المنطلقات الشرعية لـ”ثورة الغلابة”

لست أدري.. ولا أحد – على وجه اليقين – يدري؛ ما الذي يمكن أن يسفر عنه يوم الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، هل سيكون يوما واعدا، نازعا لوكاء الغضب، خارقا لجدار الصمت، باعثا لجسد الثورة التي وئدت حية تحت ركام الأحداث الجسام؛ كما يتوقعه كثير من المتفائلين؟ أم سيكون مجرد نقطة كبيرة هامّة، من النقاط التي يكسبها معسكر الثورة في معركة الوعي، التي تدور رحاها منذ ما يقارب نصف العقد من الزمان؛ كما هو ظاهر من لغة المتحفظين؟

لكنَّ الذي أدريه على وجه اليقين – ولا أحسب أن أهل الدراية بهذه الأمور يخالفونني في ذلك – أنّ ثورة المقهورين المهضومين (الغلابة) في مصر قادمة، بل هي في حقيقة الأمر قائمة، لكنها اليوم تحت التراب وغدا يزاحم دخانها السحاب، ولا أحب أن تجمد تطلعاتنا عند ذلك اليوم المرتقب (11 /11) وإن كان داخلا في التطلعات بالضرورة؛ فما تنذر بها الإرهاصات المتوالية، وما تنبئ به التوقعات المبنية على استقراء تام للواقع أكبر بكثير من مجرد دعوة أيَّا كان حجمها، وما الدعوات إلا جزء من تلك الإرهاصات السافرة التي لا تفتأ تبرق وترعد مبشرة بسيل جارف لا يبقي ولا يذر.

وإنَّني لعلى يقين – بموجب ما تراكم على متن الأحداث والأيام – من حملة وشيكة يتولاها كهنة النظام الانقلابيّ المنتسبون للدين ظاهرا المنسلخون منه باطناً؛ مفادها أنَّ كل تحرك صوب باب الحرية حرام وإجرام، ومؤداها وجوب الصمت وعدم الكلام.

لهذا، ولباعث آخر أسبق وأعمق، وهو ضرورة الرجوع إلى الشريعة الإلهية في كل ما عنَّ لنا وبدا؛ أحببت أن أقدم بين يدي الأحداث المرتقبة حكم الشرع في مثل هذا التحرك الشعبيّ الذي قد يفضي إلى ثورة عارمة، وقد اكتفيت بتسميته (المنطلقات الشرعية) وإن كنت قد أضمرت نية الاستطراد إلى متممات تتعلق بالضوابط.

أول هذه المنطلقات؛ أنَّ الشعب المصريَّ ليس مُكَبَّلاً بعهد ولا ميثاق تجاه حاكم أو نظام؛ وليس في عنقه بيعة إلا لذاك الرجل المسجون ظلما، أمّا السيسي والنظام الذي يَجْثُمُ هو في قمته فهو باطل وساقط ومنعدم، ولا يمثل مصر ولا المصريين إلا بمقدار ما كان يُمَثِّلها المندوب السامي المبعوث من قِبَلِ الاحتلال، وهذه حقيقة يدركها هذا الشعب صاحب الثورة ويعيها بالبداهة.

أجل.. ليس لأحد من هؤلاء (البلطجية) المتسلطين في أعناق المصريين بيعة ولا عهد ولا ميثاق، وليس لأحد منهم على أبناء الشعب سمع ولا طاعة؛ إذ لم يكن للشعب في حكمهم رأي ولا صوت، ولم يكن لهم بحاجات الشعب ومطالبه دراية ولا اهتمام، بل كان منهم العسف والجور والتسلط، وانتهاك كافة الحقوق، ومصادرة كافة الحريات، والغصب – فوق ذلك – لِمُقَدَّرات الأمة وأقوات العباد.

أمّا ما يستدعيه الكهنة من ذوي اللحى أو العمائم؛ من أحكام لا علاقة لها – من حيث التنزيل – بواقعنا الذي نعيشه؛ فهذا مما لا يمكن أن يقبله عاقل أو يستسيغه مُمَيِّز. فلا هؤلاء حكامٌ متغلبون بالمعنى الفقهي الذي قصده الفقهاء، ولا حكمهم – من حيث الأصل – يصح أن يُطْلَقَ عليه وصفُ الحكم الذي تَتَنَزَّل عليه أقوال الفقهاء، وذاك الأنموذج (الحاكم المتغلب) استدعاه وعَّاظُ التَّدْجين ومُسَوِّقوا (أفيون الشعوب)؛ ليُلْجِمُوا به الغضب الفائر في قلوب من يُسَمُّونهم بالرعية، وما هم برعية؛ لأنَّه لا رعية بغير راع، ولا رعية يكون راعيها ذئب أكول متربص.

ثاني هذه المنطلقات أنَّ العدالة الاجتماعية المفقودة في مصر بسبب هذه الشرذمة الحاكمة حقٌّ قررته شريعة الله تعالى قبل أن يخطر ببال أحد من الشرق أو الغرب، ووضعت لها الأحكام التي تضمن تحقيقها دون مساس بحق الملكية الخاصة، والذي لا يعلمه كثير من الناس أنَّ الزكاة والوقف وسائر العبادات المالية آخر هذه الأحكام.

فالنظام الحاكم يجب عليه – ابتداء – أن يحمي عامّة الشعب من تغول أصحاب رؤوس الأموال على المال العام وعلى ما هو منفعة عامة للأمة، و أن يحول دون استئثار الأغنياء بالانتفاع بموارد الدولة، فإن الأغنياء لهم أموال كثيرة، وإمكانات ضخمة، وإذا فتح الباب لهم لينتفعوا بالموارد العامة فسوف تكون هذه المنافع والأموال العامّة دُولَةً بينهم ويحرم منها البسطاء؛ لذلك شدّد عمر على عامله على الحمى ألا يدخل فيه نَعَمَ ابن عفان وابن عوف، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الحِمَى، فَقَالَ: ” يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ…”(1).

كما أنَّ أحكام الفيء شرعت لهذه الغاية، فما أفاءه الله على بيت مال المسلمين دون أن تُبْذَلَ فيه مشقة كبيرة يجب أن يوضع كله تحت بندين: المنفعة العامة وجبر الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل؛ قال تعالى: “مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ” والغرض هو تحقيق التوازن الذي أجملته عبارة القرآن البليغة: ” كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ” والفيء يقاس عليه كل ما دخل خزانة الدولة من مال لم يبذل فيه الناس جهداً عظيما أو نفقة كبيرة بجامع الغاية التي قررها القرآن: “كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ”، وذلك مثل قناة السويس، والبترول والغاز ومناجم الذهب وغير ذلك مما أفاءه الله على المسلمين.

بل يذهب الفقهاء إلى أبعد من هذا، إذ يرون أنَّ الأغنياء تمكنهم قوتهم الاقتصادية من الانتفاع بمقررات البلاد؛ لذلك يجب أن يفرض عليهم ما يسد حاجة الفقراء إذا لم تكف الزكاة، يقول الإمام ابن حزم: “وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة”(2).

ولم ينس الفقهاء أن ينبهوا على أنّ الضرائب لا يصح أن تفرض على الشرائح البسيطة في المجتمع إلا إذا نزلت بالأمّة حاجة عامة بحيث لا تكفي موارد الدولة ولا الضرائب المفروضة على الأغنياء، فالأصل في توظيف الضرائب أنها على الأغنياء، وهذه بعض نصوص العلماء: يقول الإمام الغزالي: “إذا خلت أيدي الجنود من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لَخِيْفَ دخول العدو بلاد الإسلام، أو خِيف ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلاد الإسلام؛ فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند” (3).

ويقول الإمام الجويني: “إذا صفرت يد راعي الرعية عن الأموال، لحاجات ماسة، فلا يخلو الحال من ثلاثة أنحاء: الأول: أن يطأ الكفار ديار الإسلام – والعياذ بالله – فقد اتفق حملة الشريعة قاطبة على أنه يتعين على المسلمين أن يخفوا إلى مدافعتهم زرافات ووحداناً.. وإذا كان هذا دين الأمة ومذهب الأئمة، فأي مقدار للأموال في هجوم أمثال هذه الأهوال، لو مست إليها الحاجة؟! وأموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم لم تعدلها، ولم توازنها، فيجب على الأغنياء في هذا القسم أن يبذلوا فضلات أموالهم، حتى تنجلي هذه الداهية، وتنكف الفئة المارقة الطاغية”(4).

ويقول الإمام الشاطبي: “إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد حاجات الثغور.. وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى مالا يكفيهم، فللإمام – إذا كان عدلاً – أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال إلى أن يظهر مال بيت مال المسلمين، ثم ينظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك، كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلاً من كثير- بحيث لا يجحف بأحد -ويحصل المقصود” (5).

ثالث هذه المنطلقات – وأحسبه أولها على الحقيقة – أنَّ الحاكم – حتى ولو وصل إلى الحكم بطريق شرعيّ – إذا شجع على الفساد والإلحاد وهدم الأخلاق والشرائع فإنَّه يجب السعي في خلعه، وذلك بغض النظر عن كونه في نفسه مسلم أو لا، وهذا مما لا يختلف فيه العلماء، وهو منصوص في حديث عبادة: “إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم فيه من الله برهان”.

وأكتفي بهذه المنطلقات؛ ففيها الغناء عما لم أذكره على كثرته، ونسأل الله أن يحمي مصر وأن يحفظ شعبها.
__________

الهوامش:

(1) صحيح البخاري (4/ 71)
(2)المحلَّى – ابن حزم 6/224-227 
(3) المستصفى من علم الأصول للغزالي 2 /304-305، مطبوع مع مسلَّم الثبوت 
(4) الغياثي للجويني 256-273
(5)الاعتصام – للإمام الشاطبي 2 /121-123