بيان “برهامي” في رمي “محمد علي” بالفسق!

هذا هو الإسلام فعن أي دين يحدثنا ياسر بهامي؟ وهذا هو الحقُّ الذي علمه الكافة فمن أين أتى هو وحلفاؤه بهذا الزيف؟

الثورة على الظلم إذا تفشى والاستبداد إذا تَبَدّى واستعلى حق للشعوب وواجب عليها، حق لها مستمد من أصل فطرتها، وواجب عليها تمليه العقائد التي لم تُحَرَّف وتفرضه الشرائع التي لم تُبَدَّل، حق لها تملكه ولكن لا تملك التفريط فيه ولا التنازل عنه، وواجب عليها إن عجزت عن القيام به في وقت لم يسقط في كل وقت، وإن قعد عنه البعض لم يكن في قعوهم مبرر لإسقاط المسؤولية عن الجميع، وهذا القدر تلتقي على إقراره كل المذاهب، سماوية كانت أو أرضية، شرقية كانت أو غربية؛ فمن أين استقى ياسر برهامي تلك الجمل المتفسخة التي اشتمل عليها بيانه الأخير؟

    وآخر فقرة في بيانه أبدأ مناقشته، أبدأ وأنا أشعر بالاشمئزاز من اتخاذه الوعظَ سبيلا للتضليل والتجهيل؛ حيث يقول: “حافِظوا على بلادكم وأوطانكم بطاعة الله، وعَمِّروها باتباع سُنَّةِ رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وتَجَنَّبوا الشبهات والشهوات المُحَرَّمة، وامتَثِلُوا أمرَ الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6)، ولْتُطَبِّقُوا شعارَ الأنبياء الذي قاله شُعَيْب – عَلَيْهِ السَّلَامُ – (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88).

التخذيل عن النضال

    إنّه لمن أفحش التزوير لدين الله تعالى أن يُدعى الناس إلى طاعة الله بحملهم على ترك الواجب الذي أمرهم الله به، وإلى اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحملهم على مخالفة منهجه! وإنّ طاعة الله تعالى لا تكون بالسكوت عن نظام لم يبق للناس دنيا ولا دين، وبالتخذيل عن النضال والكفاح ضد هذا النظام الذي لم يبق حقا لمواطن ولا حرمة لمسلم، وإنّ اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون بالنكول عن منهاجه في مواجهة الظالمين وتَنَكُّبِ طريقه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنّ الإسلام لم يكن في يوم من الأيام دعوة للخنوع والاستكانة باسم الحفاظ على الدولة وحماية النظام.

    فطاعة الله تعالى تكون بالاستجابة لله ورسوله في كل ما يحيي الأمة ويرفع شأنها ويعزز وجودها ويحررها من أسر الظلم وقبضة الظالمين؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال 24)، واتباع الرسول يكون بمجاهدة الحكام المبدلين، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» (صحيح مسلم برقم 50) هذا هو الأصل الذي أهملوه وأتو بالاستثناء بدلا عنه؛ ليجعلوه أصلا ويبنوا عليه منهج أمة!

ثورة على الاستعباد

    والإسلام – وإن لم يصح أن نسميه ثورة بالمعنى الحرفي المتعارف عليه للثورة – كان ثورة بالنظر لما أحدثه في واقع البشرية من تغيير جذريِّ، كان ثورة على ظلم أطبق ذراعيه على الخلق وأحكم قبضته على العباد؛ فلم يدع لهم حقاً إلا وانتهكه غير مبال ولا مكترث، فحقُّ الحيِّ في الحياة رهن إرادة الجبابرة والبرابرة، وحق المخلوق في أن يعبد خالقه مُصادَرٌ لحساب الطواغيت من القياصرة والأكاسرة، وحق الناس الذين وُلِدوا من أرحام أمهاتهم أحراراً في أن يحيوا أحراراً كما يريدون صار حكراً على الأثرياء أو الأقوياء، وحرزاً لمن يملكون بمالهم أو يحكمون بسلطانهم.

   كان ثورة على استبداد واستعباد، قَهَرَ الخلق جميعاً وأذلهم لحفنة من الأنذال، وجعلهم يدورون أبداً في فلك العبودية، الخِطامُ في أنوفهم والسوط على أبشارهم وأدبارهم، لا يرفعون رؤوسهم ألا ليقطفها السيف، ولا يمدون أبصارهم إلا ليخطفها الخوف، ولا يحلمون في منامهم أو غفوتهم بتغيير في أوضاع حياتهم إلا ليتحسروا في يقظتهم وانتباههم على واقعهم الذي لا مناص منه ولا فكاك.

    وكلمة “لا إله إلا الله” مع ما تحمله من معان إيمانية وإسلامية عظيمة هي إعلان عام لتحرير الإنسان – حنس الإنسان – من الخضوع والذل لغير الله تعالى، لم تكن في يوم من الأيام مجرد خروج على عبادة الأوثان والأصنام والكواكب والنار، لم تكن قط محصورة في هذا المعنى الضيق إلا في أدمغة الظاهريين الذين لا يدركون من الكلام إلا صلصلة الألفاظ ولا يحسون من السياق إلا حفيف الحروف، لقد حررت هذه الكلمة العباد من الخضوع للطاغوت كله في أيّ صورة بدا وفي أي سياق أتى؛ فكانت بهذا التحرير ولا زالت (العروة الوثقى) التي لا نجاة من السقوط في جب القهر إلى بالاعتصام والاستمساك بها: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة 256).

أي دين؟

    هذا هو الإسلام فعن أي دين يحدثنا ياسر بهامي؟ وهذا هو الحقُّ الذي علمه الكافة فمن أين أتى هو وحلفاؤه بهذا الزيف المتسربل بجمل من الفقه المقلوب، أم إنّه الفقه الذي يطلق عليه الآن فقه السلاطين؟! لقد بدا واضحاً أنّ الرجل معنيٌّ قبل الشأن المصريّ بالشأن السعوديّ؛ حيث بدأ بيانه بالتنديد بهجوم وقع على آبار النفط في السعودية! بما يقودنا إلى معرفة المنبع الذي استقى منه الرجل وأضرابه هذا الفقه المنقلب على عقبيه المنكوس على رأسه، إنّه الفقه المدخليّ المدخول الذي لا هم له إلى تركيع الناس لأولي السلطة وأرباب الباس.

    ولم ينس الرجل في كل فقرة من فقرات بيانه ذاك أن يغلفها بلبوس الشرع، فها هو يثني على منهجه ومنهج دعوته: ” لن نُهمِل ما نَقدر عليه من نصيحة الأمة قيادةً وشعبًا” وهذا قول لا يعكس واقعاً موافقا له؛ فأين النصح الذي قدمه للقيادة؟ أين هو وهم وأمثالهم ممن يمارسون الخنوع باسم الحكمة والاستكانة باسم العقل والكياسة؟! أين هم مما يمارسه النظام وأذرعه الإعلامية في تشويه الدين ونسف ثوابته؟! وأين هم مما تمارسه الأجهزة القمعية للسيسي من انتهاك كامل لحقوق المواطنين وحرياتهم؟! وأين أمرهم بالمعروف ونهيم عن المنكر تجاه جرائم سرقة المال العام؟! ألم يكن سلفيا ذلك الصحابي الذي أنكر على عمر وهو يخطب أنّ ثوبه أطول من ثيابهم التي حصلوا عليها من عطايا الدولة؟! قائلا والله لا نسمع لك ولا نطيع! أم إنّه كان إيرانياً متآمرا على “بلاد الحرمين!”.

أرفض وصفه بالفسق

   لا تتكلم باسم الإسلام، وتكلم باسم حزبك ودعوتك وحسب، إذا كنت تجهل الإسلام وحقائقه الثابتة، وتتعلق بأحكام استثنائية تجرها قسرا إلى منطقة الأصول والثوابت؛ فلست أهلا إلا للتخليط والتلبيس، ولا يقال لك إلا ما قيل لمن سبقوك في الدرب: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة 42).

    ومع أنني لا أعرف شخص المقاول الفنان (محمد علي) أرفض وصفه بالفسق، وأتحفظ على تنزيل الآية الكريمة على حاله ومقاله؛ فإنّ قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات 6) لا ينطبق على هذا الحال بحال؛ لأنّ القوم الذين أخبر عنهم الوليد بن عقبة كانوا قوما يغلب على الظن صدقهم، أمّا القوم الذين أخبر عنهم محمد علي فقد تواترت الأخبار من قبل بضلوعهم في امتصاص خيرات البلاد ونهب مقدرات الشعوب، ومع أنني كذلك لا أسارع إلى رسم صورة مثالية لثورة يشعلها محمد علي أو غيره؛ لكنّ هذا لا يجعلني أقلل من اهمية ما أحدثته دعوته وما يمكن أن تحدثه من آثار إيجابية في حلحلة المشهد المصاب بالتيبس.

مع الشعب

   وفي الأخير نحن مع الشعب المصري في مطالبته بحقوقه، حتى ولو لم يكترث بحقوق أخرى نراها أكبر مما يطالب بها؛ لأنّه لا تثريب على من مارس حقا يعرفه أو طالب بحق يهمه، المهم هو أن يكون حقا لا باطلا، ولا ريب أن للشعب المصري حق أصيل في الحرية والكرامة والعيش الكريم والأمن في بلاده، وهذا الحق لا يبطله ولا يؤخره تجاهله لحقوق أخرى قد يكون مشوشا في فهمه لها وفيما يدعوه للاعتراف بها.