الموقف من الانتخابات.. خياران

واعجبا لأنصار الشرعية هؤلاء! ما أشد تناقضهم! وما أبعد الشقَّة بين ما يعتقدون في نفوسهم وما يمارسون في واقعهم! فلولا أنَّنا على يقين من أنهم إنِّما ينطلقون من رغبة صادقة في مزاحمة الانقلاب ومراغمته، لظننا أنهم كتيبة من كتائبه وفصيل من فصائله، ولو أنَّنا لم نعرف من أحوالهم إلا تلك المواقف العجيبة والتصريحات الغريبة، لما ساورنا شك في انعدام الفرق بينهم وبين “الانقلابيين” الأقحاح.

وإذا كانت مواقفهم وتصريحاتهم عجيبة، فإنَّ تبريراتهم أشد عجبا وغرابة. فتارة يقولون إنَّ من الواجب علينا المشاركة في انتخابات الرئاسة لئلا ينفرد بالمشهد المستبدون و”الكومبارس” المشرعنون للمستبدين، وتارة يقولون إنَّ المشاركة إنَّما تهدف إلى فضح النظام وتعريته وكشف سوءاته، وتارة يبررون بما هو أبعد من هذا وذاك؛ شططا مما لا داعي لإثارة الخجل بذكره، وربما ساقوا بعض ما يمكن أن ينكره عليهم المتابعون من مفاسد المشاركة، ثم ضربوا الذكر عنه صفحا بدون سبب معقول أو مبرر مقبول.

الخلل ليس في مبدأ العمل بالمصلحة؛ فأغلب الممارسات السياسية مبناها على الموازنة بين المصالح والمفاسد، لكنّ الخلل في اختلال الرؤية

والخلل ليس في مبدأ العمل بالمصلحة؛ فأغلب الممارسات السياسية مبناها على قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد، لكنّ الخلل يكمن في اختلال الرؤية؛ إذ كيف تتضاءل في أعينهم مفاسد المشاركة على ضخامتها وتتعاظم في أخيلتهم مكاسبها على ضآلتها؟! بأيّ ميزان يزن هؤلاء الطيبون وبأيّ مكيال يكيلون؟!

إنَّ خلاصة القول في وصف المشهد أنَّه لا توجد انتخابات أصلا، وإنَّما توجد تمثيلية مفضوحة لا تفتقر إلى تكلف الفضح، والعالم كله – بما يحويه من دول يقال عنها إنها عريقة في الديمقراطية – يعلم ذلك ويباركه ويدعمه، تماما مثلما دعم الانقلاب، وأسبغ على قائده شرعية دولية لم يحظ بعشر معشارها من شعبه. فكيف نرضى لأنفسنا أن نكون جزءاً من لعبة تدور رحاها علينا وعلى شعوبنا المغيبة؟!

وما هي المصلحة التي يمكن أن ترجح على مفسدة إضفاء الشرعية على نظام لا يمكن أن ينال شرعية حقيقية مع مقاطعتنا، ولو تعلق في السماء بقدميه أو انغرس في الأرض برأسه؟ أو على مفسدة تمييع القضية العادلة وطمس معالمها؟ أو على مفسدة التلبيس على الشعب الذي يتوجب علينا توعيته وإيقاظه من غفلته؟ أو على مفسدة خسارة القاعدة الشبابية والإلقاء بها في هاوية التمزق والخلاف والانقسام؟

وما هي المفسدة التي نخشى مغبتها لو لم نشارك؟ أمِن العزلة السياسية نخشى؟ فنحن والله في غياهبها نتقلب من عشرات السنين، بل من مئات السنين إن لم نكن مبالغين.. أم من انسداد الأفق وانعدام المخرج واستحالة السبيل؟ فوالله لو كان فيها ثقب إبرة لما أتاحوه ولا أباحوه، ولو كان هناك شيء ينفع في مشاركتهم لنفعنا ونحن في سدة الحكم وعلى رأس الدولة.

لا يوجد من المفاسد التي نخشاها أو المصالح التي نتوخاها إلا أوهام سرابية لا يراها حقيقة إلا من اعتاد أن يرى في اليقظة ما يراه الحالم في المنام. فأبقوا على الشيء الوحيد الذي بقي في أيدينا، وهو الحقّ الشرعيّ القانونيّ الدستوريّ القديم؛ الذي لا يمكن أن يزول حتى نزيله نحن بتفريطنا أو توريطنا، ألا وهو “الشرعية”.

الشرعية الجوهرة النفيسة والدرة المكنونة التي لا يدرك قيمتها إلا من يعي قيمة الإرادة الشعبية، وقيمة الثورة ومكتسباتها، وقيمة الشرع ومعطياته


أجل .. الشرعية؛ تلك الجوهرة النفيسة والدرة المكنونة التي لا يدرك قيمتها إلا من يعي قيمة الإرادة الشعبية، وقيمة الثورة ومكتسباتها، وقيمة الشرع ومعطياته. إنَّ هذه الشرعية هي الحسنة الوحيدة في تاريخ مصر من لدن ما قبل محمد علي إلى يومنا هذا.. إنَّها الوحيدة التي وقعت للمصرين في التاريخ الحديث كله.. إنَّها قيمة أعلى من الرئيس في شخصه رغم علو قدره، وأثمن من البرلمان والدستور رغم أنَّهما – بالقياس على السابق واللاحق – ثمينان ماجدان، وما لم تنسخ بشرعية أخرى حقيقية – وهذا ما لم يكن ولن يكون – فهي قائمة، وعلى صدور أهل الاستبداد والفساد جاثمة.

ثم إنَّه ليس بالتأرجح بين الخيارات المتباينة يستقيم المسار وتدنو الغاية، فإمَّا سياسة ومعارضة سياسية تعترف بالوضع القائم وبشرعيته، وتبني على ذلك استراتيجيات تندمج من خلالها المعارضة في النظام الدوليّ، وإمَّا ثورة يخطط لها الكبار بمشاركة الثوار ومشاورة الأحرار؛ بما يستلزمه ذلك من المفاصلة التامَّة مع النظام، وعدم الالتفات إلى اعتراف النظام الدوليّ أو عدم اعترافه. أمَّا هذه الأرجحة؛ فلا ثمرة منها إلا تبديد الجهود وتمييع المواقف وتضييع معالم القضية والتلبيس على الشعوب.

ليس بالتأرجح بين الخيارات المتباينة يستقيم المسار وتدنو الغاية، فإمَّا سياسة ومعارضة سياسية تعترف بالوضع القائم وبشرعيته، وإمَّا ثورة


قد تقول إنّه لا بد للثورة من سياسة، وأقول: أجل، لا بد لها من سياسة، ولكن سياسة تحظى بالاستقلال ولا تدخل تحت الاستحواذ والسيطرة.. سياسة ثورة لا سياسة نظام.. سياسة إنشاء وبناء لا سياسة ترميم، والسياسة أوسع بكثير من الممارسة السياسية في موقع المعارضة المركبة في جسم نظام قائم على نحو من الأنحاء.

أقول هذا وأنا على يقين من صدق النوايا ونقاء الدوافع، لكنه النصح الذي أُمِرنا به ونُدِبنا إليه: “الدين النصيحة”.