المراجعات بين الهروب وجلد الذات

مِنْ قبلُ كَتَبْتُ ونَشَرْتُ مقالا بعنوان: (المراجعات بين المجاملات وجلد الذات)، واليوم أعود لأكتب في ذات الموضوع ولكن من زاوية أخرى تعالج جدلاً استجد على أثر برنامج (الشهادة)، ولأنّ المتقابلات هذه المرّة مختلفة عنها في المرّة السابقة سميت المقال: (المراجعات بين الهروب وجلد الذات)، وفي العموم موضوع المراجعات من الموضوعات التي تثير الاهتمام؛ لأمرين، أولهما: أنّ المراجعة الحقيقية أحد واجبات الوقت التي نفرط فيها عن غفلة حيناً وعن عمد وقصد أحياناً، ثانيهما: أنّ ما وقع من مراجعات في تاريخ الصحوة ثم في تاريخ الثورة أغلبه من قبيل التراجعات أو من قبيل التَّوَجُّعات.

    وبِغَضِّ النظر عمّا ورد على ألسنة الضيوف في برنامج (الشهادة) – إذْ إنه لكلٍ وجهةُ نظره ولكلٍ الحقُّ في التعبير عن وجهة نظره – فإنّ البرنامج يُعَدُّ تجربة جيدة في هذا المضمار؛ حيث يسجل شهادات الأشخاص الذين عاينوا الأحداث، هذا التسجيل توثيق يفيد في إجراء المراجعة الحقيقية المبنية على معلومات موثقة، ولا سيما إذا ركز البرنامج على التوثيق دون التحقيق، وعلى تسجيل الشهادات دون تعرض كثير للتحليلات والتأويلات؛ لتبقى الشهادات نصوصاً قابلة للدراسة التي ربما يحسنها من تخصصوا في تفجير النصوص واستخراج مكنونها، و”رُبَّ مُبَلَّغٍ أوعى من سامع”.

التجربة:

    ولست هنا بصدد الدفاع عن البرنامج ذاته تجاه الهجوم الذي تعَرَّض له، ولا بصدد التعليق بالإيجاب أو السلب على ما ورد فيه؛ لأنّ الذي يعنيني هو التجربة: كيف نستقبلها وكيف نُنضجها، ولأنّ الذي استثار قلمي وبعثه من مضجعه ليس هو المحتوى الذي تَشَكَّل وتراكم من شهادات الضيوف، وإنّما استثارني واستثار قلمي معي تلك الحملة غير المبررة التي لا نجد لها تفسيراً إلا أن تكون في سياق الهروب من مواجهة أنفسنا بالحقائق، المواجهة التي إن لم تقع فلن نهتدي لطريق الخلاص ولو أضفنا إلى أعمارنا أعماراً كأعمار السلاحف.

   والمراجعة وكذلك الشهادات التي تمهد لها ليست قدحا ولا مدحا، ولا علاقة لها بأقدار ومنازل الرجال الذين عُرفوا بالنزاهة والإخلاص والتفاني، فما نَقَصت أقدارُ الصحابة ولا هبطت منازلهم بخطاب القرآن لهم عقب أحد: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران 165) (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ) (آل عمران 153)، وكذلك ليست أقدار الرجال ومنازلهم بمانعة من المراجعة وتسجيل الحقائق وتقييم الأحداث وتدوين التاريخ.

    وليس من قبيل الوفاء غَضُّ الطرف عما وقع من أخطاءٍ، ولا من قبيل الجفاء التعرضُ لتلك لأخطاء؛ لأسباب غاية في الموضوعية، أهما أنّ الرئيس الشهيد رحمه الله لا يلام على شيء مما صدر عنه ووقع منه؛ لأنّه اجتهد مخلصاً في ابتغاء مصلحة البلاد والعباد، فهو مأجور أصاب أم أخطأ، ولأنّه – وإن كان رئيسا – يُعَدُّ مفردة في معادلة، وكلمة في جملة، وجزءًا من سياق، ونسقاً في أنساق، فهو فيما أصاب أو أخطأ يمثل حالة جيل بأكمله، جيلٍ نبت في تربة الاستبداد، الذي نجح في تجريف كل مقومات الرشد والسداد، ولأنّ المرء في النهاية يوزن بمجموع نجاحاته وإخفاقاته، وحسبه كرئيس للبلاد أنّه لم يتلبس بفساد أو استبداد، وأنّه لم يطلبها حين كانت مغنما ولم يتنازل عنها حين صارت مغرماً، ولو ذهبنا نحصي فضائله لاحتجنا من الوقت والجهد ما نحتاجه لإحصاء رذائل سابقيه ولاحقيه، وما يقال في الرئيس يقال مثله عن كثيرين وقريب منه عن آخرين؛ فلا حرج إذن ولا غضاضة.

نجاح الحكم العسكري:

    إنَّ الحكم العسكريّ نجح على مدى ستين عاما أو يزيد في تجريف الخبرات والمهارات في كل ما يتعلق بالسياسة وإدارة الدولة؛ فلم يدع منها إلا ما كان واقعا في مساحات النصب والكذب والدجل والاحتيال، فلما قامت الثورة كانت بيئة السياسة في مصر قَفْراً إلا من الدغل المسكون بالأفاعي، وكان الشعب بكل مكوناته وطبقاته كزرع غض يافع لفحته ريح عاتية آتية من تلك المناطق الوخيمة الوبيلة؛ فلم يكن بالإمكان وقتَها – إلا في القليل النادر – اكتسابُ هذه العقلية الناقدة التي يمتلكها بعض الناس الآن، ولا البصيرة التي يتمتع بها الكثيرون اليوم؛ فليس من العقل تعطيل الوعي ولا من العدل ادعاء السبق بأثر رجعي؛ فلنمض في المراجعات وفيما يلزم لها من شهادات، دونما استحياء أو استعلاء.

    ولعل برنامج (الشهادة) يعد خطوة على طريق المراجعات المتزنة، وذلك بشروط أتوقع أنّ القائمين عليه لا يجهلونها ولا يفتقدونها، منها – إضافة لما أشرت إليه آنفاً – الموضوعية في التناول والطرح وفي الحوار والنقاش؛ بما يحقق المقصود، ومنها كذلك العدل الذي يقتضي سماع الأطراف المختلفة وإعطاء كل من يلتزم المصداقية في الشهادة والتوثيق حقه كاملا في ذكر ما شاهده وكان شاهدا عليه؛ لتكتمل الصورة وتختمر الفكرة، ويتحقق المقصد الغائي الذي تعد الشهادة وسيلة من وسائلة  وأداة من أدواته.

    أمّا ما وقع في الحقبة الماضية التي استوعبت السنوات الست العجاف فجميعه خارج عن حقيقة المراجعات، فبعضه من قبيل التراجعات، وبعضه من قبيل التوجعات، بعضه هروب وبعضه مبالغة في جلد الذات، فلم تتكون لدينا رؤية جَلِيَّة، ولم نمتلك مشروعا واضح المعالم، ولم نَخْطُ الخطوة الأولى على الطريق، وكل ما انقضى من أعمارنا ومضى أوقاتنا أصفار على اليسار.

على حق:

    فها هنا قوم يرون أنّ كل ما وقع وجرى كنّا فيه على حق، فما قصرنا ولا فرطنا ولا أهملنا ولا أغفلنا، ولقد أخذنا بالأسباب التي أتيحت لنا وسلكنا السبل التي فتحت بين أيدينا، وما وقع بعد ذلك إنّما هو قدر محتوم وقضاء محسوم، وداهية سماوية “ليس لها من دون الله كاشفة”، وهذا في الحقيقة هو الهروب في أجلى صوره وأمقت تجلياته، وإيمان المؤمنين بقدر الله لا يعطيهم المبرر في التذرع بالقدر لتبرير التقصير أو لتفويت الفرصة على المراجعة، وقد عاب القرآن الكريم على قوم تذرعوا بالقدر في تفسير ما يقع منهم ويصدر عنهم، فقال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام 148)، فاحتجاجهم بالقدر إنّما هو من جهة الخرص والتخمين لا من جهة العلم واليقين؛ إذ إنّ السؤال يرتدّ عليهم: وَلِمَ لَمْ تدخلوا في التوحيد وتخرجوا من الشرك ويكون هذا من قدر الله ومشيئته؟! لذلك قال الله بعدها: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام 149).

حقل ألغام كبير:

    وعلى الطرف المقابل قوم آخرون ذهب بهم جلد الذات إلى آماد بعيدة، ومنتهى اجتهادهم بعد إنهاك الطائرات وإهلاك الطاولات: (لقد أخطأنا يوم أن رشحنا رجلاً مِنَّا لرئاسة الدولة؛ ما لنا وللدولة؛ إنَّها ليست سوى حقل ألغام كبير لا ينجو منه إلا من نأى عنه، كان من الواجب علينا أن نتركها لأي كلبٍ ضالٍّ مُشَرِّقٍ في مذهبه أو مُغَرِّب، ها نحن قد تآمر علينا عدونا وأوقعنا في الفخ، فصرنا كالفأر الأحمق الذي صار حبيس المصيدة الموصدة)!!

    ولست أصادر على الاجتهاد في هذه المسألة، فهي مسألة اجتهادية، والصواب والخطأ فيها تقديريّ؛ لذلك لا نثرب على من تبنى فيها رأياً، لكن الخطأ كل الخطأ في الطريقة التراجعية في التفكير؛ التي تعلق الفشل كله على شماعة القرار بالترشح للرئاسة، وتهمل كل الاحتمالات القوية التي كان بالإمكان أن تتحقق لو أنّنا أَحْسَنَّا إدارة الصراع، ورأينا أنّنا في وضع المسئولية فأخذنا أمرها بما يليق به من الجدّ.

إدارة الصراع:

    إنّ الأخطاء التي أفشلت التجربة وعجلت بهدم كل المنجزات والمكتسبات تدور جميعها حول الفشل في إدارة الصراع، فلم يكن على الإخوان المسلمين أن ينسحبوا من الساحة ويتخلوا عن المسئولية، وإنما كان عليهم أن يستكملوا أدوات إدارة الصراع، ويأتي على رأسها الوعي بطبيعة أعداء الثورة  وعدم الركون إليهم، وهو من صلب الفقه والعقيدة ومن شروط التمكين؛ لذلك قال تعالى معقباً على نتيجة معركة أحد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران 118).

    ومن أخطائنا أننا جميعاً إسلاميين ووطنيين لم نعرف ولم نلتزم ببدهيات إدارة الاختلاف فيما بيننا، فلم ننجح في تحقيق الحدِّ الأدنى من الوحدة، فتلاعب بنا أعداؤنا في الداخل والخارج، ولم ننجح كذلك في ضمِّ الشعب إلينا؛ بسبب الأخطاء الفاحشة التي منها الثقةُ بالمجرمين والركونُ إليهم، وقد حذر الله تعالى منهم تحذيراً ينذر بسلب النصر: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (آل عمران 113)،  ثم كانت الأخطاء التي ترتبت عليها والتي توالت كتوالي المحن والمصائب على قوم  عصوا المرسلين.  

    ناهيك عن الأخطاء التراكمية التي خَلَّفَتْنا كمَّاً بشرياً لا مشروع له ولا رؤية في عالم يموج بالرؤى والمشاريع، وعن مسلسل الأخطاء الذي وقع فيه الإسلاميون أجمعون – وفي القلب منهم الإخوان المسملون – باستعجالهم للمسار السياسيّ وطَيِّهم السريع لمسار الثورة قبل أن يبلغ الكتاب أجله بكسر شوكة الظالمين، مع انحيازهم بنسبة لا تغتفر للعسكر واستدبارهم للشارع في أوقات غاية في الحرج والتعقيد، وعن كثير مما نسيه لنا الشعب ولكننا أبينا إلا أن نذكره به مرات ومرات.

    إنّنا بحاجة إلى مراجعات لا تراجعات، وتقييم للذات لا جلد لها، وبحاجة كذلك إلى تدوين للتاريخ وتسجيل للتجربة، ودراسة حقيقية مبنية على معلومات موثقة، ولا داعي للخوف والقلق، فجميعنا في سفينة واحدة، وجميعنا مسئولون عن حمايتها ونجاة من فيها، والهروب للخلف أو للأمام لا يجدي شيئا، ولا يجدي إلا المصارحة والمكاشفة، هدانا الله جميعاً إلى ما فيه صلاح الخلق، والله تعالى وليّ التوفيق.