بعد أن أعلن الدكتور جمال حشمت عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين عن عزم كل الأطراف داخل الجماعة على ضرورة فصل الجانب الحزبي التنافسي عن الجانب الدعوي؛ لم يعد توجه حركة النهضة في تونس نحو الفصل بين الدعوي والسياسيّ أمرا تونسيا فرضته طبيعة التدافع السياسيّ داخل ذلك البلد، وصار الزعم بأنّ الجماعة تقوم بمراجعات فكرية وأيديولوجية على مستواها العام أقوى من أن يواجه بالنفي المجرد.
ولا أحسب أنّ قادة الجماعة سيفسرون هذه الخطوة بما يحصرها في الجوانب التنظيمية وما يتبعها من التراتيب الإدارية؛ لسببين، الأول: أنَّ أخلاقهم تسمو بهم عن مخاتلة كهذه، الثاني: أنّ السياق الذي جاء فيه هذا الإعلان يجعل طرح هذا التأويل بمثابة الاغتيال المبكر للنتائج المرجوة والغايات المبتغاة من وراء هذا الإعلان.
فالأمر في حقيقته محاولة لتحرير العمل السياسيّ من القيود التي تفرضها الثوابت الأيديولوجية؛ عساه إن ظفر بهذه الحرية أن ينال الرضى والقبول من الأوساط السياسية التي تسود العالم، والتي ترفض بشدّة وحدّة شمولية وحتمية الثوابت الأيديولوجية، وهو اجتهاد مبنيٌّ على رغبة صادقة في حلحلة المشهد السياسيّ المتكَلِّس حول محاور دينية.
لكن ليس بالصدق وحده يبلغ الناس ما يريدون من تحقيق الآمال، ولو كان الأمر كذلك ما احتاج الصحابة – وهم أصدق الخلق بعد الأنبياء – إلى حملات التوعية القرآنية، من مثل قوله تعالى: “ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ”.
ولنبدأ بما لا يصح أن نتجاوزه ابتداء: هل يمكن أن ينفصل السياسيّ عن الدعويّ أو الدينيّ أو – حتى بتعبير الغرب – الميتافيزيقيّ؟ إنّ ما يشهد به الواقع والتاريخ والتجربة الإنسانية أنّ هذا الفصل سراب وخيال – إن لم يكن من قبيل الدجل والخزعبلات – فكل النظريات السياسية وما قام عليها من ممارسات سياسية مبنية على الأيديولوجيا ابتناء الأبراج الناطحة للسحاب على أسس ذاهبة تحت التراب.
هذا سؤال يطرح نفسه بقوة، فإن كان الأمر لا يزال غائصا في لجة الأوهام فأروني نظاما سياسيا واحدا، أو حزبا في غرب الأرض أو شرقها قام بمنأى عن الأصل العقدي الفكريّ الأيدلوجيّ الميتافيزيقيّ الذي يعتنقه من أقاموا هذا النظام وشيدوه وقاموا على حراسته بالجدال والقتال، وإن أردتم اختزال الكدّ واختصار السعي واكتفيتم بالنظر إلى أنموذج الدولة المدنية في الغرب فلن تجدوا إلا التأكيد لهذه الحقيقة.
فإنّ الدولة المدنية الغربية قائمة على أسس أيديولوجية ميتافيزيقة تنبع كلها من بيئة الفكر الحداثيّ الذي يقضي بأنّ الإنسان هو سيد هذا الكون، وأنّه خلق – كما يزعم روبرت بويل – ليملك الطبيعة ويحكمها، وهو فكر غارق في الميتافيزيقا، لا يفترق في هذا الانغماس عن اللاهوتية الكنسية إلا أنّه ضدها في التوجه وحسب، وقد انعكست هذه الأيديولوجيا على النظرية السياسية والنظرية الاقتصادية، ومن ثمّ كانت الليبرالية الاقتصادية عند آدم سميث وأمثاله، والليبرالية السياسية عند جون استيوارت مل وأضرابه، صنوان لشجرة واحدة نبتت في تربة الفكر الحداثيّ، وأثمرت الفصل بين الحقيقة والقيمة في التعاطي مع الأحداث والأشياء والأوضاع.
فإذا انتقلنا إلى الواقع العمليّ فوجئنا بحجم الإشكالات التي تستعصي على الحل، والتي تكفي الواحدة منها للقطع باستحالة حدوث هذا الفصل إلا بالقضاء على أحد الشقين – إن لم يكن عليهما معا – فكيف إذا اجتمعت، وتعاضدت وكان بعضها لبعض ظهيرا؟!
على أيّ أسس فكرية سوف تبني مشروعك السياسيّ؟ أعلى أسس غربية أم على أسس إسلامية؟ فإن كانت الأولى فما أبقيت على دَعَوِيٍّ متصلِ بك أو منفصلٍ عنك؛ لأسباب كثيرة إن كنت تجهلها فأعد قراءة عقيدتك جيدا، وإن كانت الثانية فما فصلت بين الدعويّ والسياسيّ إلا في الإعلانات التي لا تزيد الساحة إلا ارتباكا، ولا تزيد العلاقات مع الغير إلا اضطرابا.
وما هي الغاية التي يرمي إليها المشروع السياسيّ الذي انفصل عن الدعويّ، فإن قلت الإصلاح فعلى أيّ أساس وبأيِّ مقياس، فإن قلت على أساس الإسلام وبمقياسه، فأين الفصل المزعوم؟ وإن قلت على أساس الفكر المدنيّ وبمقياسه، فَمَالَكَ والدَّعَوِيِّ – من حيث الأصل – حتى تتكلم عنه في الفصل أو الوصل؟!
ثم ما هي الغاية التي ينتهي إليها الدعويّ؟ أليست هي إصلاح الخلق وتعبيدهم للخالق؟ والسؤال هنا: كيف يتم ذلك في الحياة العامة وقد فصلتم السياسيّ وأقصيتموه عن الدعويّ، أم إنكم تقصدون حصر الدعويّ في الشعائر وبين جدران المعابد؟ فإن كان الأمر كذلك، فهي داهية الدواهي التي لا تبقي ولا تذر.
كل هذ المعضلات الشامخة بأنوفها تتضاءل رغم ضخامتها أمام معضلة التربية وبناء الكوادر في كل مجال من المجالين المنكوبين بالفصل المعتسف. فهل المناهج التي تتربى عليها الكوادر هنا وهناك واحدة؟ أم كل شقّ في طريق؟! وهل سيقوم الاتصال بين كوادر وأعضاء الجانبين لتقع المناقضة الجذرية لنظرية الفصل؟ أم سيفصل بينهما لينتهي المشهد إلى كيانين لا علاقة بينهما أصلا؛ فتسعى الدعوية لإنشاء ذراع سياسيّ، في الوقت التي تسعى فيه السياسية لمد جذر دعويّ؛ لتقع الحاجة من جديد إلى دعوة الفصل العبقريّ؟!!
والحقيقة أنّ حجم الإشكالات يربو على الإحصاء في مقالة عاجلة كهذه؛ لذلك فنحن مُضطرون إلى الذهاب فورا إلى ختم المقال بهذه الحقيقة الْمُرَّة التي أكدتها كل التجارب التاريخية مع الغرب، وهي أنّ التنازلات لا تستثير عطفه ولا تستحثّ عدله، وإنما تستثير وتستحث شهوته للتسلط وشبقه للاستبداد والتعنت، وأنّه بعد أن ينفض عنك عقيدتك ويجردك من ثوابتك وتقف أمامه عاريا يلتهمك ويمتص دمك، هذه هي – فيما أحسب – مسلمة تاريخية، فإن كنت مفندا لقولي متهما لعقلي فألتمس منك أن تقرأ سيرة وتاريخ من قامت دعوة الإخوان في الأصل لتحويل مسارهم، واغتذت على مدى الدهر بانتقادهم وشَنِّ الغَارَة تلو الغارة علي فكرهم وسلوكهم.
أمَّا أنّ الإسلام دين ودولة، وأنّه دعوة وسياسة، وأنّ جناحيه هذين لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا إذا انفصل جناحا الطائر المحلق في علياء السماء؛ فهذه حقيقة أشمخ وأرسى من الشُّمِّ الرواسي، ولا يمكن أن تغيم وسط زحام المصالح القريبة، فإمّا أن نحافظ على ما قمنا عليه وما لا قيام لنا إلا به، وإمّا أن نسكت ثم نسكن فكم في السكوت والسكون من نفع لخلق الله.