انقلاب تركيا: تعظيم المغانم وتحجيم المغارم

لم تكن الانقلابات العسكرية على إرادة الأمّة في يوم من الدهر منبعاً للمغانم، ولم تسلم في مرة واحدة وقعت فيها من المفاسد والمغارم، هذا ما يشهد به التاريخ وينطق به الواقع؛ فسلوهما عما خلفته من دمار، وعما أوررثته للبلاد والعباد من بوار وتبار. وإذا كان الانقلاب العسكريّ في مصر قد أطاح بمكتسبات ثورة يناير والربيع العربيّ وأطاح معها بأحلام الشباب وآمال الجيل؛ فإنّ انقلاب الخامس عشر من يوليو 2016 في تركيا كان يناط به – لو نجح – نسف كل ما تبقى من أمل في الحرية والعيش الكريم لجميع الشعوب العربية والإسلامية لأجيال عديدة وعقود مديدة.

ومع أنّ هذا الانقلاب الأسود قد فشل فشلاً يجعل التفكير في الانقلاب مستقبلاً يعادل التفكير في الانتحار حرقاً؛ فإنّ آثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليست بالأمر الهين، فهي من الضخامة والأهمية والحساسية بالقدر الذي يجعلها منطلقاً صالحاً للضدين: الوثوب للأمام أو النكوص للخلف؛ بحسب تعاطي الأمّة مع الحدث، وبرغم أنّ ردود الأفعال المتاخمة للحدث زماناً تُطلق البشريات في كل الآفاق السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فإنّه يبقى أنّ آثار مثل هذه الأحداث، ولا سيما مع تعقد المصالح وتشابك التحديات، لا تظهر فجأة ولا تختفي كذلك فجاة.

وبما أنَّ سُنة الله قد مضت بأنّ الأحداث لم تتمحض للخير أو الشر، ولم تخل من تداخل المصالح والمفاسد؛ فإنّه من الواجب علينا أنّ نسعى لتعظيم المغانم وتحجيم المغارم، بقدر الإمكان؛ لنكون قد أدينا ما علينا من الأخذ بالأسباب، ويقيننا أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنّه لا يخذل المتوكلين عليها توكلاً صحيحاً.

ومن الطبيعيّ أن نبدأ بالمغانم؛ لكونها الأكثر والأظهر، ويأتي على رأس هذه المغانم ذلك التلاحم الذي بدا في الحركة الثورية الشعبية المقاومة للانقلاب، التلاحم بين شرائح الشعب التركيّ على اختلاف توجهاته السياسية وخلفياته الثقافية وجذوره العرقية، ولم يكن الحدث ذاته سبباً في هذا التلاحم؛ فقد وقعت من قبل انقلابات كثيرة لاقت نجاحاً وروجاً لكونها لم تلق ذلك التلاحم، وإنما السبب الحقيقي هو التربية السياسية التي نعم بها المجتمع التركيّ في العقد الماضي؛ والتي أحس فيها بقيمة صوته وإرادته وممارسته لحريته السياسية والاقتصادية، ولم يكن الحدث إلا مجرد كاشف لهذه اللحمة القوية وهذه الروح العالية النقية.

وإذا أردنا أن نُعظم من هذا المغنم فعلينا أن نسعى لسحب هذا السلوك ليغطي كثيراً من مساحات الثوابت، التي غامت خلف سحائب التضليل الإعلاميّ، الذي يقتات الكذب ويتكسب من إثارة الاختلافات والنزاعات، إنّ مساحة الشرعية التي جمعت الأتراك تحت راية واحدة هي مجرد رقعة بسيطة من مساحات شاسعة من الثوابت التي كان من الممكن أن يجتمع عليها الأتراك من زمن بعيد؛ ليحققوا الوثبة الكبرى التي تتجاوز بهم خطوط التحديات الكبار، لولا الأزمات السياسية المفتعلة، وبإمكان أهل الفكر أن يحرروا هذه الثوابت ويدعوا الناس إلى الاعتصام بها والالتفاف حولها.

ولكي يتوفر المناخ الصحيح لتحقيق هذا المقصد الاستراتيجي الحضاري الهائل لا بد من ترشيد الإعلام، ونشر ثقافة المهنية والموضوعية والمصداقية في أروقته، وكذلك ترشيد التعاطي معه من قبل الشعب، فعلى قدر وعي الشعوب يكون الإعلام، وهنا نجد القرآن الكريم ينكر على فئة من المؤمنين أنهم يعطون آذانهم لكل مدخول؛ قال الله تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

ومن أبرز المغانم أن فشل هذا الانقلاب وسقوطه جدد الأمل في شباب الأمة، وجعل حلم استعادة الربيع العربيّ قريب المنال، وهذا مغنم كبير واسع المجال وارف الظلال؛ لأنّ أثره يتعدى دون افتعال ولا تكلف، فيعبر الحدود ويتجاوز السدود؛ ليستقر في ضمير الجيل الممتد في رقعة من الأرض تنتشر في قارات العالم الكبرى.

وسوف يبقى هذا الأثر حتماً؛ إلى أن ينجح الجادون من أبناء الأمة في استثماره أو ينجح الضائعون التائهون منها في إهداره، ولن تكون ردود الأفعال سبيلاً إلى النجاح، ولن تبلغ الأمة ما تريد إلا من خلال عمل مستمر طويل النفس مبنيّ على رؤية بعيدة المدى، ومشروع ينهض ببنائه كبار الأمة وأهل الحل والعقد منها، بعد توحدهم على هدف واحد ورؤية مشتركة.

ولا تزال البشريات تمدنا بالمزيد من المغانم الواقعة والمتوقعة، لكن هتاف المحاذير المقابل لها يعلو صوته ويزداد نذيره، فلنبادر إليه قبل أن يقطع الملال سبيل الإكمال، وتتسابق المحاذير وتتزاحم على فم القلم، ويبادرنا هذا المحذور الذي يلقي بثقله على الحس والعقل والشعور، وهو المحذور الاقتصادي.

إن من أخطر المغارم التي يخشى منها أثر ذلك الانقلاب الفاشل على الاقتصاد التركيّ، وإذا كانت نجاعة الإجراءات الاقتصادية للحكومة مع استجابة الجمهور التركيّ الواعي لها قد قلَّصا المغارم إلى حدود ضيقة تمثلت في انخفاض محدود في سعر الدولار وفي مؤشر البورصة أيضاً؛ فإنّ الأثر الذي يخشى منه يأتي على المدى البعيد والمتوسط؛ لأنّ ذلك الانقلاب جاء في سلسلة من الأحداث تهدف كلها إلى إعدام ما يسمى باليقين السياسي؛ بغرض إثارة مخاوف الاستثمار المعروف بجبنه وإيثاره لمبدأ السلامة.

وتزداد أهمية الحذر والتدبير لهذا الشأن إذا علمنا أنّ حجم الاستثمار الأجنبي في تركيا كبير ومؤثر، فقد بلغ عدد الشركات ذات رؤوس أموال أجنبية في العام الماضي أكثر من 46000 شركة، والأخطر من هذا أنّ أغلب هذا الاستثمار أوربيّ الهوية، وحسب بيانات معهد الإحصاء التركي لعام 2015 فإن ألمانيا – مثلاً – تمثل الشريك التجاري الأول لتركيا، بحجم تبادل تجاري يصل إلى 34.7 مليار دولا، أما السياحة فلا تزال السياحة الأوربية تمثل الرقم الأصعب.

ولا ريب أنَّ وضع القيود في رجل الحصان التركيّ الواعد غاية غربية كبيرة، فهناك حكومات ومؤسسات عالمية لا يهمها استقرار تركيا اقتصادياً ومالياً، ولذا تغذي هذه الدول والمؤسسات الحملات الداعية لسحب الاستثمارات الأجنبية من البلاد تحت زعم زيادة المخاطر وانعدام اليقين السياسيّ.

ولأجل هذا تتحرك تركيا لتأمين وضعها عبر عدة محاور، كان أبرزها تحرك الرئيس أردوغان وحكومته باتجاه روسيا، وقد بدت بوادر نجاح هذا التحرك سريعا؛ وظهرت نشوة موسكو بهذه الخطوة في تصريح وزير الاقتصاد التركي (أليكسي أوليو كاييف) بأن بوتين وأردوغان قد اتفقا على إنشاء صندوق استثمار مشترك، وهناك توقعات بالتوجه نحو تمتين علاقات اقتصادية ذات أبعاد أفريقية وأمريكية جنوبية وِشرق آسيوية.

لكن يبقى أنّ التحدي أكبر من هذا التحرك وإن كان موفقاً وناجحاً، التحدي هو تحدي أمة تنشد الاستقلال، وقد توفرت لها فرصة كبيرة بوجود الدولة المحورية الرائدة، فإذا كان العالم يقوم على التوازنات بين التكتلات؛ فإننا – كأمة مسلمة – لن نتحرر من ساحة التبعية التي تتقاذفنا فيها قوى شتى إلا بأن نتكتل اقتصادياً قبل كل شيء، وإذا كانت استجابة الدول العربية والإسلامية بطيئة فإنّ الاستثمار العربي والإسلاميّ سيحملها على الإسراع، وسيحقق كثيراً من المطلوب.

إنّ رأس المال العربيّ والإسلاميّ يواجه تحدياً لا يقل خطورة وأهمية عن التحديات التي تواجهها تركيا كدولة، وإذا كان الاستثمار المعاصر يقتات الوساوس والهواجس، فإنّ النظرية الإسلامية على الضد من هذا السلوك المنحرف الذي يعطي للحيتان الفرصة كي تتلاعب بمصير الرأسمال العالميّ عن طريق ترويج الشائعات عبر آلاته الإعلامية الجبارة، إذ يقوم على المخاطرة التي تجمع بين الإقدام والحذر، وتؤلف بين السعي الوثاب وبين التوكل الساكن الوقور.

إنّ الاستثمار العربيّ هو الحل السحريّ، بل هو كلمة السر لانطلاقة عربية تركية وثابة، ولقد رأينا كيف أنّ السياحة العربية عوضت التراجع الذي وقع في السياحة الروسية في أعقاب أزمة إسقاط الطائرة الروسية، إذ إنّ السياح العرب عوضوا النقص في السياحة الروسية، فهذا مع كونه بادرة مبشرة تشير إلى وعي عربي وإسلاميّ؛ يعدّ دليلاً عملياً على قدرة الاستثمار العربيّ على صناعة المعجزات ومواجهة التحديات.

وقد بادر رجال أعمال قطريون بهذا التوجه الجريء والمسئول، وقالوا في تصريحات لجريدةـ “لوسيل” الاقتصادية القطرية: “إنّ تركيا تعتبر من الدول المحورية في المنطقة والعالم وتمتاز باقتصاد قوي، وهي خيار ناجح لرجال الأعمال القطريين الذي يبحثون عن البيئة الاستثمارية الآمنة والمستقرة ولا يوجد ما يثير الخوف أو القلق بشأن الاستثمار في تركيا الشقيقة … وأكدوا أنَّ تركيا أثبتت أنها دولة مؤسسات بالدرجة الأولى؛ مما يعزز من استقرارها الحقيقي، الذي يُعَدُّ أحد العوامل الرئيسية التي تهم المستثمر الأجنبي، وأضاف أحدهم وهو رجل الأعمال علي حسن الخلف أن ما حصل في تركيا من محاولة انقلاب فاشلة على الحكم، والجهود التي قام بها الشعب في التصدي الواضح لتلك المحاولة يعزز من الاستقرار السياسي في تركيا؛ مما يدعم بطبيعة الحال الاستقرار التشريعي بخصوص الاستثمار المحلي والأجنبي في نفس الوقت”.

وإذا كانت التهديدات الاقتصادية الواقعة والمتوقعة غرماً خطيراً يجب السعي في تحجيمه؛ فإنّ الغرم الاجتماعيّ الواقع والمتوقع لا يقل عنه خطورة، ويستدعي سعياً جاداً لتقليص مفاسده وشروره، ويتمثل هذا الغرم في أنّ شريحة من المجتمع التركيّ ساندت ودعمت – بصورة ما – تنظيماً رفض أن يعمل في النور عبر القنوات السياسية الواضحة، وآثر أن يعمل في الظلام؛ فسعى في هدم مؤسسات الدولة والانقلاب على شرعية الأمة، موالياً في ذلك وممالئاً لأعداء الوطن، ولم يستفق الشعب التركيّ بعد فترة من الترهل تجاه هذه الجماعة إلا وأيدي بعض أبنائه قد تلوثت بالجريمة، فإذا كانت يد العدالة يمكنها أن تصل إلى من قامت عليه الأدلة بالإدانة؛ فما العمل مع آخرين – وما أكثرهم – قد نجوا من العدالة وإن لم ينجوا في الحقيقة من التورط بصورة ما، وبالطبع منهم من صنع ذلك عن جهل وسذاجة وضعف فهم ؟

هنا يأتي دور المؤسسات الدينية والشرعية والثقافية والإعلامية، يأتي دور الدعوة والتوعية والتربية، ولا شك أنّ معالجة هذا التحدي تحتاج خطة واضحة رشيدة وجهوداً متضافرة، لقد آن الأوان أن نتعلم أنّ ثقافة تعظيم الأشخاص يجب أن يتقدم عليها تعظيم الدليل الشرعيّ والعقليّ؛ إذ إنّ تعظيم شخص ذلك الرجل المخرف الذي يقود ذلك التنظيم الإرهابيّ المخرب كان بمثابة المصيدة التي أوقعت كثيراً من الفرائس البشرية.

يبقى الغرم السياسيّ والأمني، الذي يتمثل في حالة التوفز لدى قوى دولية كثيرة كانت وراء هذه المحاولة الفاشلة، ولا شكّ أنّ فشل المحاولة أثار ضغائنها، وكثيراً ما تحرك الضغائن العداء، بل والحروب العلنية الصريحة، وهذا في الحقيقة يستدعي حالة من القوة السياسية الداخلية، وقد لاحت – بفضل الله – بوادرها على أثر الحدث، لكنها بحاجة إلى توثيق وتمتين، عبر ترشيد الأداء السياسيّ للمعارضة التي بدت حريصة على الوطن وعلى مكتسبات الجهاد السياسي في الفترة الماضية، فعليها أن تعي خطورة المرحلة وأن ترى بوضوح تربص الأعداء، فتلبس المعارضة ثوب الحسبة السياسية الرشيدة التي أشار إليها أبو بكر في خطبته: “إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني”.

إن الأمّة التركية تملك من التاريخ والمجد والثقافة ما يؤهلها للانطلاقة الكبرى، وإنّ الأمّة كلها الإسلامية مهما أصابها من جراح، قادرة على مواجهة التحديات إذا ما صدقت عزيمتها وارتفعت همتها (1).

——————————

الهامش

(1) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.