بينما يتابع العالم الإسلاميّ أحداث العدوان الصهيونيّ على غزة بلهفة واهتمام، فتنبسط الأسارير تارة وتنقبض أخرى؛ يغفل الجميع – إلا القليل ممن اتفقوا في تخوفاتهم واختلفوا ردود أفعالهم – عن الخطر الداهم الذي يهدد المشروع الإسلاميّ بالتعطيل التام والموت الزؤام، مع التسويق والترويج لأكبر مشروع مناهض للإسلام من داخل الأمة الإسلامية في دائرتها الأوسع، هذا الخطر يتمثل في ابتلاع المشروع الإيرانيّ المتغول على أهل الإسلام للمقاومة، وللأنموذج الفذّ الذي يوشك أن تستلهمة الأمة في كافّة أقطارها؛ من أجل تحرير الشعوب المسلمة كلها من الأنظمة التي لا تقل عن الكيان الصهيونيّ في الصهينة والعداوة، للإسلام، فما المخرج؟ وأين السبيل؟ وكيف للأمة أن تتوقّى هذا الخطر الداهم؟
خداع المصطلحات
في الابتداء يجب أن نقوم بتحرير المصطلحات، فعندما نقول “الأمة الإسلامية” أو نقول “أهل السنة” فإنّنا لا ندخل في واحد من المصطلحين الأنظمة الحاكمة للمسلمين أهل السنة، لأنّها أنظمة لا علاقة لها بالإسلام ولا بالسنة من حيث الأصل، وهذا أمر غاية في الأهمية ولاسيما مع المقارنة بين دور إيران في نصرة الشيعة ومذهبهم ودور الأنظمة الحاكمة لبلاد المسلمين في خذلان أهل الإسلام، كما يجب أن نقوم بتحرير المصطلحات المتعلقة بتمييز المشروع المناوئ للمشروع الإسلاميّ، والذي تقوده إيران وتبسط سلطانه من خلال أذرعها الممتدة في أقطار الأمة الظاهرة وفي أحشائها الباطنة، وهذا ما سوف نتعرض له بشيء من التفصيل أثناء المقال، لكنّها إشارة تحذيرية سريعة في الابتداء لتحريك دوافع اليقظة والانتباه.
بين توصيف الواقع وتضليل العامّة
كثير من الطيبين الصادقين يتوجهون إلى تكييف الدور الإيرانيّ وتوصيف واقعه في ساحة الصراع؛ وذلك في مواجهة غلو البعض في تفظيع وتبديع التعاون والتحالف القائم بين المقاومة الفلسطينية وبين إيران وأذرعها في المنطقة كحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، فيبالغون في التهوين كما يبالغ الآخرون في التهويل، حتى يقول أحدهم – ممن لا نعيب عليهم في إخلاص ولا صدق – “إيران دولة ذات عقيدة؛ أي أنها تتحرك بمنطق الدولة في مسار ترسمه لها العقيدة، ومنطق العقيدة يجمح بها إلى التوسع والانتشار والسيادة والهيمنة، ومنطق الدولة يذكرها بالمصالح والمفاسد، وحسبة المكاسب والخسائر .. فهي ليست حركة نضال ولا جماعة استشهادية ولا تفكر بمنطق حركة التحرر الوطني أو الإسلامي”.
والأمر بالنسبة للمقاومة وعلاقتها بإيران هين؛ لأنّ ما يجري لا يعدو أن يكون تحالفًا عسكريًّا، والتحالف العسكريّ جائز بشروطٍ أحسب أنّ المقاومة لم تفرط فيها عن عمد وقصد، وما وقع مما نخشاه إنّما وقع بسبب الاضطرار، وما لا يجوز في حال القدرة والاختيار يجوز في حال الضعف والاضطرار، والمعَوَّلُ عليه في الحكم بمشروعية التحالف شرطان، الأول: أن يكون الأمر المتحالف عليه جائزًا شرعًا، الثاني: ألا يكون التحالف ضد مسلمين أو معاهدين لهم ذمة أو عهد، فهذان الشرطان متحققان والحمد لله، وتبقى بعد ذلك شروط أخرى، كشرط الراية والغلبة والظهور، فإنّ راية البدعة ليست هي الغالبة الظاهرة في ميدان المعركة، وإن بدأت تبزغ مؤخرا مع ظهور مصطلح “محور المقاومة” وهو ما سوف نتعرض له بعد قليل، وهذا بحدّ ذاته لا ينهض في حال الاضطرار والاقتهار لإبطال مشروعية التحالف.
أمّا ذلك التوصيف لإيران ففيه قدر كبير من التلبيس – وإن لم يكن مقصودًا بالطبع – “فإيران دولة عقيدة ودوافعها العقدية تضطرها للتوسع على حساب الآخرين”، هذا صحيح بحدّ ذاته، لكنّ مساق الحديث ليس في توصيف وتكييف النظام الإيرانيّ، وإنّما في توصيف وتكييف العلاقة مع إيران التي هذا واقعها؛ فلا يصح أن يُكتفى بذلك دون التصريح بباقي الحقيقة، وهي أنّ الدوافع العقدية لدى المشروع الإيرانيّ تدفع إيران وأذرعها إلى ارتكاب المجازر البشعة بحقّ المسلمين وسفك دماء أهل الإسلام وانتهاك أعراضهم ونهب ثرواتهم؛ من أجل التوسع، لا على حساب ملل الكفر وإنّما على حساب الإسلام، وأنّ إيران تعمد إلى التظاهر بمناصرة القضية الفلسطينية لتغسل جرائمها بذلك في نظر المسلمين، وتلمّعِ َوجهها وتُسَوِّقَ لمشروعها، ومن ثمّ فلا يجوز التحالف ولا التعاون معهم باعتبارهم مسلمين، وإنّما يكون التحالف معهم كالتحالف مع الكفار بشروطه التي ذكرها أهل العلم، والتي تجتهد المقاومة في الحفاظ عليها إلى الآن، ولا أحسبها ستكون قادرة في المستقبل على الاستمرار على ذلك الحفاظ بالمستوى ذاته.
وليس صحيحًا القول – في سياق الحديث عن المشروع الإيرانيّ – بأنّ الشيعة في العموم من المسلمين، إنّما يسوغ ذلك – على تحفظ لدى البعض – عند الحديث عن الشعوب المنتسبة للإمامية ومَنْ دونهم في التشيع، وشتان شتان بين شيعة إيران والعراق – على جلافتهم واحتمال كفر الكثيرين منهم – وبين المشروع الإيرانيّ الذي تتحالف فيه الهيئة الملالية المخرفة في “قُم” مع الهيئة السياسية المخربة في “طهران” تحت مظلة ولاية الفقيه القابع على كرسيّ الإمام المنتظر، فهذا المشروع باطنيٌّ زنديقٌ محارب للإسلام، أخذ من الصفوية والبويهية والقومية الفارسية والمجوسية أكثر مما أخذ من الجعفرية والهادوية والباقرية.
ثنائية مرفوضة
لأجل كل ما سبق، ولأجل تلك التغيرات الجذرية الهائلة التي طرأت على عقائد وشرائع المكونات الشيعية، ولأجل عدم قابيلية وضع الأمة في أصله لتعددية متكافئة؛ نرفض رفضًا قاطعًا ثنائية (سنة وشيعة)، بل لأجل ذلك كله نرفض في هذا الزمان تكرار مصطلح (أهل السنة) ووصف (المسلمين السنة) في سياق التمييز بين أهل السنة وبين الشيعة، ويجب أن يقال دائمًا عن أهل السنة لدى التمييز بينهم وبين الشيعة: (المسلمون) و(أهل الإسلام)؛ لا لأنّ الشيعة كلهم كفار، وإنّما لأمرين، الأول: أنّ مذهبهم – الذي رجح أغلب العلماء سابقًا أنّه ضمن المذاهب الإسلامية قد طرأ عليه من التغيير في العقائد والشرائع ما يوجب إعادة النظر في الحكم عليه وفي مدى صحة التعبد لله به، ثانيًا وهو الأهم أنّ الكيان السياسيّ الراعي للتشيع في العالم كيان باطنيٌّ زنديق محارب لله ورسوله، فإذا قيل (الشيعة) انصرف الوصف إليهم.
ومن يقول اليوم بأنّ: “الشيعة في الجملة مسلمون (على خلاف وتفصيل يُلتمس في مظانه من كتب العقيدة والفرق)” ويسوق أحداثًا تاريخية لدول متشيعة قاتلت الروم وغيرهم؛ إنذما يتحدث عن تاريخ مضى وليس عن واقع جاثم، ويقايس بين أمرين اختلفا وتباينا بما يمنع قياس احدهما على الآخر، فلقد زاد انحراف خطّ التشيع عمَا كان عليها في مراحل عديدة من تاريخ الشيعة، أهمها مرحلة البويهيين ومرحلة الصفوية ومرحلة الدول الباطينية كالعبيدية (الفاطمية)، وأخيرًا على يد الخمينيّ قائد الثورة الإسلامية المزعومة، وإذا كان بعض المستشرقين قد اتخذ هذه الثنائية بالأمس للطعن على الإسلام والتشكيك في ثوابته؛ فإنّ هذه الثنائية اليوم تلعب دورًا في غاية الخطورة، في ظلّ تمدد المشروع الإسلاميّ الذي يريد أن يستحوذ على صفة المركزية، مقصيًا أهل السنة الذين هم أهل الإسلام على الحقيقة إلى خانة الفرق الضالة.
محور المقاومة وبداية الابتلاع
صار مصطلح (محور المقاومة) يتردد من جميع الأطراف، في الوقت الذي يعلم فيه الجميع أنّ ذلك المحور يشمل بشكل مباشر: المقاومة الفلسطينية وحزب الله وجماعة الحوثيّ، ويشمل بشكل غير مباشر دولة إيران، شيئًا فشيئًا يتضائل في حسّ الناس دور المقاومة الفلسطينية التي تعدّ المقاومة الحقيقية، ويعلو ويتمدد المشروع الإيرانيّ بدولته وأذرعه، أرأيت كيف تسرق الثورات، وكيف يسرق جهاد الشعوب؟ وكيف تسطوا القوى المجرمة على ثمرة المقاومة؟ ذلك الذي نخشاه ويخشاه كثير مما يتفقون معنا في تخوفنا ويختلفون معنا في التعاطي مع الواقع ومع الأطراف التي أنشأت هذه التخوفات.
ولسنا نحمل حماس والجهاد وحدهم وزر هذا الذي نخشاه، وإنّما الوزر الأكبر يقع على أهل الإسلام الذين استسلموا لحكام صهاينة أساءوا للإسلام والمسلمين، وأظهروا بخيانتهم للقضية وبتآمرهم مع الصهاينة ضدّ المقاومة الفلسطينية أظهروا أهل الإسلام وكأنّهم قد تركوا القضية وتخلوا عنها، وأظهروا بالمقابل إيران وأذرعها على أنّهم الأولى بالقدس وبالمسجد الأقصى وبحمل همّ قضايا الأمة؛ فهل هذا السيناريو الكئيب مراد لنا من النظام العالميّ الخبيث؟ بالتاكيد: نعم، والله تعالى أعلم.
أمّا حماس والجهاد فلا تثريب عليهم في تحالفهم واستعانتهم بهؤلاء المجرمين، بشرط أن يجتهدوا في التزام شروط المشروعية التي أشرنا إلى أهمها آنفًا، وبشرط ألّا يسمحوا للتحالف العسكريّ الاضطراريّ أن يتحول إلى تحالف استراتيجيّ؛ فإنّ ذلك يؤدي شاءوا أم أبوا إلى ابتلاع المشروع الإيراني للمقاومة، فيجب ألا يتوسعوا في الثناء على الشيعة وعلى إيران وأذرعها، وأن يحترسوا من الاصطلاحات والإطلاقات المشبوهة، وأن يعلموا أنّ إيران وأذرعها اليوم بحاجة إلى الاستمرار في دعم المقاومة أشد من حاجة المقاومة لهم.
السيناريو المرجو والآخر المخيف المرعب
هل ستتوسع الحرب بما يضطر إيران للتدخل المباشر؟ هذا ما تتمناه إسرائيل وتتحاشاه إيران وتنظر إليه أمريكا نظرة المتخوف المستريب وإن كانت ماضية في دعمها لإسرائيل، هذا هو السيناريو الذي ترجحه معطيات الأحداث الأخيرة؛ لأنّ إيران لا يسعها أن تمرر حادث اغتيال هنية على أراضيها دون ردّ يردّ لها الاعتبار؛ لأنّ انحناءها للعاصفة سيكون كاسرًا لظهرها باعتبارها في نظر نفسها الراعية للمقدسات، ولأنّها إن فعلت فلن يضيع نتنياهو الفرصة ليجرّ المنطقة قسرًا إلى حرب إقليمية؛ لتضطر أمريكا للتدخل، وعندئذ فلن تكون المقاومة سوى الحطب الذي يحترق للدفاع عن المشروع الإيراني الآثم.
أمّا السيناريو الآخر فهو سيناريو التفاؤل، وهو ليس ببعيد، وعلى الرغم من أنّ اختيار يحي السنوار ليخلف هنية في قيادة الحركة ورئاسة المكتب السياسي يعدّ توجهًا لتوسيع نطاق العلاقة الإيرانية الحمساوية فإنّ السنوار رجل ميدانيٌ، ولن يفارق الميدان لينغمس في المفاوضات، وفي هذا ما فيه من تغليب النفس الجهاديّ، فهل سيقود المقاومة إلى الخلاص الكبير؟ ذلك الذي نؤمله، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، (سبحان ربك ربّ العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين).