه أن يهدف إلى تحقيق العدل.