الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم أَعلمْ على وجه الأرض معارضةً سياسيةً أَعْجَبَ ولا أَغْرَبَ من المعارضة السياسية التركية! إنّها تمتهن التناقض، وتحترف التقلُّب بين الآراء والتوجهات التي لا رابط بينها ولا ضابط! وتَتَفَنَّنُ في إهدار ماء وجهها بتقلُّبها هذا، وهي لا تبالي ولا تكترث! وما جعلها تنحدر إلى هذه الهاوية الوبيلة إلا أنّها معارضة لمجرد المعارضة، دون أدنى موضوعية أو مصداقية، وتلك هي: “المعارضة المحضة”.
وإنّ المعارضة المحضة لَشَرٌّ محض؛ لأنّها ببساطة شديدة لم تقم على منهجية إيجابية تنشد الإصلاح، وإنّما قامت على سلوك سلبي يروم الهدم والإسقاط، ومن ثم فهي لا ترى من الكوب الْمُتْرَع ماءً إلى قرب حافته إلا الجزء الضئيل الفارغ، ولا تُبصر من الدوحة الغناء إلا ما تساقط من أوراقها، ولا يَلْفِت نظرها في الوجه الصبوح الجميل إلا ذبابة تحوم حوله ولو من بعيد، وبطبيعة الحال هي لا تُرِى النَّاسَ إلا ما ترى ولا تَعْرِض عليهم إلا ما يظهر لنظرها العليل وفكرها الكليل.
إنّ الاستمرار في توجيه النقد الأجوف الفارغ لسياسة (أردوغان) وهو يصول ويجول في المنطقة؛ من أجل تأمين الحدود الجيوسياسية، ومن أجل سحب الشريط الملتهب بعيدا عن النطاق الجغرافي، ومن أجل قطع الطريق على من يستهدفون أمن البلاد وأقوات العباد، ومن أجل أن تضع تركيا الجديدة قدمها على طريق الكبار الذين يتقاسمون المغانم ويتركون للمتقاعسين المغارم؛ إنّ هذا الاستمرار في النعيق والنقيق لا يؤدي إلا إلى تضليل الشعب، أو “تَبْلِيْهِ الجمهور” بحسب تعبير (موريس دوفرجيه) وهو يحذر من الإعلام الرأسمالي، وفي النهاية إذا – لا قدر الله – تحقق لهؤلاء ما يريدون فسيكون الشعب باختياراته مثل قوم يفقئون أعينهم بنصال أظفارهم ويأكلون أكبادهم بشفار أسنانهم.
لقد تعجبنا عندما رأينا السيد أكرم إمام أوغلو يترك مهامه في بلدية المدينة الكبرى “إسطنبول”؛ ليطوف البلاد مندداً بسياسات أردوغان، فمن ديار بكر حيث التقى برموز الشعوب الديموقراطي إلى فرنسا حيث اجتمع بفئام من الزعامات الغربية لا ترقب في تركيا شعبا وحكومة إِلَّاً ولا ذمة، كأنّه لم يدخل معركة الانتخابات على البلدية إلا ليتخذ منها ومن منصبه بالبلدية متكأً للنيل من أردوغان وللسعي في إسقاطه! وهذا السلوك – لَعَمْرُ الحقِّ – لا يمكن أن ينتسب إلى “المعارضة السياسية” إلا إذا أمكن أن ينتسب إلى الحنيفية طوافُ الأعراب حول هبل ونائلة.
وبينما لم يَنْقَضِ العجب من السياسات المكوكية للرجل الذي لم يحقق إلى الآن إنجازاً يُسَطَّر في التاريخ إلا مجزرة فصل الموظفين والعمال؛ إذ بنا نسمع صوت الزعيم كلشدار يصيح صياحاً يتردد صداه في أجواز الفضاء وأنحاء الغبراء، ويصرخ معترضا: “ما لنا وسوريا” “ما لنا وليبيا ومصر” وكأنّ الرجل يرى العالم أقاليم متفرقة، قد انعزل بعضها عن بعض بحدود فولاذية، أو بفيافي شاسعة لا يسكنها إلا الجان، وليس بينها تماس جغرافي ولا تداخل سياسي ولا تقاطع جيوسياسي! فكيف لمن هذه طريقته في التفكير والتعاطي مع الأحداث المعقدة إذا تولى حزبه قيادة البلاد – لا قدر الله – كيف سيدير الأمور؟ أم إنّها فقط مجرد إدارة لعملية: “تبليه الجمهور”؟
إنَّ المعارضة صمام الأمان للحكم الرشيد، والضمانة الأكيدة لعدم الاستبداد، ولكن عندما تكون معارضةً رشيدة سديدة، عندما تكون معارضة عاقلة عادلة، عندما تُعْلي مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وترفع معيار الحق والقيمة فوق كل معيار، وترتفع وتترفع بسياساتها وإعلامها عن الكذب والدجل وعن المخادعة والختل، وتعدل في القول والفعل وفي تقييم الفِعَال والرجال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) (الأنعام 152) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة 8)، تلكم هي المعارضة الإيجابية البناءة، والتي يطلق عليها في الفقه السياسي الإسلاميّ: “الحسبة السياسية”.