ليس من الإنصاف أن نصف الإسلام بأنَّه دين منعزل عن الحياة، لا شأن له بما يجري في ميادينها السياسية والاقتصادية والقضائية وغيرها؛ لسبب غاية في البساطة والوضوح، وهو أنَّ واقع الإسلام التشريعي والتطبيقيّ مخالف لذلك تماماً، ومن راوده في ذلك شك فليس عليه إلا أن يطالع – فقط – فهارس كتب الفقه من أي مذهب يحلو له مطالعته أو يخطر لأول وهلة على باله.
ومن هنا فليس الإسلام بمعزل عن الانتخابات التي تجري في طول بلاد المسلمين وعرضها، بل على العكس من ذلك تماماً؛ فالإسلام منهج حياة للإنسان الذي استخلفه الله تعالى في هذه الأرض واستعمره فيها؛ لذلك فهو يهدي في ميدان السياسة والاقتصاد ومجالات الحياة كلها كما يهدي في ميدان الشعائر التعبدية، وإن كانت مساحات العفو التشريعيّ في الأولى أوسع من الثانية.
وما نريد أن نكتفي به في هذا المقام هو جملة من القواعد والضوابط، التي هي في أحد وجهيها تُعَدُّ أحكاماً كلية، تنبثق منها منظومة متناسقة تشكل منهجاً في الحكم والسياسة غاية في الرشد والصلاح، وفي وجهها الآخر تُعَدُّ بمثابة قواعد أخلاقية إصلاحية تُقَوِّمُ السلوك السياسيّ والانتخابيّ، وتجعل الأمة في ممارساتها أقرب إلى الصلاح والسداد وأبعد عن الزيغ والفساد.
ولا ضير أن نخاطب بها كقواعد أخلاقية وحسب؛ إذْ الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كلُّه لا يترك جُلُّه؛ فما هي هذه القواعد التي تضبط الأداء في المعارك الانتخابية بما يحقق مصالح البلاد والعباد، ويدرأ الفتن عن الديار والأوطان ؟
القاعدة الأولى: وجوب اختيار الأجدر لرئاسة البلاد، ولتمثيلها في مجالس الشورى وماشابهها: وهذا الواجب يتضمن واجبين، الأول: وجوب التحرك للاختيار وعدم التخلف عنه، وهذا وجوب كفائيّ من حيث الأصل، لكن الواجب الكفائيّ إن لم يتحقق به المقصود فتعرضت البلاد للفتن والتقلبات العويصة – بسبب غياب دور الواعين وعدم تفاعلهم – فعندئذ لا ينعتق الناس من عهدته ولا يسلمون من المؤاخذة به أمام الله تعالى، وهذا الواجب يثبت بقاعدة: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”؛ حيث لا يتحقق الاستقرار وحقن الدماء وحفظ الاموال والأعراض وغيرها من مقاصد الدين بغير أن يتولى أهل العدل مقاليد الأمور.
الواجب الثاني: اختيار الأجدر والأقدر على قيادة البلاد أو تمثيل العباد، بما يتمتع به من أمانة وديانة وصيانة، مع قوة وخبرة وتجربة، ولاسيما مع تآمر الأعداء وإصغاء أهل الشقاق والنفاق لإملاءاتهم؛ فواجب حفظ المسلمين من الفتن – لا سيما مع تعدد الأعراق في البلد الواحد – يستدعي إقامة الحكم العادل؛ لئلا يترك الناس هملاً أو يسطو على حكمهم من يفسد عليهم دنياهم وأخراهم ويجرئ عليهم أعداءهم.
يقول الإمام الشيرزي: “لما كَانَت الرّعية ضروبا مُخْتَلفَة، وشعوبا مُخْتَلفَة، متباينة الْأَغْرَاض والمقاصد، مفترقة الْأَوْصَاف والطبائع، افْتَقَرت ضَرُورَة إِلَى مُلك عَادل يقوم أودها وَيُقِيم عَمَدَها، وَيمْنَع ضررها، وَيَأْخُذ حَقّهَا، ويذب عَنْهَا مَا أشقها، وَمَتى خلت من سياسة تَدْبِير الْملك كَانَت كسفينة فِي الْبَحْر اكتنفتها الرِّيَاح المتواترة، والأمواج المتظاهرة؛ قد أسلمها الملاحون واستسلم أَهلهَا إِلَى الْمنون”().
القاعدة الثانية: تقديم مصلحة الأمّة عند الاختيار: فلا يجوز لمسلم أو أي مواطن أن يختار رئيساً أو نائبا عن الشعب لمجرد انتمائه لحزبه أو لقومه أو لجنسه أو لعرقه أو لقبيلته، إلا إذا كان يراه الأجدر والأكفأ والأصلح، وإلا كان شاهداً شهادة زور يضر بها الخلق ويعصي بها الخالق، فليس الاختيار إبداء رغبة، وإنما هو شهادة باستحقاق الشخص المختار للوظيفة المرشح لها، فهي أمانة والتفريط فيها تضييع للأمانة.
والأصلح الأجدر هو الذي تطمئن النفس إلى أنَّه أكثر من غيره من المرشحين لنفس المنصب أمانة وقوة وكفاءة وجدارة، وليس المنسوب إلى قومه أو جنسه أو عرقه أو حزبه، فإذا علم المسلم أن المرشح لولاية عامة سيكون – بصورة ما – سببا في عودة الظلم الذي كان يمارس على المسلمين، وذريعة لاستطالة المجرمين على أهل الدين؛ لم يجز له الإقدام على انتخابه حتى ولو كان أخاه أو أباه؛ لأنّ هذا مصادم تمام المصادمة لمقاصد الحكم؛ لذلك قال الإمام الجوينيّ: “وترك الناس سُدىً ملتطمين، لا جامع لهم على الحق والباطل، أجدى عليهم من تقريرهم على اتباع من هو عون الظالمين، وملاذ الغاشمين، وموئل الهاجمين، ومعتصم المارقين الناجمين”().
القاعدة الثالثة: العدل في وزن الرجال، قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام 152) فإنَّ الرجل يوزن بجملة أقواله وأفعاله، ومجمل تاريخه وإنجازاته، فلا يصح أن نحصر النظر إلى فعلة فعلها أو كلمة قالها؛ ثم ننسف له جميع فضائله، أو نسوي به من لا يرقى إلى عشر منزلته، والحكم مساربه دقيقة ومسالكه عويصه، وخياراته في كثير من المواقف غاية في الصعوبة، والسياسة مبناها على الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، وما من عمل فيه إلا وهو مشدود بين الطرفين: الخير والشر، وعمل السياسي هو تغليب الخير على الشر بقدر الإمكان؛ لذلك يقول الإمام الموصلي بهذا الصدد: “مدار الشريعة على قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} المفسر لقوله تعالى (اتقوا الله حق تقاته) وعلى قوله صلى الله عليه وسلم (اذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)”()
القاعدة الرابعة: إعمال القواعد الفقهية الكلية عند الالتباس؛ فإنّ الأمَّة – ولله الحمد – ليست متروكة هملا بلا هدى ولا بينات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين ما نُزِّلَ إليه من ربِّه أتمَّ البيان؛ إنفاذا لأمره تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44)، وتركنا (على المحجة البيضاء) أي: جادة الطريق()، وقد استخرج العلماء – بطريق الاستقراء التام لنصوص الشرع وأحكامه وموارده ومقاصده – قواعد كلية تهدي المسلم عندما تلتبس عليه السبل ولا يجد في النازلة نصاً.
القاعدة الرابعة: إعمال القواعد الفقهية الكلية عند الالتباس؛ فإنّ الأمَّة – ولله الحمد – ليست متروكة هملا بلا هدى ولا بينات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين ما نُزِّلَ إليه من ربِّه أتمَّ البيان؛ إنفاذا لأمره تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44)، وتركنا (على المحجة البيضاء) أي: جادة الطريق()، وقد استخرج العلماء – بطريق الاستقراء التام لنصوص الشرع وأحكامه وموارده ومقاصده – قواعد كلية تهدي المسلم عندما تلتبس عليه السبل ولا يجد في النازلة نصاً.
من هذه القواعد الثابتة ثبوتاً قطعياً قاعدة: “إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما”() فإذا وجدت مفاسد أو محظورات أو أضرار متزاحمة بحيث لا يمكن تفويتها جميعاً “وَكَانَ مِنْ الْوَاجِبِ أَوْ مِنْ الضَّرُورِيِّ ارْتِكَابُ أَحَدِ الضَّرَرَيْنِ فَيَلْزَمُ ارْتِكَابُ أَخَفِّهِمَا وَأَهْوَنِهِمَا”() ومنها قاعدة: “يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّين”() و” هَذِه الْقَاعِدَة عين سابقتها”() وهي “مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَاعِدَةِ (إنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَأْخُذُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ فَإِنْ اخْتَلَفَتَا يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْحَرَامِ لَا تَجُوزُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي ارْتِكَابِ الزِّيَادَةِ) ا”().
ومجمل ما تهدي إليه هذه القواعد: أن ينظر المسلم إلى ما يؤول إليه اختياره، وإلى ما تؤول إليه الأوضاع إذا وقع وتحقق هذا الخيار، فإن غلب على ظنِّه أنَّ هذا سيؤول إلى عودة ظلم قد زال وانقضى، أو إلى إثارة فتن قد يكون معروفا من هو وراءها ومن المستفيد منها؛ فعندئذ لا يجوز له أن تحمله عصبية أو يستفزه غضبه أو يثيره شيء في نفسه إلى ترجيح ذلك الخيار، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة: .
وإخيراً فإنَّنا مطالبون بحسن إدارة الاختلاف، فلا مانع أن نخالف الآخرين في الرأي، وأن نجادلهم بالتي هي أحسن، وأن ننصح ونبذل وسعنا في المعارضة وممارسة الحسبة السياسية على كل من هم في السلطة، لكن هذا لا يدعونا إلى تمزيق الأمة وإيقاعها في معضلات تجعلها لقمة سائغة لأعدائها، وعرضة لرياح الفتن، وهذا هو الحدّ الأدنى في فقه إدارة الاختلاف، الذي هو – بدوره – يُعَدُّ الحد الأدنى في تحقيق واجب الوحدة الإسلامية، ذلك الواجب الكبير الملقى على كاهل كل مسلم ومسلمة: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103].
المراجع
(1) المنهج المسلوك في سياسة الملوك – جلال الدين عبد الرحمن بن نصر العدوي الشيزري الشافعي – مكتبة المنار – الزرقاء – (ص: 163)
(2) غياث الأمم في التياث الظلم – للإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين ت: عبد العظيم الديب – مكتبة إمام الحرمين الطبعة: الثانية، 1401هـ ص106
(3) حسن السلوك الحافظ دولة الملوك – شمس الدين ابن الموصلي – ت: فؤاد عبد المنعم أحمد – دار الوطن – الرياض صـــ 141
(4) فيض القدير (4/ 506)
(5) مجلة الأحكام العدلية (المادة 28)
(6) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (1/ 41)
(7) مجلة الأحكام العدلية (المادة 29)
(8) شرح القواعد الفقهية (ص: 203)
(9) درر الحكام في شرح مجلة الأحكام (1/ 41)