الحمد لله .. الصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليس لأنَّها أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، وإن كان كل اعتبار من هذه الاعتبارات الثلاث له وزنه في الحسّ الإسلاميِّ العام، وإنَّما تُعَدُّ قضية القدس أمَّ القضايا لهذه الاعتبارات ولأمر آخر أشد خطراً وأبعد أثراً، له جذوره الضاربة في أعماق التاريخ، وله آثاره الممتدة إلى قرب ظهور المسيخ.
والاطلاع على هذا الأمر يسهم بقدر عظيم في إيجاد حالة من الوعي الجامع لقضايانا المتفرقة، ويسهم مِن ثمَّ في وضع رؤية جامعة تُعَدُّ بمثابة مركز الدائرة بالنسبة لكل مشاريع حركات التحرير سواء منها القائمة أو القادمة، ويساعد على رؤية الطريق الجامع الذي يجب أن تصب فيه كل الطرق؛ حتى لا تتشعب بنا السبل.
ومن هناك، من تلك النقطة الغائصة في أعماق التاريخ الإنسانيّ تبدأ مسيرة الصراع الذي قدر له أن يستمر ويدوم إلى يوم يبعثون، هناك في العمق التاريخي السحيق يتلقى إبراهيم عليه السلام ذلك الوعد الإلهيّ بشرف الإمامة على البشرية: (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (البقرة 24) وبدعوة منه مستجابة يمتد الوعد في ذريته، مشروطاً بأنَّه لن ينال الظالمين منهم: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة 24).
ويتدفق نسل النبيُّ الأمَّة في فرعين منحدرين من صلبه المبارك: فرع إسحاق الذي تشعب على تؤدة، فغرس في رحبة التاريخ شجرة بني إسرائيل، الذين فضلوا – رغم ما وقع منهم – على العالمين في تلك الأزمان، وفرع إسماعيل الذي ألقى بخلاصة عصارته في منتهى طرفه فكانت هذه الأمَّة المباركة: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح 29).
وسياق الشطر الأول من سورة البقرة قبل أن ينتهي إلى وعد الله لإبراهيم وذريته بالإمامة ينتهي إلى نتيجة مفادها: أنَّ بني إسرائيل غيروا وبدلوا؛ بما يقضي بنزع الإمامة منهم، أمَّا سياق الآيات التالية لهذا الوعد الكريم فيسلط الضوء على الفرع الآخر من نسل إبراهيم عليه السلام، فيتحدث عن مكة والبيت العتيق، وعن دعوة إبراهيم وإسماعيل بإخراج هذه الأمّة وبعث هذا النبيّ، وهذا يعني انتقال الوعد لهذه الأمَّة.
هذا الفضل الذي حازته الأمِّة الإسلامية بميراثها لوعد إبراهيم عليه السلام هو الذي حرك الحسد اليهودي المشار إليه في قول الله تعالى من سورة النساء: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (النساء 54) والناس هنا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
وقد مارست الأمَّة حقها هذا في وقت مبكر؛ وذلك بالإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ إيذاناً بأيلولة ميراث إبراهيم كله إلى هذه الأمَّة، بما في ذلك الوعد لإبراهيم بالإمامة، والوعد له بأن يعطيه هذه الأرض المباركة له ولنسله من بعده – كما تنص على ذلك التوراة – فبالإسراء آل بيت المقدس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبصلاته بالأنبياء إماماً في المسجد الأقصى توثق عقد الملكية، الذي أوقف تنفيذه إلى أن تسلم أمير المؤمنين عمر مفاتيح بيت المقدس بعد الفتح الإسلاميّ له.
واللافت للنظر أنَّ الإسراء بما يحمله من هذه المعاني جاء على رأس منعطف هام في طريق الدعوة الإسلامية، وهو انتهاء القرآن الكريم من معركته مع الوثنية، وتقويضه لنظريتها من أصولها، ليبدأ مرحلة في الصراع جديدة استدعت إعداداً جديداً وتهيئة للأوضاع على نحو مناسب لها، وهي مرحلة الصدام مع عقيدة أهل الكتاب، تلك التي بدأت قبل الهجرة، وبدت خطوطها العريضة بعد آية الإسراء مباشرة: (وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)) (الإسراء 2-7).
ولئن كانت الحروب الصليبية التي استمرت قرونا قد تولاها النصارى بدافع الاستيلاء على القدس واستردادها من أيدي المسلمين، فإنَّ هذا الدافع قد أخذ بعداً عقدياً أعمق في الحملات المعاصرة بعد التحام العهد القديم مع العهد الجديد، وبعد تحالف الفكر اليهودي مع الفكر الصليبي تحت مظلة المذهب البروتستانتي الممزوج بالنزعة الهمجية للأنجلوساكسون؛ ليبدأ الهوس الغربيّ بالوعد القديم، فيصدر وعد بلفور وبعده بقرن يصدر وعد ترامب.
إنَّها إذن حرب عقيدة، ومحورها القدس، ورحاها تدور على المسلمين في كل بلاد العرب، وتقف الشعوب منفردة في مواجهة هذه الحرب الضروس؛ بينما الحكام وأنظمتهم في نفق أعداء الأمَّة، ومن هنا نقول إنَّ المعركة واحدة، وإن العدو واحد، وإنَّ الجهاد ضدها واحد، تتعدد ساحاته وميادينه، وتتوسط القدس هذه الساحات والميادين، والغاية لنا ولهم واحدة، وغايتنا البعيدة هي عودة الأمَّة كما وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدورها القيادي ومحورها يومئذ المسجد الأقصى والقدس.
وهذا السياق الذي يبرهن على صحته الشرع والواقع يوجب علينا التمسك بالهوية الإسلامية، كما يوجب علينا الاسترشاد بالأحكام الشرعية وبمعطيات ديننا في كل ما يتعلق بالتغيير، بدءً من المبادئ والأسس والهدايات، وانتهاءً بالأدوات والآليات.