ما أكثر اللغط الذي أحاط بمسألة (الخروج على الحاكم) !! وما أفحش التزوير الذي يمارسه الكثيرون ممن ينتسبون إلى الدعوة والعلم الشرعيّ بهذا الشأن !! لذلك من الواجب تحرير الأحكام الشرعية التي تحيط بهذه المسألة الشائكة وتمييز بعضها عن بعض؛ بما يجلي الصورة ويميط الغبش.
وإذا أردنا أن نعرف (الخروج على الحاكم) تعريفاً موجزاً لا تكلف فيه ولا تقعر فإنَّه: (السعي لإزالة الحاكم عن حكمه باستخدام القوة) أمّا السعي إلى عزله عن طريق ممارسة أهل الحل والعقد لدورهم ولصلاحياتهم فليس خروجاً، وإنما هو عزل، وكذلك لا يعتبر خروجاً سعي الأمَّة بمجموعها أو بسوادها الأعظم إلى تنحيته بطرق سلمية، فبدون استخدام القوة لا يسمى السعي لإسقاط الحاكم خروجاً بالمعنى الذي رتب عليه العلماء أحكام الخروج.
والخروج على الحكام في الفقه الإسلاميِّ ينقسم -من حيث المحكوم عليه -إلى ثلاثة أقسام تمثل ثلاثة أحكام: حكم الخروج على الحاكم المسلم العادل المقيم لكتاب الله، وحكم الخروج على الحاكم الكافر أو الذي ظهر في حكمه الكفر البواح، وحكم الخروج على الحاكم الفاسق أوالجائر. وينقسم من حيث درجة الحكم إلى متفق عليه ومختلف فيه، فأما الأخير فمختلف فيه، وأما الأول والثاني فمتفق عليهما.
فأمَّا الخروج على الحاكم العادل المقيم لكتاب الله، فقد أجمع العلماء على أن الحاكم إذا كان مسلماً عادلاً مقيماً لكتاب الله لم يجز الخروج عليه بحال؛ وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء منهم النووي (شرح النووي على صحيح مسلم 8/35) ومستند الإجماع أحاديث كثيرة، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ” (مسلم عن عبد الله بن عمر، الإمارة، 58 – شرح النووي 12/240)
فإن اختلفت فئة مع الحاكم الشرعي العادل في شئ فعليهم النصح والمشورة، ولكن لا يخرجون عليه لمجرد كراهيتهم لبعض ما يأتي، فعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: “من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية” وفي رواية ” فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ” (البخاري 9/59، 9/78، مسلم 6/21)
بل إن على الأمة واجب حمايته ممن يخرج عليه، فعن عرفجة مرفوعاً: “من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه” (مسلم بشرح النووي 12/241) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ” (مسلم 6/23)
وأمَّا الخروج على الحاكم الكافر أو الذي ظهر في حكمه الكفر البواح، فقد أجمع العلماء على مشروعية الخروج على الحاكم إذا كفر أو ظهر في حكمه الكفر البواح وإن لم يكن كافراً، وقد نقل الإجماع غير واحد من العلماء منهم ابن حجر والنووي، وقد نص القاضي عياض على وجوب القيام على الحاكم إذا طرأ عليه كفر فقال في شرح حديث عبادة: “فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة -يعني بدعة مكفرة -خرج من حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه”. (شرح النووي لمسلم 12/229)، وقال ابن حجر: “ينعزل بالكفر إجماعاً فيجب على كل مسلم القيام في ذلك”. (فتح الباري 13/133)
ومستند إجماع العلماء على هذا الحكم ما ورد في آخر حديث عبادة بن الصامت، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان (متفق عليه البخاري ك الفتن6647، مسلم ك الحدود 1709)
وأضاف العلماء إلى ظهور الكفر البواح: تركه للصلاة أو للدعاء إليها، وعدم إقامته لكتاب الله مع قدرته على ذلك وتمكنه منه؛ لما جاء في هذه الأحاديث: عن عوف بن مالك الأشجعي مرفوعاً: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ،وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم ، قلنا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : “لا ما أقاموا فيكم الصلاة” (مسلم ك الإمارة 1855) وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “سيعمل عليكم أمراء بعدي تعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع ” قالوا : يا رسول الله : أفلا نقاتلهم ؟ قال : “لا ما صلوا” (مسلم 6/23-24 ) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ” (البخاري راجع الفتح 13/121)
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا ما صلوا ” ” لا ما أقاموا الصلاة ” ” ما أقام فيكم كتاب الله ” يعادل قوله: ” إلا أن تروا كفراً بواحاً ” بمعنى أن الحاكم إذا ترك الصلاة أو لم يقم كتاب الله فهو بمنزلة من ظهر في حكمه الكفر البواح، قال القرطبي: “وكذلك لو ترك -أي الحاكم -إقامة قاعدة من قواعد الدين، كإقامة الصلاة وصوم رمضان، وإقامة الحدود، ومنع من ذلك، وكذلك لو أباح شرب الخمر، والزنى، ولم يمنع منهما لا يختلف في وجوب خلعه. (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 3/415 – باب الإمارة) وقال ابن كثير: “فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟ فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين” (البداية والنهاية 13/119، 128) ويقول ابن تيمية: “والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أوبدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء” (مجموع الفتاوى 3/267)
وأمَّا حكم الخروج على الحاكم الفاسق أو الجائر؛ فقد اختلف العلماء في حكم الخروج على الحاكم إذا فسق أو جار، ولكن لم يأت بما يستوجب خلعه مما سبق بيانه، وإن كان في نفسه فاسق أو جائر، فهو لا يدعو للفسق ولا يستحله ولا يحمل المجتمع عليه بأيّ طريقة ولكنه في قصره وفي حياته الخاصة فاسق، ويجور في الأحكام والقضايا الجزئية دون أن يعتمد التبديل لشرع الله منهجاً له، فهل هذا يشرع الخروج عليه أم لا، هذا موضع الخلاف.
وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول : عدم جواز الخروج على أئمة الجور، فقد ذهب جمهور أهل السنة والجماعة إلى أنه لايجوز الخروج على أئمة الظلم والجور – ما لم يصل بهم ظلمهم وجورهم إلى الكفر البواح، أو ترك الصلاة والدعوة إليها أو قيادة الأمة بغير كتاب الله تعالى – وهذا مذهب الإمام أحمد المشهور عنه، وعامة أهل الحديث، وهو أيضاً مذهب الحسن البصري، وينسب للصحابة الذين اعتزلوا الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وهم سعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبو بكرة، رضي الله عنهم أجمعين . (راجع: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/171، مجموع فتاوى ابن تيمية 4/444، البداية والنهاية لابن كثير 9/135)
وقد ادعى الإجماع على ذلك بعض العلماء كالنووي في شرحه لصحيح مسلم، وكابن مجاهد البصري الطائي الأشعري شيخ الباقلاني، ولكن دعوى الإجماع فيها نظر، لما سيأتي من مخالفة فريق من أهل السنة في ذلك.
والقول الثاني: وجوب الخروج على أئمة الجور: وهو مذهب طوائف من أهل السنة، وبعض الأشاعرة، والمعتزلة والخوارج والزيدية وكثير من المرجئة (راجع مقالات الإسلاميين 2/150، 204) وممن قال بذلك من أهل السنة: ابن حزم وداود (الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/171، 172)، وأبوحنيفة، وقضيته في أمر زيد بن علي مشهورة، وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن. (راجع: الملل والنحل للشهرستاني 1/158، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 1/214، تاريخ بغداد 13/384) ومنهم: مالك، فقد أفتى الناس بمبايعة محمد بن عبد الله بن حسن حين خرج، فقيل له إن في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما كنتم مكرهين، وليس لمكره بيعة؛ فبايعه الناس عند ذلك عن قول مالك، ولزم مالك بيته. (راجع: البداية والنهاية 10/84، الفصل لابن حزم 4/171 – 172) ومنهم: الشافعي. (راجع: شرح العقائد النسفية للتفتازاني ص: 145، إتحاف السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين 2/ 233) ومنهم أحمد بن نصر الخزاعي قرين الإمام أحمد في المحنة، وبعض فقهاء الحنابلة كابن رزين وابن عقيل وابن الجوزي. (راجع: طبقات الحنابلة 2/305، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 10/311، البداية والنهاية 10/303)
وأما من ينسب إليهم القول بوجوب الخروج على أئمة الجور من الصحابة والصدر الأول فمنهم: الحسين بن علي وعبد الله بن حنظلة، وقد خرجا على يزيد بن معاوية، وكذلك عبد الله بن الزبير الذي طلب البيعة لنفسه بعد موت يزيد بن معاوية وسمي بأمير المؤمنين. ولذلك كان بعض الناس يقولون: خلافة ابن الزبير، بإزاء قول البعض: فتنة ابن الزبير، وسمى ابن حزم من الصحابة علياً ومن معه ومعاوية وعائشة وطلحة والزبير ومن معهم والصحابة الذين قاموا يوم الحرة في المدينة من المهاجرين والأنصار مع عبد الله بن حنظلة على يزيد، وكل من قام على الحجاج كأنس بن مالك وغيره رضي الله عن الجميع، ومن التابعين سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعطاء السلمي ومالك بن دينار والشعبي وغيرهم. (راجع: الفصل لابن حزم 4/171 – 172)
والقول الثالث: أن الخروج على أئمة الجور جائز (وليس بواجب) وهذا القول أشار إليه صديق حسن خان القنوجي البخاري في الروضة الندية (2/778)
ولم أذكر أدلة العلماء في القسم الذي اختلفوا فيه؛ للاختصار والإيجاز، ولأنني قصدت فقط إلى بيان أن هذا القسم مختلف فيه وليس فيه إجماع، وهذا يكفي.