الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم يتأخرْ كثيرا إدراكُ الناس لحقيقة البوق الأكذوبة “قيس سعيد”، إذْ لم يَلْبث الرجل بعد توليه الحكم إلا قليلا حتى كشف عن هويته بزيارته لفرنسا، وما صاحبها وما أعقبها من تصريحات؛ كانت بمثابة إعلانه عن هويته الحقيقية بصراحة فَجَّةٍ وتلقائية وَقِحَة، لكنْ يبدو أنّ إدراك الناس للأكذوبة الكبرى التي ترعى كل هذه الأكاذيب سيتأخر كثيرا؛ وذلكم – لعمري – هو المقتل والمذبح، وهو المنزلق المفضي للهاوية السحيقة، فما هي الأكذوبة الكبرى التي تشكل هذا الخطر الكبير؟ والتي ترعى كل هذه الأكاذيب.
إنّها بكل بساطة ما أطلقوا عليه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر “عملية التحول الديمقراطي” أو مشروع “دمقرطة العالم الثالث” أو استراتيجية “عولمة الديمقراطية” تلك هي الأكذوبة الكبرى التي ولدت الأكاذيب وتعهدتها بالرعاية حتى كبرت وابتلعت كل الحقائق التي يدعمها البرهان من الواقع والتاريخ ومن نصوص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وقد يبدو هذا الكلام للوهلة الأولى بعيدا عن الأحداث الجارية، لكن الحقيقة التي ستتجلى قريباً هي أنّ هذا الكلام أقرب للواقع من قرب الأذان القارع لآذان السامع.
بدايةً يجب أن نوقن بأنّ الغرب ومعه النظام العالميّ لا يريد لنا ديمقراطية حقيقية، ليس هذا وحسب بل لا يمكن أن يسمح لنا بديمقراطية كالتي يحكم بها في بلاده؛ وهذا ما يعلمه الكافّة ويقرُّ به حتى كتاب ومفكرو الغرب أنفسهم، فهذا نعوم تشومسكي يقول عن أمريكا (راعية الديمقراطية في العالم!): “نستطيع مما سبق أن نفهم بسهولة سياسة الولايات المتحدة في العالم الثالث؛ نحن نعارض بمثابرة وإصرار الديمقراطية إذا كانت نتائجها خارج نطاق سيطرتنا”([1])، ويقول في موضع آخر عن الغرب عموماً: “الغرب الديمقراطي رحب بانقلاب (سوهارتو) في أندونسيا؛ لأنّه قضى على الحزب الوحيد الذي يتمتع بقاعدة شعبية عريضة، ولم يكترث بقتله لحوالي 700000 إنسان، وقد هللت بذلك فرحاً أكبر الصحف، مثل النيويورك تايمز والإيكونومست وكريستيان ساينس مونيتور!”([2])، ثم يصرح بما يفيد ويؤكد ما يعرفه الكافّة من كون الأمم المتحدة ومجلس الأمن ألعوبتان بيد القوى الغربية: “فلسنوات طويلة أعاقت القوى العظمىى عمل الأمم المتحدة خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية … ومنذ عام 1970م عطلت الولايات المتحدة قرارات مجلس الأمن باستخدامها الفيتو أكثر من أي دولة أخرى، وتأتي بريطانيا في المركز الثاني وفرنسا في الثالث … وسجلنا في الجمعية العمومية مشابه لسجلنا في مجلس الأمن … سرعان ما تحركت الولايات المتحدة لإجهاض أي حل دبلوماسي”([3]).
أقول هذا مع إيماني الشخصي بأنّ الديمقراطية ذاتها لعبة كبرى، ولكنْ من قَبِيل اختيار أهون الشرين وارتكاب أخف الضررين هي أفضل من الشمولية والاستبداد، والمصير إليها أو إلى أيّ نظام دستوريّ عادل – عندم عدم القدرة على إقامة نظام إسلاميّ على منهاج الخلافة الراشدة – مسلك يؤيده الفقه ويعضده الفهم والوعي، لكن حتى هذه لا يمكن أن يسمحوا بها للأمة العربية والإسلامية؛ لأنّها ستأتي حتماً بالإسلاميين الذين يريدون استعادة الخلافة التي أسقطها الغرب 1924م، ولأنّ أي حكومة عادلة يأتي بها الشعب ويملك عليها حق الرقابة والمحاسبة ستكون عقبة في طريق مصالحهم وأطماعهم.
لذلك، ولأنّ الصحوة الإسلامية أثمرت قاعدة قوية مَثَّلَتْ تهديدا حقيقيا للغرب؛ توجهت رؤية أمريكا والغرب إلى دَمَقْرَطَةِ الحكم في المنطقة العربية والإسلامية، على هوى الغرب ووفق أهدافه وأطماعه؛ فقالوا: إذا كانت الشعوب العربية تريد بقيادة الإسلاميين تغييرا يمنحها حرية وكرامة فليكن بأيدينا لا بأيدي الإسلاميين، وإذا كانت المنطقة تتهيأ لنبذ الحكم الدكتاتوري العسكريّ المتسلط فلنبادر نحن برسم استراتيجية التغيير بما يلائم خطتنا لاستثمار هذه المنطقة؛ فوقع ما يشبه التحول إلى جيل جديد من أجيال الاحتلال بالوكالة، يشبه بدرجة ما التحول من الاحتلال المباشر إلى الاحتلال بالوكالة إبَّان خروج المستعمر من البلاد العربية والإسلامية؛ ليقوم العسكر بالوظيفة كاملة وزيادة دون أن يخسروا هم شيئا!
وكانت البداية بتجييش العالم للحرب على أفغانستان والعراق، بذريعة القضاء على الأرهاب، وأنتجوا لنا بعد انتخابات أشرفوا بأنفسهم عليها ديمقراطية كرزاي والمالكي! الأول في أفغانستان والثاني في العراق، وقبل أن يواصلوا خطتهم في إعادة تقسيم المقسم على أصول إثنية وعرقية وطائفية ليتسنى لهم ترويض الجميع؛ فاجأهم الربيع العربيّ؛ فأخذوا خطوة للوراء ريثما يمتصوا غضبة الشعوب، ثم تقدموا بخطتهم لاستثمار الفوضى في تحقيق مآربهم، ولكي يتمكنوا من إكمال مشروع التحول الديمقراطي ذاك كان لابد من غرس الأوهام الكبيرة والأكاذيب الخطيرة.
وجاءت “السلمية” على رأس الأكاذيب؛ فالسلمية هي سبيل الخلاص، والعالم سوف يستمع إلينا وينصفنا ويقف في صفنا إذا اعتصمنا بالسلمية، المهم هو (الزخم!) الشعبيّ والحشد العدديّ، إنّ العالم الديمقراطيّ لا يقبل بأن تتقدم الجيوش لحصد كل هذه الأعداد إذا تمسكت بالسلمية، بل إنّ الجيوش نفسها لن تجرؤ على خطوة كهذه، فهي في النهاية جيوش بلادنا وحامية ديارنا؛ لذلك لا يصح الانزلاق إلى (العنف) لئلا يُتَّخذ ذريعة لاستئصال الثورة والقضاء على الثوار؛ فسلميتنا إِذَنْ أقوى من الرصاص!
ولكي يتجذر هذا المفهوم ويترسخ ولا يقوم في الواقع ما يشوش عليه كان لابد من التآمر الدوليّ والإقليمي والمحليّ على وَأْدِ الثورة السورية التي لم تتحول إلى العسكرة إلا بسبب إفراط النظام في العنف، ولم يكن السبب في فشلها هو مجرد التحول من السلمية إلى العسكرة، وإنّما كان للارتجال في هذا التحول وجريانه على أيدي شباب متحمسين لا خبرة لهم ولا رؤية يقدمها العلماء والخبراء إليهم، وبسبب التآمر الدولي والإقليمي، ذلك التآمر الذي تَمَثَّلَ في التدخل الأجنبيّ المباشر من إيران وروسيا على عين العالم وسمعه وبصره، وتمثل كذلك في توجيه الدعم الخليجي بما يشرذم الفصائل المجاهدة ويجعلها في الميدان تتواجه وتتقاتل، ولأسباب أخرى عديدة، ولولا ذلك ولولا تأخر الكبار عن دورهم في توجيه الشباب والتواجد معهم في نضالهم لنجحت الثورة في القضاء على المجرم بشار وعصابته، على الأقل يوم أن كانت قاب قوسين أو أدنى من دخول دمشق.
هذا المنهج في معركة التحرير هو منهج العابثين، إنّ بلادنا محتلة، وإنّ المحتل الفرنسيّ لم يترك معسكراته، ويوم أن تمكن الإسلاميون في الجزائر من الوصول للحكم بوسيلة سلمية (الانتخابات) أعلنت فرنسا أنها لن تسمح بذلك ولو اضطرت للتدخل عسكريا، ولكنّها لم تتدخل عسكريا؛ ولماذا تضطر لذلك ووكلاؤها ينفذون لها خطتها؟ فكان الانقلاب على نتائج الانتخابات، ثم كانت العشرية السوداء التي حصدت من أرواح الجزائريين ما يقترب مما حصده الاحتلال الفرنسيّ المباشر للجزائر، والآن تونس تتهيأ لنفس المصير، وإذا لم يكن بأيدي الإسلاميين ما يواجهون به الأحداث القادمة فسيكون مصيرهم كمصير الجزائريين إلا أن يبادرو بالهجرة إلى باريس! التي حتما سوف تتلقاهم، وتفسح لهم المجال وتهيء لهم وسائل المعارضة، وهُزِّي إليكِ بجزع المعارضة!
أمّا الأكذوبة الثانية فهي تلك التي يسمونها تارة “الديمقراطية التشاركية” وتارة أخرى “الاصطفاف الوطني” وغير ذلك من الأسماء التي تخطف الألباب كما تخطف أسماء الخمرة عقول المدمنين بينما هي ليست في حقيقتها إلا نَتَنًا في نتن، ونحن لسنا ضد وحدة الأمة وتوحد الشعوب، ولسنا كذلك ضد مبدأ إدارة المشتركات بما يفرغ الطاقات وينوع المنافع، ولكن ما يجري باسم الاصطفاف والتشارك ليس من هذا القبيل قط، إنْ هو إلا تسلطاً تمارسه فئة قليلة لا رصيد لها إلا الاتصال بالغرب الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها لاعتقال (ناشط سياسي!) ولا يحرك ساكنا لاعتقال رئيس دولة منتخب وقتله في معتقله.
إنّنا نعيش أيها الشعب العربيّ أوهاما كثيرة ونبتلع أكاذيب كثيرة، كلها متولدة من ذلك الذي يسمونه التحول الديمقراطي، أو دمقرطة الحكم في البلاد النامية بلاد العالم الثالث! وغدا – إن لم تتداركنا رحمة الله بصحوة للشعوب العربية – سنرى ديمقراطية قيس سعيد أو مسخ آخر غيره يأتي به الجيش بعد الانقلاب عليه، وستكون تماما كديمقراطية السيسي وأمثال السيسي ممن سينبتون في تربة الأحداث النكدة، وسنرى بلادنا تتقسم وتتقاسمها الضباع الخسيسة!
إنّ الإسلام لا يعرف هذا الهراء، وإنّ القرآن ليدعونا صراحة إلى امتلاك القوة لمواجهة التهديدات والاعتداءات المستمرة من أعداء الله وأعداء الإنسانية، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60)، ويعدنا بالنصر إن نحن نصرنا الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7).
فيا شباب الإسلام ويا أجيال المسلمين لا تغتروا بهذه الأكاذيب، ورتبوا صفوفكم وقاوموا الاحتلال وحرروا بلادكم من المحتل بالوكالة، فإن لم تقدروا اليوم فأعدوا للغد، وإياكم ومن بيعونكم الأمل الكاذب، فإنّ العاقلين الحركيين هم من لا يصغون إلى الأكاذيب، فأنتم تنزعون إلى اتباع الدليل والبرهان واتباع الناصح الأمين، والآخرون “العاطلون ينزعون إلى اتباع من يبيعونهم الأمل قبل اتباع الذين يقدمون لهم العون”([4])، هم كذلك على مدى التاريخ البشريّ كله، ذلك التاريخ الذي سجل حقيقة مفادها أنّ الثورات لا يمكن أن تنتصر إلا بعقيدة وقوة تحميها.
([1]) ماذا يريد العم سام؟ – نعوم تشومسكي – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – مصر – ط أولى 1998م – صــــ20
([2]) السابق صـــ 46
([3]) أيضا صـــ 48
([4]) المؤمن الصادق “أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية” – إيرك هوفر – ترجمة: د. غازي القصيبي – “العبيكان” السعودية، “كلمة” أبو ظبي ط أولى 2010م صـــــ 38