قَرِينَان لا يفترقان حتى يفترق في القلب النابض شِقَّاه، وفي المخ النابه نِصْفاه، وفي الكبد الرطب فصَّاه، ولا ينفصل الثاني منهما عن الأول إلا إذا انفصلت النخلة الباسقة عن أصلها، والنبتة اليافعة عن جذرها، والأزهار اليانعة عن براعمها، ولا يعامل أحدهما بإدناء أو إقصاء إلا دخل الآخر معه في ذات المعاملة بلا فرق، ولا يُقصَدُ أحدهما بإقرار أو إنكار إلا كان القصد شاملاً لهما جميعاً بلا تأخير ولا تقديم،إنَّهما: الكتاب والسنة.
وهذا أمر بدهيّ في منطق العقل وفي خطاب الوحي، فبدايةً ليس الرسول – وحاشاه – بوقاً إذاعياً يتلو على الناس كلمات الله ثم يمضي، ويتركهم في مواجهة النصّ الإلهيّ بلا بيان يُستَفاد ولا تطبيق يُحتَذَى، وهذا الذي ينفيه العقل ويحيله ينفيه كذلك الواقع التاريخيّ المنقول بالتواتر ويحيله؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ ما أُجْمِلَ، ويُفَصِّل ما أُبْهِم، ويطبق ما في الكتاب وينفذه، ويُشَرِّعُ ويأمر، وينهى ويزجر، ويعظ ويذكر، ويربي ويجاهد، ويقود الجيوش، ويسوس المجتمع، ويتحرك في الحياة في جميع اتجاهاتها تحرك القدوة الذي إن تمثل القرآن رجلاً لم يكن إلا شخصه الكريم العظيم، وكان في جميع حركاته وسكناته قدوة يُقْتَدى وأسوة يُحْتَذَى، وقرآناً يمشي على الأرض؛ فهل وقع كل هذا ليخرج علينا وعلى الناس من يقول: أمَّا ما أنزل على هذا الرسول من الكتاب فهو فوق رؤوسنا، وأمَّا ما قاله هو ومافعله فمكانه خلف ظهورنا؟! إنَّ هذا لا يستقيم في منطق العقل ولا مجرى الشرع، فالكتاب والسنة صنوان لا يفترقان، ووحيان لا ينفصلان، فمن كان واضحاً صريحاً أخذهما جميعاً أو تركهما جميعا! أمَّا من رام المراوغة ودخل في مسارب متعرجة وشعاب ملتوية فلن يجد من الخلق بعد طول الجهد إلا نفوراً وصدوداً.
هذه الجملة الآنفة متسقة تمام الاتساق، ومنسجمة غاية الانسجام، ومستقيمة في العقل والمنطق والواقع التاريخي؛ ولأهميتها وضرورة استقرارها أكدها الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ففي أربعة مواضع منه يأتي النصّ على ثلاث وظائف رئيسية تنبثق منها كل المهام الرسالية، فَلَمْ تُمَثِّلْ تلاوة آيات الكتاب بما تحمله من معاني البلاغ العام سوى وظيفة واحدة من هذه الوظائف الثلاثة؛ قال تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة 129) وقال سبحانه: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (البقرة 151) وقال عزَّ وجل: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران 164) وقال جلَّ شأنه: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (الجمعة 2).
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الوظائف الثلاثة وما يتفرع عليها خير قيام، فكان يتلو ويبلغ، ويزكي ويربي ويبني، ويُعَلِّم ويفهم ويدرس، وطبيعيّ ومنطقيٌّ أن يرث الأصحاب عنه تراثاً ضخماً مرتبطاً بالكتاب ارتباط الدوحة الغناء بأصلها وجذعها، هذا الميراث سنة وحكمة؛ سنة لأنَّه منهج وطريق صاحب الرسالة، وحكمة لأنه منبثق من فهم صاحب الرسالة لرسالته، ومُحالٌ أن يكون هذا عملاً بشرياً محضاً منقطعاً عن الكتاب؛ إذ لم تكن العلاقة بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين الكتاب علاقة بين عقل ونص التقيا على غير ميعاد فتفاعلا كما يجري في كثير من التجارب البشرية العابرة، وإنما كانت علاقة بين رسولٍ ورسالةٍ أُرْسِلَ بها، بين رسول أُمر بأن يُبَيِّن للناس ما نُزِّلَ إليهم: (وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل 44)، ورسالةٍ أُريدَ لها أن تقومَ بها الحجةُ على العالمين: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (الناس 165).
ومن هنا كانت السنة والحكمة هذه وحياً من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذه نتيجة طبيعيّة ومنطقيّة، متساوقة مع طبيعة العلاقة بين الرسول وبين الرسالة من جهة، وبينه وبين من أرسله من جهة أخرى، وهذا ما أكده العلماء كافة والمفسرون قاطبة – بعبارات مختلفة مبنىً مؤتلفة معنى – وههم يفسرون الحكمة في الآيات الأربعة السابقة وفي هاتين الآيتين أيضاً: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء 113) (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) (البقرة 231)؛ فقد فسروا الحكمة بأنها: السنة([1])، فسروها بالسنة فهماً من عند أنفسهم ونقلا عن سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، والقلة النادرة منهم التي لم تنص في كل المواضع على أنّ الحكمة هي السنة لم تبعد عنها كثيراً؛ كقول بعضهم إنها الفقه([2])؛ وما الفقه الذي يُعَلِّمُه الرسول للناس إلا السنة في حقيقة الأمر؛ فالسنة – إذن – وحي من الله تعالى لرسوله، وإن كانت قطعاً ليست من الكتاب وليست من كلام الله؛ لأنَّها وحي بالمعنى دون اللفظ، وكلام الله في كتابه وفي كل كتاب أنزله وحيٌ باللفظ والمعنى؛ لذلك السنة تشترك مع القرآن في كونها مصدراً للأحكام ومتناً يحمل خطاب الله تعالى للمكلفين، ويمتاز عنها القرآن بأنه كلام الله المعجزُ بمعناه ومبناه، المتَعَبَّدُ بتلاوته.
ولزوم الحكمة للكتاب ليس أمراً خاصاً بهذه الأمة وحسب؛ لذلك قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (النساء 54)، فهؤلاء أيضاً آتاهم الله الكتاب والحكمة، فأما الكتاب فمعلوم، “وأما الحكمة فما أُوحى إليهم مما لم يكن كتابًا مقروءًا”([3]) وليس في ذلك أدنى مشكلة؛ إذ ليس الوحي مقصوراً على إنزال كتاب، فكثير من الأنبياء أُوحي إليهم ولم ينزل عليهم كتب ولم يتلوا على الناس كلام الله، فالوحي من الله لنبيّ من الأنبياء أوسع من إنزال كتاب يحوي كلماته سبحانه وتعالى، فكل كتاب من الله لرسول من رسله وحيٌ وليس كل وحي كتاباً منزلاً.
لذلك كله تبدو الأصوات الداعية إلى التفريط في السنة وما ينشأ عنها غاية في النشوز والشذوذ، ويبدو العالم الإسلامي وهو يتأهل للإصغاء إليها والميل نحوها غاية في السذاجة والغفلة، وتبدو الساحة الإسلامية في ظل التنكر للتراث الإسلامي والتهجم عليه كأنها مسرح كبير يقف عليه خلق كثير يفقأون أعينهم بأظفارهم ويأكلون أكبادهم بشفار أسنانهم، وهم سامدون ضاحكون؟!! ما هذا الذي نصنعه وما الحامل عليه وما الداعي إليه؟! أروني أمَّة واحدة في تاريخ البشرية كلها وُهِبت مثل هذه السنة متناً أو سنداً رواية أو دراية؟! أروني كتاباً لعالم من العلماء أو نصاً لحكيم من الحكماء حظي بسند من مثل ما حظي به حديث عندنا لم يرق إلى المستوى الذي يفتح له باب الولوج إلى البخاري أو مسلم! بل أروني سفراً من توراة أو مزمورا من إنجيل شذ عن القاعدة فجاء يتقدمه سند أويتبعه تخريج!
ولدينا في كتاب الله تعالى الذي نريد أن نفرده بالحجية دون السنة سيل من الآيات؛ تدفقت بالدعوة إلى طاعة الرسول واتباعه والاقتداء به والاستجابة له، أكثرها يقرنها بطاعة الله تعالى، إن استطاع المنازعون بشق الأنفس أن يتهربوا من دلالة بعضها فلا يمكنهم أن يجدوا من دلالتها مجتمعة مهرباً إلا بدفن رؤوسهم في الرمال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) (الأنفال 20) (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) (النور 54) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد 33) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء 59) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال 24) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران 31) (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) (النساء 80) (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) (النساء 64) (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء 65) (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب 21) (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور 56) (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء 13) (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء 14) (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب 36) (مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (الجن 23) (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر 7) (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور 63).
ففي هذه الآيات قرن الحق تبارك وتعالى بين طاعة الرسول وبين طاعته، وجعلهما شيئاً واحداً، وجعل طاعة رسوله من طاعته هو سبحانه، وأمر بالاستجابة للرسول ونهى عن عصيانه، وحذر من الفتنة التي تحيق بالناس إذا خالفوا أمر الرسول، وحتَّم على المؤمنين أن يتحاكموا إلى رسوله في كل ما شجر بينهم مع الرضا والتسليم بما يقضي، كل هذا بأساليب متنوعة، تختلف في مبناها وتأتلف في معناها ومؤداها؛ فهل يُستساغ في بداهة العقل القول بأننا مأمورون في هذه الآيات بطاعة الرسول فيما يتلوه علينا من الكتاب فقط، دون ما يُبَيِّنُهُ من مُبْهَمه وما يُفَصِّلُه من مُجْمَله وما يُطَبقه من أحكامه، وهو الرسول الموحَى إليه بهذا الكتاب ؟!! إنَّ مثل هذا القول إن اجْتَرَأَ أخرقٌ على الهذيان به؛ فلا يستسيغه ولا يمرره إلا من هجر عقله وطَلَّقه فَبَتَّ طلاقَهُ.
وإذا كان القرآن قد أصَّل لحجية السنة بإيجاب طاعة رسوله والاستجابة له؛ فليس مقبولاً أن يقال إنَّ السنة بعد انقراض عصر الصحابة قد اندثرت وأَفَلَتْ نجومها، لأنَّ القرآن لا يؤسس لشيء لا وجود له ولا بقاء، ولا استمرار له ولا استقرار؛ فرسالة الإسلام خاتم الرسالات وبقاؤها وعدم قبولها للنسخ أو التبديل أمر من محكمات الإسلام المعلومة من دين الله بالضرورة؛ لذلك قضى الله تعالى أن يتولى حفظ كتابه، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر 9)، وحفظ السنة حفظ للكتاب ولما حواه من المعاني والأحكام، وضمانة لعدم الانحراف في الفهم والتطبيق، وهو كذلك ضرورة لتحقق خاصية البقاء وعدم النسخ، غير أنَّ السنة محفوظة بما هيأ الله لها من جهود العباد، أمَّا القرآن فلا يقتصر حفظه على جهود العباد حتى تكون الضمانة الحقيقية هي أنّه في كنف عناية الله المباشرة.
أمَّا ما أثاره المستشرقون وأبواقُهم والمتَغَرِّبون وأذنابُهم من زوابع حول كتابة السنة وتدوينها؛ ليخرجوا من تلك الزوابع المفتعلة بزعم مُؤَدَّاهُ أنّ السنة قد ضاعت بسبب تأخر التدوين والكتابة إلى بداية القرن الثاني الهجري، فهذا في سوق البحث العلميّ لا يُباع بِفِلْسٍ أَكَلَهُ الصدأُ وأبْلاهُ الكساد في كل البلاد؛ ما هذا الدجل الْمُتَلَصِّص في أخبية البحث العلمي وأقبية الأكاديميا؟! أيقال هذا بكل صفاقة عن السنة النبوية؟! وماذا يقال عن كتب تُنسب إلى السماء ويقال عنها إنَّها كلمة الربّ ولم تحظ بما حظيت به الأحاديث الواهية عندنا من وسائل الحفظ إسناداً وتدويناً؟! إنَّ عصر الصحابة لم ينصرم وإنَّ جيلهم لم ينقرض حتى تمَّ على عينهم ميلاد الحلقة الأولى من الإسناد الذي ظلت الأمة تتوارثه وتستولد حلقاته بعضها من بعض جيلاً بعد جيل وحلقة إثر حلقة، في يقظة ووعي، وحرص وورع، وتحرّ واحتراز، وتدقيق وتوثيق، وإجلال للسنة وتعظيم لشأنها، وهم المشهود لهم بقوة الحفظ وصفاء الذهن وجلاء البصيرة، وحول هذا الإسناد نشأت علوم تدور برحاها فوقه تمحيصاُ وغربلة ونقداً، فلما جاءت اللحظة التي يمكن أن يقال فيها إن الإسناد قد طال وبعدت بطوله الشقة؛ بما قد يمثل عبئاً تنوء بحمله الذاكرة بدأ التدوين المنظم للسنة.
ومع ذلك لم يكن الاعتماد على الذاكرة وحدها رغم شدة وثوقنا بها، فقد عُرف التدوين وعُرفت الكتابة من لدن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان نهيه عن الكتابة في أول الأمر إلا خشية اختلاط السنة بالقرآن في وقت لم تكن فيه ملكة الأصحاب قد نمت النمو الذي يحرزهم من الخلط؛ لذلك قال لهم: (لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ، وَحَدِّثُوا عَنِّي، وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)([4])، ثم أذن لهم رسول الله في الكتابة فكتبوا وورَّثوا الكتابة لمن بعدهم، تماماً مثلما ورَّثوهم الرواية الشفهية المنضبطة، والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر، من ذلك ما خرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عام الفتح، (فَقَامَ أَبُو شَاهٍ فَقَالَ: اكْتُبُوا لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ»)([5])، ومن ذلك ما خرجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ، وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: «اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ»([6])، والأخبار الصحيحة أكثر من أن تحصر؛ تؤكد أنهم كانوا يعتمدون مع الرواية الشفهية والذاكرة القوية على الكتابة والتدوين، وممن رُوِيَ عنهم كتابة السنة – غير عبد الله بن عمرو – أنس بن مالك، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عباس، وعليّ بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، رضي الله عنهم أجمعين؛ فاسألوا عنهم أهل الذكر في ميدان السنة إن كنتم لا تعلمون.
وقد يتقمص بعضهم دور الراسخين في العلم فيستدل ببعض آيات القرآن على ما ذهب إليه، فانظر إلى السطحية والعجلة عندما تجتمعان في عقل رجل وتتزاحمان على لسانه؛ فهذا أحدهم يستدل بقول الله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38]، ولو أنَّه صبر قليلاً حتى يطالع كتاباً من كتب التفسير أو حتى يراجع سياق الآية لعلم أنَّ الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، وأنَّ المسألة كونية وليست شرعية أصلاً، وآخر يستدل بقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل 89)، على أنَّ الكتاب حوى كل شيء؛ ففيم التمسك بالسنة وقد كفانا القرآن كل شيء؟ فليقل لنا أين وجد في كتاب الله أن الظهر أربعاً وأنَّ المغرب ثلاثاً؟ أم إنَّه لا يؤمن بالصلاة من حيث الأصل؟! مع أنَّه لم يقل أحد من علماء الأمة بأنّ هذه الجملة يلزم منها أن يفصل القرآن كل شيء بنصّه، وإنما قالوا إنَّ الكتاب بيّن كل شيء من خلال هذه الآية: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44).
لا ريب أنَّ الغارة على السنة لا تستهدف السنة وحدها، وإنما تستهدف القرآن قبلها، وتستهدف الإسلام بجملته، والشريعة بكافة أطرافها؛ فلنكن على يقظة فإنَّ الحرب ضروس وإنَّ العدو خبيث، ولعلنا في مقال آخر نتعرض لمحاولات الهدم الجديدة المتخذة من العقل معولاً لتحطيم الثوابت وتهديم المحكمات؛ بدلاً من الغرس والبناء والتعمير والإنماء، والله المستعان.
([1])راجع: تفسير ابن أبي حاتم – محققا (2/ 426) ، (2/ 654) ، (4/ 1064)- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (23/ 372) ، (9/ 200) – تفسير ابن كثير ط العلمية (1/ 476) ، (2/ 364) – تفسير القرطبي (3/ 157) – تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/ 310)
([2]) راجع: زاد المسير في علم التفسير (1/ 205)
([3])تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/ 480)
([4])صحيح مسلم (4/ 2298)
([5]) متفق عليه صحيح البخاري برقم (9880) وصحيح مسلم برقم (1355)
([6]) أبو داود برقم (3646)