الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
كان متوقعاً ما جرى للشيخ محمد حسين يعقوب، ومن المتوقع أن يحدث للشيخ محمد حسان ولباقي الفريق مثل ما حدث له أو قريبا منه؛ فهذا الآوان ربما يكون هو التوقيت المناسب لدى المجرمين وفق خطط الإجرام المخابراتية الرهيبة، وبقدر ما نلوم هؤلاء المشايخ نلوم أنفسنا على مستوى السذاجة التي كنّا نتعامل بها مع الناس، ونلوم – بل ونلعن – الأنظمة الطاغوتية التي أنبتت بطغيانها كل هذه المآسي؛ فلولاها ولولا ظلمها وكيدها ومكرها بالليل والنّهار ما طُمِست الرموز الحقيقية ولا طَفَت على سطح الميديا الرموز التي صُنِعت؛ لتكون يوما من الأيام قطعة تدخل في صناعة المأساة.
قد بدأتُ بالشيخ يعقوب؛ لا لشيء إلا لأنّه آخر المآسي، وإلا فقد سبقه الكثيرون ممن جاءوا بأضعاف ما جاء من الكوارث، سوف نتعرض لبعضهم؛ ليس على سبيل التشهير أو التشفى؛ فوالله ما كنّا نود أن يحدث مثل هذا، ولا كان بيننا وبينهم جميعاً إلا كل خير وحب واحترام، وإنّما المقام إذا استدعى ذكر أسماء لئلا يختلّ البيان يكون الإهمال والإغفال عندئذ ضرباً من ضروب الغفلة والورع المغلوط، وسوف نقتصد قدر الإمكان؛ لأنّ القاعدة المطردة تقول: الضرورة تقدر بقَدْرها.
إنّ ما يخشاه العقلاء الحكماء الحاملون لهمّ هذا الدين هو ذَاتُه ما يسعى إليه بجدّ واجتهاد أهل الشقاق والنفاق والعناد، هو إيقاع الجيل في جُبِّ اليأس والبؤس، والهبوط به إلى قاع الإفلاس والإبلاس، وإقناعُهُ بأنّ العملَ الإسلاميَّ كلَّه بُني على باطل؛ لكون رموزه الذين قادوا الشباب في إطاره تساقطوا كتساقط الفراشات الهائمة في لهيب الفتنة، وتطايروا كتطاير العصافير مع كل دعوة للدفاع أو النفير، فيمتهد السبيل – إِذَنْ – لسحب الجيل كله إلى منحدرات هابطة من اللادينية والإلحاد، أو القومية الممزوجة بكثير مما يلبي غرائز الجسد التي يشعلونها وسعرون لهيبها، وقليلٍ مما يلبي أشواق الروح على طريقة من الطرق ذاهبة في الشطط الفكري والطقوسيّ إلى أبعد مدى.
وإنّه لظلم كبير وجرم خطير ما يمارسه هؤلاء الظالمون المجرمون بما أوتوا من أدوات جبارة في الإعلام والقضاء والأجهوة الأمنية والمخابراتية الغارقة في مستنقع الحرب على دين الله: (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لتزول مِنْهُ الْجِبَالُ) (إبراهيم: 46)، وإنّها لغفلة ما بعدها غفلة أن نصدقهم ونمضي وراءهم ونحقق لهم ما يريدون، صحيحٌ أنّ كثيرا من الرموز تساقطوا، وصحيح كذلك أنّ كثيرا سيتساقطون – ونسأل الله العفو والعافية – لكنّ الواقع الذي كثيرا ما ننساه ونغفل عنه وقليلا ما نعتبر بأحداثه ونتعظ منه، أنّ الرموز الحقيقية للعمل الإسلاميّ لا تزال أكثر وأوفر، وهم ثابتون على الحق لم يغيروا ولم يبدلوا، منهم من قضى نحبه، كالشيخ فوزي السعيد والشيخ رفاعي سرور والشيخ عصام دربالة والدكتور عصام العريان والرئيس الشهيد محمد مرسي وغيرهم – ندعو الله لهم بالرحمة الواسعة – ومنهم من ينتظر وهو في البلاء صابر وثابت، مثل الشيخ الدكتور سفر الحوالي والشيخ الدكتور سلمان العودة والشيخ الدكتور عبد الرحمن البر والشيخ الدكتور عبد العزيز الطريفي والزعيم الملهم حازم صلاح أبو إسماعيل والشيخ الدكتور صلاح سلطان، وكثير من رموز الإخوان والسلفية والجماعة الإسلامية ممن لا يزالون في السجون ولم يغيروا ولم يبدلوا – ندعو الله لهم بالثبات – وكثير من الرموز الصادقة التي هاجرت بدينها وقضيتها تعمل قدر طاقتها لنصرة قضيتها، يتقدمهم الشيخ محمد عبد المقصود حفظه الله وزاده ثباتا على الحق والشيخ نشأت رفع الله قدره وكثير من العلماء والدعاة من الإخوان والسلفيين والجماعات الأخرى، نسأل الله أن يلهمهم رشدهم ويقيهم شر أنفسهم، وأن يجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، ومن الواضح أنّ المحنة كانت خطاً فاصلا وغربالا صارما، ولا يزال الغربال يعمل في نشاط مخيف؛ بما يشعر بأنّ هذا الزمان من الأزمان التي ينشط فيها عمل سنة التمحيص والتمييز والغربلة: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران: 179).
تلك كانت القاعدة الأولى: أنّ تساقط الكثير من الرموز المصنوعة لا يعني أنّ الساحة خلت من الرموز وأقفرت من الكبار وأنّ جمهور المسلمين صاروا كالأيتام ضاعين في الحياة بلا قدوات ولا رموز يتأسون بها، كل ما في الأمر أنّ الزلزال أصاب الجميع بحالة من الدوار الجماعيّ، وعمّا قريب ستستفيق الأمّة وتلملم أطرافها وتواصل سيرها إلى غايتها التي تقترب ولا تبتعد برغم كل ما نعانيه، ولكنّ الذين لا يعلمون إلا ظاهرا من الوقائع والأحداث لا يفقهون ذلك.
تلك كانت القاعدة الأولى، أما القاعدة الثانية فهي أنّ التساقط لا مذهب له ولا ملة؛ فلا يتهم اتجاه بعينه بأنّه متساقط متهاوٍ يصنع ويفرخ المتساقطين، بينما يُمَجَّدُ آخر ويوصف بأنّه مصنع الرجال الأثبات، فتلك طريقة في التصنيف متحيزة وغير موضوعية، فإذا كان المتساقطون من الاتجاه السلفيّ كُثر فإنّ المتساقطين من الإخوان أكثر، فهذا مختار نوح وهذا الهلباويّ وذاك الخرباويّ وغيرهم وغيرهم، هذا بخلاف الكثيرين ممن يتسترون بمقاومة الانقلاب وهم أحد أهم أدوات الانقلاب نفسه، والقانون نفسه ينطبق على كل الجماعات وسائر المؤسسات، ففي الأزهر رجال ثبتوا وبينوا الحق كالدكتور عمارة والدكتور عبد الحي الفرماوي والدكتور الشافعيّ وغيرهم، بينما من هو على رأس الأزهر قاد عملية شرعنة الانقلاب وساهم في صناعة المأساة بإسباغ الشرعية على المشهد الانقلابيّ، ومع الأسف لا يزال الكثيرون من الأحرار يثقون فيه ويمجدونه، وهذا من الغفلة.
أمّا القاعدة الثالثة فهي أنّ تساقط هؤلاء نعمة من الله وعطاء؛ وربما كان وجودهم داخل الصفّ بلا تمييز ولا تمحيص سببا من أسباب تأخر النصر، فإنّه لو نزل النصر غدوة لضيعوه عشية، ولو نزل فضيعوه لكانت استعادته أشق وأبعد حسب القوانين التي وضعها الله تعالى في حياة الناس، فتساقطهم تطهير للصف وتنقية للمجتمع، وتوعية وتبصير للأمة، وإتاحة الفرصة لكثير من الصادقين الذين غيبوا طويلا بسبب هيمنة هؤلاء على المشهد بما لهم من (بروبوجاندا).
وتأتي القاعدة الرابعة لطمأنة الخائفين، وإن كان الخوف مطلوبا، لكنّ المبالغة فيه وسوسة وضرر وسوء ظنّ بالله تعالى، وربما تكون مدخلا شيطانيا يندفع منه المرء بدافع الورع المغلوط إلى مساحة الغفلة والخمول وترك العمل، صحيحٌ أنّ الذين تساقطوا لكونهم كانوا في أعين الناس كباراً أثاروا خوف كل إنسان على نفسه أن يصيبه ما أصابهم، وصحيحٌ كذلك أنّ الخوف هنا له ما يبرره، فالفتنة أخطر شيء يحول دون الخاتمة المأمونة، والأعمال بالخواتيم، لكنّ الهروب من الفتنة نفسه فتنة من نوع آخر، لذلك ينبغي أن نثق في عدل الله تعالى، وإذا رأينا الله قد فتن هؤلاء وأمثالهم وجب أن نحمل هذا على ما يتفق مع إيماننا بعدل الله عزّ وجل، فالله لم يضع لعباده فخاخ الخداع في هذه الفتن ليتساقطوا فيها بعد هدى واستقامة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، إنّما الصحيح أنّ هؤلاء الذين يتساقطون كانوا منذ البداية مدخولين ولو بدا للناس غير ذلك، وكل ما فعلته الفتنة هو كشف المخبوء وليس تغيير الطبيعة؛ لذلك وردت عبارة في حديث صحيح تفسر المبهم المجمل في حديث “الخواتيم” جاءت بهذه الصيغة: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ)؛ فقوله (فيما يبدو للناس) يفسر ويبين قوله في الحديث الآخر: (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَكُونَ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الَّذِي سَبَقَ، فَيُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ).
والخامسة الأخيرة أنّ فقدان الثقة في الجميع بسبب انتشار ظاهرة التساقط ونشاط سنة التمييز من أخطر مداخل الشيطان على كثير من الشباب، فإنّ انصرافهم عن العمل وإعراضهم عن جميع الكبار وزعمهم أنّ الشباب وحده هو القادر على التغيير هو عين ما أراده أعداء الإسلام؛ فهم لم يصنعوا هذه الرموز ولم يدعموها ويفسحوا لها المجال إلا لتحقيق أغراض أهمها تفجيرهم في لحظة ما لإسقاط هيبة الكبار جميعا، وقطع كل لعلائق بين الإجيال، وإنهاء الثقة التي يقوم عليها العمل وتؤسس عليها الحركة؛ فعلى الشباب أن يخرجوا من هذه الحالة وأن يعلموا أن الشيطان يتخذ من ذلك ذريعة لتحقيق غاية أوليائه من الطواغيت وسدنة معابدهم.
هذه القواعد الخمسة ضرورية للتعامل مع الأزمة بفقه ووعي حتى لا تتفاقم آثارها ويتسع الخرق على الراقع، ونسأل الله لهؤلاء الذين تساقطوا في الفتنة أن يهديهم ويردهم للحق، ونسأل الله لنا ولجميع أعضاء الحركة الإسلامية الثبات على الحق والسلامة من الفتن، وصلى الله على سيدنا محمد.