الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
على رأس منعطف حادّ وخطير في حياة الأمة يقف المسلم حائرا؛ يردد النظر بين مسيرتين عجيبتين، لا تنشط إحداهما وتشتد إلا لتنشط الأخرى وتشتد ولكن في الاتجاه المعاكس، كأنهما قطاران متقابلان يجريان بسرعة واحدة على قضبان متوازية، يَبْدوان للناظرين وكأنّه لا علاقة لأحدهما بالآخر؛ بينما الذي يضبط سيرهما ناظر واحد ومحطة (كنترول) واحدة، فمسيرة التطبيع العربيّ الإسرائيلي تمضي، وتمضي تجاهها على التوازي مسيرة الاعتداءات المتكررة على القطاع والضفة والقدس المحتلة؛ ويتسائل المسلم وهو يرى هذه الازدواجية العجيبة: هل ستستمر مسيرة التطبيع برغم ذلك العدوان الذي لا يفتر؟
ولِمَ لا تستمر؟! مُنْذُ متى يعتَدُّ حكام العرب بقضية فلسطين أو يقيموا لها وزناً؟! لقد عَلَّمَنا التاريخ بدروسه القريبة والبعيدة أنّ هؤلاء الحكام لا تعنيهم هذه القضية ولا أيّ قضية من قضايا الأمة من قريب ولا بعيد، وحتى يوم أن اعترض الأعراب على السادات بسبب مسارعته إلى كامب ديفيد لم يكن ذلك الاعتراض إلا ضربا من ضروب المزايدة الرخيصة، ودارت الأيام دورتها ليسارعوا جميعا إلى ما أبطأوا عنه بالأمس في شبق كأنّه الاعتذار عن التأخر والتلعثم.
بالأمس وقفت (دولة الإمارات العربية التحدة!) من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية موقف الرافض الممتنع بعقيدته وهويته العربية؛ فأصدرت في 21/9/1978م بيانها الرافض للمعاهدة: “… فإنّ دولة الإمارات العربية المتحدة ترى أنّ اتفاقيتي كامب ديفيد لا تقدمان حلولا عادلة نهائية للأزمة طالما أنّهما لم تتضمنا التزاما إسرائيليا واضحا بالانسحاب من كافة الأراضي العربية المحتلة، وباستعادة حقوق الشعب الفلسطينيّ …”([1]).
وها هي اليوم تقود العالم العربيّ كله إلى استكمال ما بدأته مصر من مسيرة التطبيع، بل وإلى ما هو أبعد من التطبيع؛ حيث تمهد الأرض لما يسمى بالدين الإبراهيمي؛ لذلك خُصَّتْ المعاهدة الإسرائيلية الإماراتية بهذا الاسم الترامبيّ (الاتفاق الإبراهيمي)، ثم على أثرها مضت الكيانات العربية لا تلوي على شيء: البحرين والسودان والمغرب! وربما في الغد القريب (المملكة!)، تلك العاهرة التي تتسربل بأزياء الوقار وهي تقترف الفواحش بالليل وفي وضح النهار.
لقد بدا واضحا منذ الوهلة الأولى أنّهم مستعدون تمام الاستعداد للتخلي عن كل مقدس، فها هو إمامهم وقائد مسيرتهم – الذي تبعوه جميعا وإن بعد حين – محمد أنور السادات بعد اجتماعه مع بيجين في أسوان وقبل انطلاق “معركة السلام” يعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لتوجه ضربة شاملة للفدائيين الفلسطينيين بجنوب لبنان؛ مما أثار حفيظة وزير خارجيته محمد إبراهيم كامل، الذي سارع بالاتصال على الرئيس الذي ردّ عليه والتثاؤب يغالبه، يقول الوزير: ” فأجبته إن الأمر يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على لبنان، فقال السادات ضاحكا: “هل أعطوهم (العَلْقَة) ولا لسة؟”([2])!!
وكم من (عَلْقَة) تلقاها أهل القطاع على مرّ تاريخهم – وإنه لقصير – فَلَمْ تُحركْ في واحد من هؤلاء الحكام خيطا في (شال) أو خميلة في (عِقال)، وها هي الغارات الصهيونية مع مطلع رمضان المعظم تتوالى عليهم؛ ومع ذلك فالحصار الظالم قائم، والغرام العربيّ بإسرائيل دائم، وقطار التطبيع ماض في طريقه كالسيل العارم، بينما أهل غزة صامدون مرابطون يدفعون بما في أيديهم – وإنّه لقليل – عادية الغازي، الذي يعلم الجميع أنّه لا يوقفه عن التهام عروش العرب جميعا عرشا عرشا إلا ثبات هذه الفئة المؤمنة.
يجب ألا نرتاب في أنّ مشكلتنا نحن المسلمين قبل أن تكون في إسرائيل ومن وراء إسرائيل تتمثلل في هؤلاء الحكام الجاثمين على صدورنا، وفي هذه الأنظمة المتصهينة التي فاقت إسرائيل نفسها في الصهينة والأسرلة، وإنّ الطريق لتحرير القدس وغيرها من أرض الإسلام المعتدى عليها لابد أن يمر من القاهرة والرياض وعمان ودمشق وأمثالها من العواصم التي جللتنا بالعار دهرا طويلا، ولم تكن لنا في يوم من الأيام ملاذا ولا مستقرا ولا وطنا آمنا، بل كانت على الدوام ولا تزال سجنا كبيرا يأسر في ظلمته العقول والأرواح والأفكار والأحلام.
إنّ عودتنا إلى الله تعالى في هذا الشهر الكريم يجب أن تشمل فيما تشمل عودة الهمّ والاهتمام، همّ المسلم واهتمامه بشأن دينه وقضايا أمته، وعودة القلب النابض بالحب والولاء للإسلام، المفعم بالغيرة والحرقة على الدين وعلى حرمات المسلمين، وهذا في الحقيقة أول الإعداد؛ فإذا كان واجب الإعداد لا يتخلف وإن تخلف لعذر واجب الجهاد فإنّ من الإعداد إعداد النفوس التي تتوق للشهادة في سبيل الله تعالى، وإعداد القلوب التي لا يملؤها حب الدنيا فيصرفها عن معالي الأمور إلى سفاسفها.
وإنّ توبتنا إلى الله تعالى في شهر رمضان المعظم يجب أن تسري وتنتشر لتعمّ كل الخطايا بما في ذلك خطيئة الانصراف عن قضايا الإسلام والمسلمين، تلك الخطيئة التي فيها الهلاك الحقيقيّ، قال تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) قال المفسرون إنّ التهلكة تكون بالانصراف عن مجاهدة العدو وعن الانفاق في عدة الجهاد وعن الاهتمام بهذا الشأن؛ مما يترتب عليه التهلكة التي تحيط بالمسلمين وتحدق بهم.
أمّا هؤلاء الحكام وهذه الحكومات فليسوا منّا ولسنا منهم، يجب أن نؤمن بهذا وألا نرتاب فيه، وإلا خدعنا عن غايتنا وصرفنا عن وجهتنا، وها هو نداء الحقّ يدوي إلى يوم الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)) (آل عمران: 118-119).
([1]) اتفاق كامب ديفيد وأخطاره .. عرض وثائقيّ – مؤسسة الدراسات الفلسطينية – ط أولى 1978م – بيروت – لبنان – صــــ126
([2]) ر:السلام الضائع في اتفاقيات كامب ديفيد مصدر سابق ص 177