بين الاتباع والانصياع: ما الذي بقي وما الذي ضاع؟ سؤال يحوم في سمائنا ويدوي صوته في أسماعنا، لكنَّنا نَغُض الطَّرْف ولا نُلْقي السمع؛ ربما لأنَّنا عزفنا في أيامنا هذه عن التنظير وزهدنا في التأصيل، وتدفعنا العجلة إلى الأمام وتستحث خطانا؛ بحثا عن حلول سريعة لما نحن فيه من أزمات. ولَعَمْرِي إنَّ ما حلَّ بنا يستدعي العجلة وسرعة النَّفير، ولكن مهما كان الداعي للنفير مُلِّحّا في استثارته مُلْحِفا في طلبه: أيجوز النفير بغير عدة ولا عتاد ولا سلاح ولا ركاب ولا ترتيب ولا تدبير؟
ولست أعني بالاتباع ذلك المعنى الضئيل القليل الذي يُقَابِلُ – في أدبيات الدفاع عن السنة – مصطلح الابتداع، وإنما أعني به معناه اللغوي القديم الأصيل الذي نزل به القرآن ووردت به السنة وجرى على ألسنة الأوائل، وهو معنى غاية في العمق والاتساع، ولكي ندرك عمقه واتساعه وندرك كذلك امتداداته في الوعي وتأثيراته على المشاعر والضمائر؛ علينا أن نتدبر بعض هذه النصوص من محكم التنزيل:
“اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ” (الأعراف 3)، “اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” (الأنعام 106)، “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الجاثية 18)، “وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (الأنعام 155)، “وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَة وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ” (الزمر 55)، “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (النحل 123)، “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (الأعراف 157)، “قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (آل عمران 31)، “وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ” (التوبة 100).
فالاتباع قبل كل شيء يكون للمنهج، يكون للحق الذي جاءنا من عند الله تعالى، وقامت عليه البراهين الواضحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون كذلك لحملة هذا المنهج من أنبياء الله ورسله، ثم يكون لورثة الأنبياء من العلماء السابقين من الأنصار والمهاجرين والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.
ونحن أمَّة متَّبِعة، والاتّباع لها طبيعةٌ وسليقة؛ لذلك يتدرب عليه عمليا ممثلو الأمَّة ووفد الله في موسم الحج من كل عام، في منى وعرفة وبين الصفا والمروة وعند الركن والمقام. فنحن نرمي كما رمى الخليل ونذبح كما ذبح، ونطوف كما طاف الحنفاء، ونقبل الحجر كما قبله خاتم الانبياء، ونسعى كما سعت هاجر، وإذا كان سعيها للبحث عن الماءK فليس سعينا إلا لتكريس معنى الاتباع والاقتداء.
وكما أمرنا باتباع المنهج وحَمَلَتِهِ نُهِينا عن اتباع الهوى والدعاة إليه: “وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الجاثية 18)، “وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ” (ص 29)، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ” (النور 21)، “وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ” (الأعراف 3)، “وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا” (الكهف 28)، “وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرا” (النساء 115).
وبكمال الاتباع – وليس بالتبعية والانصياع – يتحقق الانتساب للمنهج الحق والانتماء لأهل المنهج الحق، فتكون – مثلا – أولى بالانتساب لفكر الإمام البنا والانتماء للجماعة التي أسسها كثير ممن هم أقل منك اتباعا لمنهجهK وإن كانوا أكثر منك انصياعا لأوامر قادتهم ومسؤوليهم، وهذه قاعدة قررها القرآن الكريم أحسن التقرير؛ حيث ردَّ على اليهود والنصارى دعواهم بأنَّهم أولى الناس بإبراهيم: “إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ” (آل عمران 68).
ذلكم هو الاتباع، أمَّا الانصياع فأمر آخر، إنَّه الذي يسمى في أدبيات الجماعات والأحزاب بالسمع والطاعة، وأحيانا بالانضباط الحركيّ، وأحيانا أخرى بالالتزام، وبغير ذلك من الأسماء، وكل هذه الأسماء – وكذلك مسمياتها – ليست متهمة ولا مذمومة في أصلها حتى نستبدل بها هذا الاسم الموحي بالاتهام: (الانصياع)، وإنَّما صارت متهمة ومذمومة وجديرة بهذا الاسم السيء السمعة عندما أُسِيءَ استعمالها حتى اختلط – في الفهم والأداء – الاتباع والانصياع، وصار الالتزام بأوامر المسcول – ولو خالف الحق الصريح – واجب الاتباع، وما هو باتباع، وإنما هو خضوع وانصياع.
إنّ كثيرا ممن يمارسون البلطجة المقنعة؛ بغرض الهيمنة على مصير جماعة معينة أو حزب معين، ويضغطون في سبيل ذلك بما يبسطون أيديهم عليه من أموال ومقررات ومؤهلات وصلاحيات؛ بغرض الإخضاع وتحقيق الانصياع؛ يخلطون في خطابهم – عن قصد أو غير قصد – بين الاتباع والانصياع، وإنَّ هذا الجيل لفي حاجة إلى أن يتحرر من هذه القيود العفنة قبل أن ينشد التحرر من هيمنة الطواغيت؛ فإنَّ المقيد الأسير لا يبرح قيده فكيف يفارق أسره؟