برغم كثرة الجدال تبقى القوامة للرجال

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

مهما تعالت الأصوات التي تنادي بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، ومهما استقوت واستظهرت بما أنتجه الفكر الإنسانيّ المعاصر، ومهما بذلت من محاولات لتغيير الفطرة وتزوير الواقع الإنسانيّ؛ تبقى القاعدة الشهباء: (الرجال قَوَّامون على النساء)، تبقى وتدوم ما دامت الأرض والسماء، تبقى وتدوم وتستمر وتستقر وتتجذر وتترسخ؛ لا لشيء إلا لأنّها حقيقة قرآنية، ومن ذا يستطيع أن يملأ فمه بزعم أو ادعاء يقلل من حجم وقيمة الانسجام التام بين الفطرة الإنسانية وخطاب القرآن الكريم؟

الأزمة التي يعيشها هؤلاء الأدعياء هي أنّهم يلهثون مُغْمِضِي الأعين وراء كل جديد أنتجته الحضارة المعاصرة، دون تمييز بين الجيد منه والردئ، ودون تفريق بين واقع المجتمع المسلم وواقع المجتمع الغربيّ أو المجتمعات غير الإسلامية على وجه العموم، ودون أن يكون لديهم بوصلة تحدد لهم الغاية وترسم لهم طريق الوصول إليها، وربما الأزمة عند بعضهم أعمق وأعقد من هذا؛ حيث يدفعهم الهوى دفعاً ويؤزهم الزيغ أزّاً ليواصلوا نضالهم في سبيل حمل الأمة حملاً على السير خلف قطار الغرب كما يسير العبد خلف سيده بلا مناقشة ولا اعتراض.

ليس صحيحا أنّ كل ما جاءنا من الغرب أو الشرق جديد مفيد، وليس صحيحاً أنّ المرأة مساوية للرجل في كل شيء، ليس صحيحاً ولو تعلق المفكرون والمنظرون ومعهم المطبلون والمروجون بأستار كعبة المنهج العلميّ أو تمرغوا في محراب القانون الطبيعيّ، ليس صحيحاً لأنّ القرآن هو الذي نطق بالحقيقة، وإذا نطق القرآن وجب على الخلق أن ينصتوا، وإذا حكم وجب عليهم أن يستسلموا، ذلك لأنّه خطاب الله الذي له الخلق والأمر: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54).

وسياق الآية الكريمة يمنع تأويلها بتأويلات تنأى بها عمّا فهمه الأوائل منها وفسروها به وبنوا عليه جبلا من الأحكام العملية: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34).

فالرجال قوّامون على النساء، أي: “أُمَرَاءُ عَلَيْهِنَّ”([1]) بما يترتب عليه أنّهم: “يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية”([2]) فكل رجل قيّم على امرأته، أَيْ: “رَئِيسُهَا وَكَبِيرُهَا وَالْحَاكِمُ عَلَيْهَا وَمُؤَدِّبُهَا إِذَا اعْوَجَّتْ”([3])، فلا يذهبنّ الخيال الجامح بأحلامنا وعقولنا بعيداً عن هذا المعنى الذي أطبق عليه السلف والتقت عليه كلمة المفسيرن ودعمه وقواه سياق الآية الذي يعطي الرجل الحقّ في تأديب زوجته إذا نشزت – أي استعلت عليه بلا حقّ – بهذا المنهج التربويّ المتدرج الذي ححدته الآية: الوعظ ثم الهجر في المضجع بلا إسراف في الإعراض ولا فجور في الخصومة، ثم الضرب الخفيف الذي لا يكون للتشفي والانتقام والتعذيب بل للعلاج والتقويم والتأديب.

وتقوم هذه الآية أيضاً مقام البيان والتوضيح: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: 228)، فالأصل أنّ ميزان العدل في المعاملة بين الزوجين قائم على أساس التساوي في الحقوق والواجبات، فلكل من الحقوق مثل ما عليه من الواجبات، لكن يبقى للرجال درجة فوق النساء، والدرجة هي “الرتبة والمنزلة”([4])، “قال مجاهد وقتادة: ذلك تنبيه على فضل حظه على حظها في الجهاد والميراث وما أشبهه، وقال زيد بن أسلم وابنه: ذلك في الطاعة، عليها أن تطيعه وليس عليه أن يطيعها”([5])، وحتى لو كان المقصود بالدرجة درجة من الفضل يتكرم بها الزوج تتمثل في الصداق أو غيره كما قال البعض فهي إشارة ولمحة داعمة لذات المبدأ الذي قرره القرآن وهو القوامة؛ إذْ القيّم لا يكون قيماً إلا بما يتقدم به من الفضل، وهذا عين ما بررت به الآية الأولى القوامة: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ).

وكما قام السياق داعما لتفسير السلف للآية قام “السباق” كالسياق في ذات الوجهة؛ فالآية التي سبقت آية القوامة بآية واحدة هي: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء: 32)، “وذكر أن ذلك نزل في نساءٍ تمنين منازلَ الرجال، وأن يكون لهم ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله”([6])، وكان من أسألتهن: الميراث والجهاد كالرجال.  

ولهذه القوامة سببان صرحت بهما الآية الكريمة، الأول: (بما فضل الله بعضهم على بعض) في العقل والنفس والجسم، فالرجل – على وجه العموم – أرجح عقلا وأسدّ رأيا وأحكم تصرفاً وأكثر روية وتؤدة، ولا تغلب عاطفته عقله كما المرأة في أكثر حالاته، وهو كذلك أقوى على تحمل المسئولية وأصبر في الأزمات، مع قوة بدنه وقدرته على التكسب والشقاء في طلب الرزق والمعاش، والسبب الثاني: (وبما أنفقوا من أموالهم) فهو الذي يعطيها الصداق وينفق عليها، وليس العكس.

ومن تأمل الآيات التي تحدثت عن الخلق الأول للإنسان اهتدى إلى المنطلق الآمن في معالجة القضية، وهو يتمثل في حقيقتين متجاورتين متوازيتين لا يقع بينهما تضاد ولا تنافر ولا منازعة: الأولى أنّ الرجل والمرأة مستويان في الكرامة والحرية والمسئولية والتكليف والجزاء، والثانية أنّ الرجل مختص عن المرأة بأمرين الأول التقدم والثاني تحمل الأعباء، قال تعالى: (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)) (الأعراف: 19-24).

فهما مستويان متوازيان في التكريم: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) وفي الحرية: (حَيْثُ شِئْتُما) وفي قيود الحرية القليلة الاستثنائية وفي التكليف: (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) وفي المسئولية والجزاء: (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) وفي التعرض للغواية، وفي القدرة على النهوض بعد السقوط والتوبة بعد الذنب، وغير ذلك، وبجوار هذه الحقيقة التي طغت على السياق حقيقةٌ أخرى ليست خافيةً وإن كان ظهورُها بدرجة أقلّ بما يناسب كونها استثناء من الأصل، وهي أنَّ آدم – وإن كان الخبر والأمر لهما جميعاً – هو الذي يخاطَبُ ويُبَلَّغُ، وهذا تقديم له على المرأة لا يقل عن تَقَدُّمِهِ عليها في الخلق وانبثاقها عنه، وأنّه هو المتحمّل للأعباء دونها؛ لذلك ثنّى الله وأفرد فقال: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) فجمعهما في الخروج من الجنة وأفرده وخصه بالشقاء، “أفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها من حيث إنه قيم عليها ومحافظة على الفواصل، أو لأن المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش وذلك وظيفة الرجال”([7]).

ولن ننساق وراء المشككين في كل واد يهيمون فيها، ولكنّنا سنأخذ عليهم السبل بهذه التساؤلات الواقعية الطبيعية: لماذا بعث الله الأنبياء من الرجال دون النساء؟ لماذا لم نجد في تاريخ أمتنا امرأة واحدة تولت الإمامة العامّة؟ ولماذا ندر إلى ما يقرب الانعدام تولي المرأة القضاء والولايات التي هي دون الولاية العامّة؟ ولماذا جعلت الشريعة ولاية الشعائر وإمارة الجيوش للرجال دون النساء؟ وكيف نفسر هذه الظاهرة المستمرة المستقرة ألا وهي غلبة الزعامة للرجال في تاريخ البشرية كلها في جميع المجالات السياسية والتجارية والعلمية والفلسفية والفكرية والعسكرية؟ أليس هذا كله لأنّ الرجال في الجملة خلقوا بخصائص تقدموا بها على الرجال؛ بما يجعل لهم القوامة؟

ثمّ إنّ أحداً لا يماري في أنّ الأسرة مؤسسة لابد لها من قيادة، وسفينة تشق بقاطنيها عباب الأمواج لابد لها من قبطان، فمن يكون؟ إن قلنا المرأة انعكست المسألة وارتد الاعتراض في الجهة الأخرى بنفس القوة بل أكثر، وكان للمطالبين بماساواة الرجل بالمرأة من الحجج أشد مما للمطالبين بمساواة المرأة بالرجل، وإن قلنا يتقاسم الزوج والزوجة الرئاسة ويتساويان فيها فقد حكمنا بخراب الديار وغرق السفينة في البحار، كيف لا والسماوات والأرض بمن فيهما على نفس القاعدة: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)!

وأخيراً فهذه القوامة ليست قوامة تسلط واستبداد وإنّما قوامة مسئولية ورعاية وعناية، يحوطها الحبّ والمودة والرحمة، فإذا كان فريق قد أساء بإنكارها، فإنّ الأشد منه إساءة هو الفريق الذي أساء استعمالها، واتخذها ذريعة للظلم وتكأة للاستبداد، وكلاهما الله ورسوله منه براء.


([1]) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (3/ 939) عن ابن عباس

([2]) تفسير البيضاوي 2/72

([3]) تفسير ابن كثير ط العلمية (2/ 256)

([4]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 536)

([5]) تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 305)

([6]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/ 260)

([7]) تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل (4/ 40)