
بقلم د. عطية عدلان
في أحضان سلسلة جبال “الهيمالايا” الأكثر ارتفاعًا وشموخًا فوق البسيطة يتمطَّى إقليم كشمير، وينبسط على مساحة تقارب ربع مليون كيلومترا مربعًا، مشكِّلًا واديًا رحبًا، موزَّعًا بين سهول خصبة شديدة الخضرة يانعة الثمار، وبراري مزركشة مزخرفة كثيرة الألوان، وتتولجه بحيراتٌ واسعة وشلالات دافعة، ووسط هذا الجمال الساحر تحتشد أرتال الجند والعسكر، مدججة بأسلحة متربصة شديدة التأهب، تَمُتُّ جميعها بسبب متين إلى قوى نووية تتسم كلّها بالتحدّي والنِّدِّيّة، هذه القوى الثلاث (الهند وباكستان والصين) تحيط بالإقليم وتحاصره كأنّها قلاع عتيدة، لكل قلعة منها باب، ظاهره فيه الترقب وباطنه من قِبَلِهِ العذاب؛ يا إلهي: إنّ هذا الإقليم لعجيب! فهو من أكثر بقاع الأرض جمالًا ومن أشدّها عسكرة! فما علاقة هذا الإقليم العجيب بالحرب التي دقت طبولها اليوم بين الهند وباكستان؟
بؤرة الصلاع وجذورها التاريخية
لم تكنْ كلُّ تلك الأصقاع سوى مقاطعاتٍ مسترخيةٍ في طمأنينة وسلام تحت راية الإسلام، فمنذ أن فتح محمد بن القاسم بلاد (الهند والسند) إلى أن جاء الاستعمار الإنجليزيّ بلؤمه وشؤمه وجميع تلك البلدان (الهند وباكستان وكشمير وبنجلاديش ونيبال وسيريلانكا وما يتبعها من جزرٍ كالمالديف وغيرها) تنعم بالحكم الإسلاميّ، وعلى الرغم من ضعف الدول الإسلامية التي حكمت تلك المناطق الشاسعة وعلى الرغم من تنازعها وتناحرها فإنّ الظهور كان للإسلام والمسلمين، وكعادة الاحتلال؛ راهن الإنجليز على أصحاب العقائد المضادة للإسلام، وعملوا على التوطيد والتمهيد للسيخ والهندوس؛ فمالَ الميزان، وانقلبت الأوضاع، وصار الأعلون في أسفلها والأسافل في قمتها، وتمضي السنون والاحتلال ماضٍ في امتصاص الثروات وابتلاع الخيرات، إلى أن جاء عام 1947م ليشهد الجلاء، ولكن أيّ جلاء؟!
خرج الاحتلال الإنجليزيّ من الهند بعد أن أصيب بالتخمة مما ازدرده في جوفه من الثروات التي تكدست في أمعائه وتغلغلت في أحشائه، لكنّه – كعادته أيضًا – لم يخرج حتى ارتكب في حقّ الأجيال اللاحقة من المسلمين جريمتين، الأولى: أنّه مكّنَ للهندوس والسيخ بعد أن غذَّى الطبقية المتجذرة في عقائدهم من قديم الزمان، الثانية: أنّه وضع حدودًا وغرس فيها ألغامًا، وجاء إقليم كشمير بكامله في الخريطة الجديدة ليمثل سلسلة ألغام شديدة التعقيد، بين الهند التي يعدُّ فيها المسلمون أقليّة وإن كان عددهم كبيرًا، وباكستان التي يعدّ فيها الهندوس أقلية وإن لم يكن عددهم قليلًا، وانقسمت كشمير إلى كشميرين، إحداهما كشمير باكستان، والثانية كشمير الهند، وهي ما تسمى بإقليم (جامو وكشمير)، وبينهما حدود حمراء ملتهبة على الدوام، شهدت حروبّا بين الهند وباكستان كان أعنفها حرب 1965 وحرب 1971 وها هي الحرب تعود من جديد؛ فهل من جديد؟ أم إنّه الصراع العتيد العنيد؟
الحدث الذي نكأ الجراح
“الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها”، هكذا يقول لسان حال الندّيْن النوويّين (الهند وباكستان)، لكنْ ما الذي ينتظره الخلق من نظامين كلٌّ منهما يتخذ من الآخر شبحًا أسطوريًّا يستمدّ من ضرورة التصدّي له شرعيّة استقراره واستمراره، كلّ منهما صعد في الخطاب السياسيّ الأيديولجي قمّة يصعب النزول منها، هذا صعد المأذنة ممتشقًا سيفًا من قصب، وذاك سبح بسرواله فوق ثبج أشجار الجوز، وفي النهاية ليس للشعبين الهنديّ والباكستانيّ في هذه الحرب ولا فيما سبقها من حروب ناقة ولا جمل، وعلى الرغم من أنّ أحد الشعبين مسلم والآخر هندوسيّ يعبد البقر فإنّه من الظلم الزَّج بالشعوب في أتّون صراع لا تمثل الشعوب بأديانها وثقافاتها إلّا الحطب الذي يحترق ليبقى كل نظام جاثمًا فوق صدر رعيّته.
في الثاني والعشرين من إبريل نيسان المنصرم وقعت مجزرة للمدنيين في إقليم كشمير الذي يخضع للهند، حادث إرهابيٌّ راح ضحيته ستة وعشرون نفسًا من السياح الهنود، على الفور أعلنت الحكومة الهندية مسئولية غريمتها التقليدية القابعة في الجانب الآخر من الإقليم عن الحادث، وهو الإعلان الذي بادرت الحكومة الباكستانية بإنكاره وإعلان البراءة منه، ولم يكن لدى “مودي” من الصبر والروية ما يدعوه للتريث والأناة، كأنّه كان ينتظر الحدث بشوق ولهفة، وعلى الرغم من اعتراض الكثيرين من العسكريين اتخذ الرجل قراره بافتتاح وصلة حذرة من الحرب القذرة، لكنّه لم يكن يدري أنّ الجارة المسلمة لديها سلسلة من المفاجآت قبل الذهاب إلى التهديد بالاستراتيجي المرعب، كانت المفاجأة الأولى تلك الأسلحة التي أخذتها من الصين، أمّا الثانية فكانت البيرقدار التركية التي كان لها دور في حسم معارك وترجيح كفة المنهزم في معارك أخرى، فإذا بالارتباك يسود الموقف العسكريّ الهنديّ، إلى حدّ أنّ صواريخ بالستية تطلقها القوات الهندية فلا تقع إلا في كشمير الهندية، أمّا أمريكا فقد آثرت أن تمسك العصا من المنتصف.
الأتراك والنجدة التي لم تستغرق سوى “مسافة السكة”
لا أدري لماذا أجدني كثير التردد على هذه العبارة للمفكر الغربيّ صمويل هنتنجتون: “إنّ دولة مركز إسلامية يجب أن يكون لديها موارد اقتصادية وقوة عسكرية وكفاءة تنظيمية وهوية إسلامية، والتزام بأن تكون قيادة سياسية ودينية للأمّة“، وكذلك العبارة التي وقفت على مقربة منها كأنّها تفسير لقانون: “ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها عند نقطة ما؟ يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المحبط والمهين كمتسول يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخيّ الأكثر تأثيراً ورقياً“، ها هي تركيا تتمدد على تؤدة، ولا تخرج في تمددها هذا عن المساحة التي يمكن لها أن تلعب فيها الدور الذي أشار إليه “هنتنجتون”، آخر ذلك أنّها بادرت في وقت مبكّرٍ جدًا بإمداد باكستان بطرد من الجيل الحديث لمسيرات البيرقدار؛ الأمر الذي أثار حفيظة الهنود، وفي المقابل أثار في نفوس الباكستانيين مشاعر الغبطة بوفاء الحليف الصدوق المأمون، فهل نحن على أعتاب عصر سيشهد ناتو إسلاميّ؟
قرار إيقاف الحرب نصر عاجل أم كمين آجل
لا ريب أنّ قرار وقف الحرب يعدُّ نصرًا سهلا للباكستانيين، ونكبة عاجلة للهنود، وهذا أمر مفرح لأهل الإسلام، لكن ينبغي الحذر؛ فإنّ الهند الحليف الاستراتيجي للصهاينة لا تؤمن بوائقها، والله المستعان.