الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ذات يوم – منذ ما يقرب من عشرين – عاماً صاح بي أخي – رحمه الله – قائلاً: أَزُفُّ إليك بشرى عظيمة، وعلى الفور أجبته وقلبي يرجف: “قل لي: هلك حسني مبارك” فعاجلني: لا .. ولكن يزورنا (فلان) حبيبك، وأنستني الفرحة بالزيارة الجميلة خيبة الأمل التي أصابتني وقتها.
كنَّا ندرك مَنْ هو حسني مبارك؟ وماذا يمثل للمشروع الإسلاميّ وللإسلام والمسلمين؟ كنّا وكان الجميع على يقين مِنْ أنّ هذا الطاغية يدير حربا ضروساً ضد كل ما هو حق أو خير أو صلاح، وأنّه يقود (زعماء!) المنطقة كلها ويذهب بهم وبها إلى الهاوية، ولم يكن عندنا أدنى شك في هذا التصور، وإلى هذه اللحظة لم يتراجع فَهْمُنا هذا خطوة واحدة ولا أظنّه يتراجع، لكن لماذا نبدو اليوم غير مبالين ولا مكترثين بموته؟! فربما لولا العبرة والعظة من هلاكه ما وقفنا عند الحدث ولا أعطيناه من اهتمامنا ولو بمقدار ما يعطيه راكب القطار السريع من النظر لمحلة تجاوزها وخلفها وراء ظهره.
هل أنسانا ظُلْمَه وإجرامَه ما شهدنا اليوم من إجرام فاق كل التصورات وتجاوز كل الحدود؟ ربما يكون هذا سببا وجيها، فلقد بالغ السيسي وزبانيته في الإجرام، وبلغوا في التعدي على الحرمات مبلغاً لا مزيد عليه باستثناء ما بلغه بشار من شعبه، لكنّ السبب الأعمق والذي له صلة وثيقة بسيكلوجية شعوبنا هو النسيان نفسه، فمن طبيعة الشعوب أنّها تنسى ويمضى بها قطار الحياة متجاوزاً الأحداث حلوها ومرها دون أن يلتفت، إنّه النسيان الذي كثيرا ما يتسبب في تبدل القناعات بطول الأمد.
لذلك لا تتعجب إذا رأيت أو سمعت أو علمت بمن يترحمون على الطاغية ويتحسرون عليه وعلى أيامه، رغم أنّهم لا يجهلون أنّ البلاد التي سقطت في الهاوية هو من جرها إلى حافة الهاوية ودفعها في المنزلق الهابط الذي لا رجعة عنه ولا مفرّ منه، ولا يجهلون أنّ كل من يذيقونهم اليوم سوء العذاب هم في الأصل فَقْسُ بيضه الذي وضعه في عشنا الحزين، إنّ عهد الشعوب بمدرسة مبارك ليس بعيداً، تلك المدرسة التي خرَّجت كل هؤلاء المجرمين ومكنت لجميع هؤلاء الطغاة، ولا يستطيع حيّ يدب على أرض مصر أن ينكر أنّ جميع القيادات وجميع الأجهزة التي تغتال اليوم آمال الشعوب وتصادر أحلامهم وتدوس كرامتهم هي في الحقيقة صنعة مبارك التي أتقنها وأحكم بناءها.
قد نلتمس العذر للشعوب، التي مِنْ هول ما ذاقت اليوم على أيدي أفراخ مبارك والقذافي وصدام وحافظ وغيرهم؛ نسيت ما مضى، وراحت تتحسر على الآباء المؤسسين، الذين أصَّلوا للظلم والطغيان والقهر والإجرام، أجل .. قد نعذرهم، لكنّ هذا لا يعني أن نتركهم غارقين في الغفلة مغمورين في خضم النسيان، بل يجب أنّ نذكرهم فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين كما أنّ الغفلة تضرهم، وأقل ضرر لهذه الغفلة تزوير التاريخ وتزييف الحقائق، ذلك التزوير والتزييف الذي قد يبلغ حدّ قلب الحقائق التاريخية قلباً.
إنّ مبارك والقذافي وحافظ وصدام وأمثالهم لم يكونوا لبلاد المسلمين حكاماً، وإنّما كانوا محتلين بالوكالة عن أعداء هذه الأمّة، وإنّ ما مارسوه من فساد وإجرام هو الذي أسس لما تعانيه الشعوب اليوم وما تقاسيه، فلولا الماضي ما كان الحاضر، وما حقبتهم التي تحكموا فيها إلا مرحلة من مراحل تمر بها الأمّة المسلوبة الإرادة، وكل مرحلة تسلم إلى التي بعدها، فما يقوم به السيسي الآن من تخريب للبلاد وتهيئة لتقسيمها وتسليمها للكيان الصهيونيّ مبنيّ على ما زرعه مبارك من فساد وما غرسه من مفسدين وما كرسه من تطبيع مع الصهاينة، وما كان مبارك ليفعل ما فعل لولا فساد حكم العسكر الذين سبقوه من لدن انقلاب يوليو 1952م، وكل هذه العقود السوداء حلقة واحدة من حلقات الاحتلال ومرحلة واحدة من مراحله وهي مرحلة الاحتلال بالوكالة، تلك التي أعقبت الاحتلال المباشر، فلا مَزِيَّةَ لسابق على لاحق، وإنّما السلسلة كلها مصنوعة في مصنع الإجرام.
أمّا العبرة من هلاك هذا الطاغية وكل طاغية مثله فإنّما ينتفع بها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أمّا السيسي وبشار وحفتر وابن سلمان وابن زايد وأمثالهم فلا أظنهم يعتبرون، ولا ينتظر من واحد منهم أن ينظر إلى مقامه بين يدي الله تعالى – وإنّه لقريب – وقد حَقَّ عليه القولُ وعَايَنَ الأهوال؛ فصاح مع أضرابه: (رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) (إبراهيم 44)، فإذا بالجواب يأتيه على هذا النحو المزلزل: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)) (إبراهيم 44-45).
إنّما ينتفع المؤمنون الصلحاء الغرباء، الذين يَصْلُحون إذا فسد الناس ويُصْلِحون ما أفسد الناس؛ لذلك كان الخطاب سابقاً لهم: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)) (إبراهيم 42-43)، فيا أيها الغرباء بصلاحهم وإصلاحهم، لا تظنّوا أنّ ترك الله تعالى لهم من قبيل الغفلة أو الإهمال، إنّما هو من قبيل التدبير والإمهال، فكونوا على يقين من أنّ الله تعالى سيأخذ اللاحق كما أخذ السابق: (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (إبراهيم 47).
واعتبار المؤمنين الصلحاء الغرباء يميط عنهم الشعور بالغربة، ويمنحهم قوة ذاتية وطاقة نفسية، ويجعلهم قادرين على المغالبة والمواثبة، وعلى الاستمرار في طريق الحق بلا تردد ولا ارتياب، فالحمد لله الذي أرانا ونحن أحياء مصرع الطاغية، ونسأله عزّ وجل أن يقصم ظهور الطغاة والجبابرة في كل مكان أو زمان.