الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما هي أبعاد الأزمة وجذورها التي أنبتتها؟ وما هي آمادها وغاياتها التي ينتظر أن تمتد إليها؟ هذان هما السؤالان الجديران بالاهتمام في أجواء الجائحة التي تتعرض لها وتختص بها سيدة العالم اليوم أمريكا العظمى؛ على إثر مقتل المواطن الأمريكيّ “جورج فلويد”! فهل نستطيع أن نجيب بموضوعية على هذين السؤالين؟ وهل نستطيع أن نتجرد قبل الخوض في الموضوع من الانحياز الغريزيّ للمواقف العابرة أو للطموحات القريبة العاجلة؟ نرجو ذلك ولن نعدم المحاولة.
في البداية ينبغي أن نستصحب جملة من المحكمات التي ترسيها معطيات الواقع والتاريخ، وتغذيها التجارب المتتالية والوقائع المتوالية، أول هذه المحكمات أنّ أمريكا مهما بلغت من القوة والعظمة والنفوذ ليست بمنْأَى عن سلطان وهيمنة القوانين والسنن التي تحكم العالم من قِبَلِ رب العالمين، والتي عُلم بعضها بالنص، كسنة التداول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران 140)، وعُلم بعضها بالاستقراء مع استلهام روح النص، كتلك التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته، وهو يُشَبِّهُ الدولة والحضارة في مراحل نموها وتطورها بالإنسان الذي قال الله تعالى فيه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم 54).
ثاني هذه المحكمات أنّ الدول والحضارات إنّما تقوم على جملة من القيم والمبادئ التي تثبت أوتادها وتقيم أطوادها، ولدى زوال تلك القيم والمبادئ تضمحل الدولة أو الحضارة وتتهيأ للانهيار والاندثار، وعلى قدر سرعة التراجع في المبادئ والقيم تكون سرعة الأفول للدولة والحضارة، وهذا قانون يسري على الأمم كلها مؤمنها وكافرها على السواء، ولعل آيات القرآن تفيد ضمن ما تفيد هذا المعنى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال 53)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد 11)، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (الكهف 59).
وأمريكا – كما هو معلوم للجميع – تعمل فيها من لدن نشأتها منذ قرنين ونصف تقريبا عوامل هدم كثيرة ومتنوعة، من هذه العوامل روح العنصرية المتجذرة في ضميرها مع كونها مجتمع تعدديّ شديد التنوع، ففيه السود والبيض، وفيه المتدينون والملحدون، وفيه أعراق شتى وأجناس شتى وثقافات متنوعة، ومنها الانحلال الخلقي مع فقدان الترابط العائليّ؛ مما يسبب حالة التفسخ المجتمعيّ، ومنها روح الأنانية التي غرستها الرأسمالية بأنظمتها الربوية المتسلطة، ومنها ضعف الرابطة العقدية العامّة، وغير ذلك.
غير أنّ أمريكا – كما هو معلوم للجميع أيضا – تملك كثيرا من مقومات البقاء والاستمرار، منها ما هو من طبيعة الأمم الغربية، كتلك التي أشار إليها عمرو بن العاص رضي الله عنه: “إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلمُ الناس عند فتنة، وأسرعُهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكُهم كَرَّةً بعد فَرَّة وخيرُهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسةٌ حسنةٌ جميلة: وأَمْنَعُهُمْ من ظلم الملوك”([1])، ومنها ما هو من آثار الثورة الإنسانية التي اجتاحت أوربا وأمريكا منذ قرون لترسي جملة من القيم والمبادئ الفطرية التي بنيت على دساتير تلك الأمم بما فيها دستور أمريكا العظيم.
وفي ضوء هذه المعطيات الأولية نناقش المسألة، ونبدأ من الواقعة التي هيجت مشاعر الجماهير وألهبت حماسهم ومنحت ركام الغضب المتراكب عود الثقاب اللاهب، والحادثة – دون تهويل أو تهوين – جاءت في إطار غاية في القتامة والقماءة؛ فالشرطي “المسئول!” يمارس القتل البطيء المهين المذل، ضد مواطن أمريكيّ مثله، في بلد تُعَدُّ قبلة الديمقراطية والمواطنة وموئل العدالة والحريات، ويفعل ذلك علناً في الشارع العام، وهو يعلم أنّ الكاميرات تراقب والقوانين تعاقب والمارة ينظرون ويرقبون عن كثب، كل هذا دون أن يدعو لعُشْر هذه التصرفات داع من الشخص المعتدى عليه أو طائفته “السود من أصل أفريقيّ”.
إنّها واقعة تحمل دلالات تكفي لجعل جورج فلويد (بو عزيزي) أمريكا، وتحمل إلى جانب ذلك دلالات أعمق وأخطر، فالمجتمع الأمريكي بموجب ما جرى يبدو متماسكاً بينما هو في حقيقته غاية في التفاسخ، ويبدو هادئا وقوراً بينما هو يحمل روح العنصرية والكراهية للآخر، وإذا كانت الواقعة قد جاءت بصورتها المروعة تلك شاهدة على هذه الطبيعة المزدوجة الشاذة فإنّ الأحداث التي ترتبت عليها أكدت هذا الشاهد بعشرات الشواهد، من نهب للبنوك والممتلكات إلى تخريب للمؤسسات إلى شغب وسوء إدارة للمجموع الغاضب! وهذه الظاهرة قد يقلل من قبحها وشناعتها وجود تيار عريض من الشعب المتحضر الذي يحمل للناس أسمى مشاعر الإنسانية، لكن الغلبة في مجال تحديد الهوية والمصير تكون للتيار المنحرف، مالم يكن هذا التيار المنحرف في المجتمع الفاضل مجرد شذوذ عن القاعدة العامة؛ وهذا في الواقع الأمريكي لم يكن ولن يكون.
فإن تجاوزنا الواقعة في ذاتها وتوسعنا قليلاً فإنّنا سوف ندرك أسباباً أخرى للغضب الجارف؛ لأنّ المظاهرات لم تقتصر على السود فقط، ولأنّ المتظاهرين سوداً وبيضاً مارسوا من الأفعال ما يشير إلى معاناتهم المتفاقمة، كحالات النهب للبنوك وممتلكات الأثرياء، إنّها إذاً الطبقية المقيتة التي خلفتها الرأسمالية التي لا ترحم، إنّه الغضب من تراجع الديمقراطية أمام نزوات الرأسماليين الطائشة، إنّه التهديد الحقيقيّ الذي يعيشه الشعب الأمريكيّ وتعيشه الشعوب الغربية كافّة، وهذا الهاجس جاء في الحقيقة متأخراً عن التحذيرات المتوالية للمفكرين الكبار في الغرب.
إنّ أخطر تهديد يواجه المجتمع الأمريكيّ هو شعوره المستمر بتنامي قسوة القبضة الرأسمالية، لاسيما بعد تآكل الطبقى الوسطى التي تحمي من السقوط الكامل للمجتمع في فخ الرأسمالية، وقد حذرت كثير من الدراسات من تنامي هذه الظاهرة في أمريكا وزحفها على غرب أوربا([2])، وقد لاحظ القاصي والداني في المجتمع الأمريكي كم هي قوية هذه القبضة الخبيثة المعادية؛ ولاسيما وقد تحالفت مع السياسة بل وتوغلت في أروقتها بما يمكنها من صنع القرار، “إنَّها منظومة متماسكة من أشخاص معدودين، لهم أهداف مشتركة، وأعضاء هذه المنظومة ينتقلون بسهولة بين عضوية إدارة هذه الشركات الضخمة والمناصب الحكومية”([3]).
وتخوف الشعوب في الغرب على الديموقراطية لا يقل عن تخوفهم على الرفاه والعيش الكريم؛ لأنّ “رجل الأعمال قد رأى في القضاء على الديمقراطية نهاية لقدرة العمال على تقييد سلطته عن طريق تنظيماتهم السياسية والاقتصادية”([4])، فهو لا يألوا جهداً في ذلك، وهم لا يقصرون في دفع الرشاوي للسياسيين الذين يمكنون للرأسمالية، مثال على ذلك: “في تشرين الثاني من العام 1999م دفعت شركة (جي تك) 300.000 دولار ل”ليتوين” وبالمقابل وافق ليتوين على إنهاء القضية المتعلقة بتدخل عائلة بوش في مسألتي اليانصيب والحرس الجوي إلى الأبد، وهي العملية التي تخلص بها جورش بوش عندما كان طيارا من المشاركة بالحرب الفيتنامية”([5]).
وعلى التوازي تخوف آخر يورث تشاؤما وكآبة، وهو التخوف الناتج عن صعود اليمين المحافظ في أمريكا والغرب، وتنامي الهوس الصليبي الذي تراجعت بإزائه مبادئ العلمانية والديموقراطية، وقد بدأ التشاؤم يستفحل، وعلى حد قول بعض المفكرين الكبار: “نحن لا نملك شيئاً لنكون غير متشائمين عدا التشاؤم نفسه … وإنّ تدوير الغرب ليعود إلى التفاؤل سوف يستغرق حركة فكرية جديدة كاملة، وليس هناك أيّ علامة على مثل هذا التحول في الأفق”([6]).
هذه هي العوامل الكبرى التي تكمن وراء ما رأيناه في السنوات الأخيرة من انتفاضات شعبية محدودة ومؤقتة، ومنذرة في الحقيقة بطوفان قد يأتي لاحقاً، لاسيما وأنّ الحكومات بعد العولمة لم تعد تملك التراجع عن سياساتها التي تمليها الرأسمالية النيوليبرالية، ولا يتوقع التراجع عن الانحرافات المتعلقة بقيم الديموقراطية بعد أن تحولت هذه الانحرافات من كونها ممارسات من خلف ظهر القانون إلى قوانين يسعى التنفيذيون المرتشون إلى تمريرها عبر تخويف الناس من (alien)، الذي يتخذه المستبدون “الديمقراطيون!” مبرراً لتحقيق “عولمة الهيمنة العالمية”؛ “وذلك باستثارته تحالف كل السلطات سواء منها الديمقراطية الليبرالية أو الشمولية الفاشية المتضامنة أو المتواطئة بصورة عفوية في الدفاع عن النظام العالميّ”([7]).
لكن هل سيؤدي ذلك إلى سقوط سريع للغرب وعلى رأسه أمريكا؟ هذا حديث آخر لا نملك آليات الخوض فيه ولا البيانات الرئيسية التي تساعد على حسم الجدل حوله؛ لكونها معلومات يغلب عليها الطبيعة المخابراتية والبحثية المتخصصة، لكنّنا نملك أن نقول إنّه برغم كل هذه العوامل المؤدية للسقوط لا تزال أمريكا تملك كثيرا من أسباب البقاء والاستمرار، وهي ليست كالاتحاد السوفيتي الذي سقط بين عشية وضحاها في مشهد تراجيدي كوميدي كنظرية الشيوعية المترعة بالتناقضات وكتاريخها الزاخر بالمضحكات المبكيات.
كما أنّنا لا نتفاءل كثيرا بالسقوط المجرد للغرب مالم يواكبه صعود ونهوض للأمة الإسلامية، وإلا فليس من دواعي السرور أن تنتقل من قبضة عدو يأسرك ويجوعك لتقع في قبضة آخر يصنع من جسدك معلبات طعام للكلاب الضالة، وأعني بذلك الصين تحديداً، فإنّها لا تملك من مقومات الحضارة والمدنية إلا الجانب الماديّ المظلم القاتم، وإنّها والله الوحش الضاري الذي يكمن؛ ريثما تنتهي القوى الأخرى من الإنهاك المتبادل؛ لينقض على الجميع؛ ويعيد سيرة المغول الأولى ولكن بنكهة نووية أو بيولوجية، ونسأل الله العافية والسلامة، كما ندعوه أن يحقق للأمة نهضة ترفع بها عن كاهل الإنسانية الظلم والضير.
([1]) صحيح مسلم برقم (2898)
([2]) راجع: اقتصاد يغدق فقرا – هورست أفهيلد – ترجمة د. عدنان عباس علي – عالم المعرفة 335 – الكويت – ط 2007م صــــــ67
([3]) الاغتيال الاقتصادي للأمم – جون بيركنز – ترجمة مصطفى الطناني – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2004م صــــــ52
([4]) تأملات في ثورات العصر – هارولد لاسكي – ت عبد الكريم أحمد – ط دار القلم – القاهرة – بدون تاريخ – صــــ 357
([5])أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها – غرين بالاست – الدار العربية للعلوم – ترجمة مركز التعريب والبرمجة – ط أولى 2004م – صـــــــ108
([6]) انتحار الغرب – ريتشارد كوك ، كريس سميث – ترجمة محمد محمود التوبة – ط أولى 2009م العبيكان السعودية صــــــ 114
([7]) روح الإرهاب – جان بودريار – ترجمة بدر الدين عمرو زكي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة – ط 2010م صـــ88