يبدو أنّ القناعات ستتراجع عمّا عَدَّهُ عالمُ الاجتماع “سيمور مارتن” قانونًا مطَّردًا بقوله: “كلما كان ثراءُ الأممِ أكثرَ كانت فُرَصُها أعظمَ لِتَحَمُّلِ الديمقراطية”؟ ولا ريب أنّ الخلق بحاجة إلى مراجعة كثير من الأفكار التي كانت من قبلُ مُسَلَّمات، ولاسيما ما يتعلق منها بالديمقراطية وما انضوى تحت جناحيها من لافتات عريضة يلمع بريقها للإنسانية المعذبة؛ فها نحن نشاهد راعِيَة الديمقراطية التي تُعَدُّ القوةَ الاقتصادية الأولى في العالم تَتَململ تحت وطأة تكاليف الديمقراطية، فتارةً تتوارى منها ريثما تُنْهِي مهمتها العاجلة في وأْدِ انتفاضة الجامعات ضدّ جريمتها التي ترتكبها بحقّ الإنسانية في غزّة، وتارةً أخرى تَصُمُّ آذانها وهي تمضي متجاهلةً واقعَها السياسي الذي حَصَرَ الخيارات في اثنين أحدُهما يهجم عليه الزهايمر مثلما تهجم ترسانته على المستضعفين، والثاني – بالكاد – يبذل محاولاتٍ للإقلاع من وضع (معاملة الأطفال)، وأخيرًا يصحو العالم على صوت رصاصةٍ طائشةٍ يدوي في الفضاء، يتبعه صورة (هليودية) للزعيم تقول للجماهير الهائجة المخمورة: دمي فداءٌ لكم! وكأنّنا في المنشية قبل ستين عامًا!
محاولة فاشلة بمذاق جديد
لم تكنْ الأولى وربما لن تكونَ الأخيرة؛ فقد تعرض الكثيرون من رؤساء أمريكا لمحاولات اغتيال، فشل أكثرُها بينما نجحت أربع محاولات في إنهاء حياة أربع رؤساء، أولهم (إبرهام لينكولن) عام 1809 ثم (جيمس غارفيلد) عام 1881، وتلاه (وليام ماكينلي) عام 1901 وأخيرًا (جون كيندي) عام 1963، ولَئِنْ كانوا قد اغتيلوا في سياق تدافعات سياسية كبرى فإنّهم – ولاسيما لينكولن وكيندي – كانوا مستهدفين من قِبَلِ مراكز الهيمنة الرأسمالية؛ بسبب ترجيحهم للصالح العام على حساب مصالح النفعيين الانتهازيين، أمّا الآن فالسياق مختلف، والتدافع السياسي من نوع جدّ مختلف، إنّه ليس مجرد صراع سياسيّ، ولا تنافس على السلطة، ولا حتى صراع بين مصالح الرأسمالية ومقتضيات الديمقراطية..
إنّه صراع يُعَمّق الانقسام والاستقطاب داخل المجتمع الأمريكي، لأنّه صراع بين ثقافتين مختلفتين، تسعى كل ثقافة لرسم هوية البلاد على أساس أيديولوجي، إلى هذا البعد الخطير أشار أحد المحترفين لاستطلاع الرأي العام “وليام ماك إنترف” في تصريح للواشنطن بوست قائلا: “عندنا قوتان ضخمتان تصطدمان، واحدة ريفية مسيحية محافظة دينيًّا، والأخرى متسامحة اجتماعيا توافق على تخيير المرأة بين الحمل وعدمه، علمانية تعيش في نيو إنجلاند وعلى شاطئ المحيط الهادئ”.
ومن المؤكد أنّ صعود اليمين قد أعطى لإحدى هاتين القوتين بعدًا سياسيا واسع المدى كان أقصى تجلياته متمثلا في “الترامبية” التي لم تمت لمجرد نجاح بايدن، وكما عبر “باتريك بوكنان” الذي عمل مستشارا لرؤساء أمريكا من نيكسون إلى ريغان: “إنّنا بَلَدَان وشَعْبَان: أمريكا قديمة تموت، وأمريكا جديدة تنال ما تستحق”، فالصراع الثقافي على الهوية صار مارداً جباراً مقلقاً؛ ولاسيما مع تعقد التركيبة الديموغرافية للمجتمع الأمريكيّ.
مخاوف مبررة من خطر زاحف
لا يختلف اثنان على أنّ صعود اليمين يعدّ أكبر المهددات للديمقراطية؛ وإذا كان الخلق في الغرب قد تنفسوا الصعداء بصعود حزب العمال في بريطانيا؛ فإنّهم في رعب من استطلاعات الرأي الأخيرة التي تؤكد صعود ترامب على حساب بايدن بعد المناظرة التي بدا فيها الأخير وكأنّه يبحث في المكان عن شيء ضاع منه، وهنا بدا واضحًا أنّ الانتخابات القادمة لا تعكس إرادة الشعب الأمريكي على الحقيقة، إذْ كيف تكون معبرة عن إرادة الشعب وهو مجبور على أن يختار واحدًا من هذين؟ فالأمر – كما عبر آلان تورين في كتابه ما الديمقراطية؟ – أنّ الانتخابات صارت تُظهر تعبيرًا عن الرفض السياسي لا الاختيار السياسي، وهذا بحدّ ذاته يثير التشاؤم، ولاسيما مع المخاوف التي يثيرها صعود ترامب.
ولقد تَنَبَّأَ من قبلُ عالم الاجتماع النرويجي (يوهان جالتونج)، صاحب التنبؤات العلمية الاستشرافية المدروسة، الذي يبني توقعاته على قواعد لها علاقة بالقوانين العامة التي تحكم الأمم والمجتمعات، والذي سبق أن تنبأ بأحداث كبرى وقعت كما تنبأ، كاندلاع الثورة الإيرانية وانهيار الاتحاد السوفيتي وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، تنبأ بانهيار الهيمنة الأمريكية قبل عام 2025م، وذلك بعد غزو أمريكا للعراق، ثم عاد ليؤكد توقعه ويقرب زمانه لدى تولي ترامب للرئاسة المرة الماضية، فهل ستتحقق هذه النبوءات؟ أم ستكشف الأيام القادمة عن تفاعلات وتحولات تطيح بالترامبية وتطيل أمد الديمقراطية؟ هذا ما سوف تكشفه الأيام القادمة، وإن كان الحدث الأخير قد وضع الانتخابات على صفيح ساخن.
قواعد اللعبة تتغير
يلخص (فريد زكريَّا) الكاتب المفكر السياسي الأمريكيّ التغيرات التي جرت على قواعد اللعبة في أمريكا بقوله: “في أغلب التاريخ الأمريكي كان المرشحون الرئاسيون انعكاسًا لأحزابهم السياسية، اليوم صارت الأحزاب انعكاسات لمرشحيها”، وفي موضع آخر من كتابه (مستقبل الحرية) يقول: “إنّ الحزب على الأغلب تحول إلى عربة لجمع التبرعات لصالح مرشح ذي طَلَّةٍ تلفزيونية مميزة”؛ وبناء على ذلك فالرهان ليس على برنامج يقدمه الحزب ينافس به برنامج آخر، وإنّما الرهان على شخصية المرشح؛ ولعلّ هذا هو الذي دفع الكثيرين لاستجداء بايدن أن يتنحّى لصالح مرشح ديمقراطيّ آخر، وهذه رغبة ما لا يقل عن 67% من الأمريكان بحسب استطلاع رأي شاركت فيه الواشنطن بوست، ولعل هذا أيضًا ما دفع بعض المشاهير إلى التطلع لخلافة بايدن، وعلى رأسهم الفنان الهليودي الشهير “جورج كلوني”، الذي يقال إنّه يتآمر مع الرئيس الأسبق باراك أوباما على إزاحة بايدن عن الواجهة داخل الحزب الديمقراطي.
سيناريوهات تتبارى
لا يطفو الآن على سطح التوقعات إلا هذا السيناريو الهليوديّ المرعب: ترامب زعيم وطنيّ يناضل من أجل أمريكا؛ لذلك لفقوا له التهم ونسجوا له القضايا، وعندما أبدى صمودًا وتحديًا لم يجدوا حلًا إلا الخلاص منه؛ فلما فشلوا قتلوا الشاب الذي أطلق الرصاصة؛ ليخفوا جريمتهم، يا للهول إنّه تواطؤ المؤسسات ضدّ الزعيم المخلص، وإذَنْ فلا مناص من النضال معه حتى النهاية، هذا هو السيناريو الذي صعّدَتْهُ نار الحدث، لكن ماذا لو تنحى بايدن، وجاء آخر أكثر إقناعًا، ثم كشفت التحقيقات عن شبهة هليودية؟