لم تكن مفاجأة تلك القفزة التي قفزها القائمون على ملف الأحوال الشخصية بمصر في مشروع القانون الذي فرضوا عليه تعتيمًا كبيرًا وتسربت بعض بنوده في وسائل الإعلام ويستعد القوم لدفعه للبرلمان من أجل إقراره، فيما يتعلق بتعدد الزوجات، وهي اشتراطه موافقة الزوجة والقاضي، فلقد سبق أن مهد لها في أواخر السبعينيات من القرن المنصرم عندما اشترط إعلام الزوجة، كما سبق أن قفز القانون الجزائري ذات القفزة المتبجحة وأوجب على القاضي أن يستدعي الزوجة ليتأكد بنفسه من رضاها.
والواقع أن المسألة ليست مسألة سن قوانين يدعى أنها تلبي حاجات الناس وتعكس ثقافاتهم، بقدر ما هي مسألة صراع بين الإسلام والعلمانية، تنجح فيها العلمانية في كل مكان تكون فيه بحسب مالها من رصيد، وتشغل كل مساحة على الواقع تراجع فيها المد الإسلامي، ولسنا نستبعد أن تكون الخطوة القادمة على أثر تركيا في إلغاء أي عقوبة تفرض على جريمة الزنا.
والذي يؤكد هذا – أي كون القضية ليست قضية مصلحة – أن اتجاه القانون الجديد يعاكس ويضاد اتجاه المصالح، ويكرس المأساة التي يعيشها المجتمع المصري بسبب زيادة نسبة العنوسة، ويعمق الخلل الاجتماعي والأخلاقي الناتج عن تزايد أعداد النساء، ويغلق الباب أمام وضع حل حاسم لهذه المشكلات التي تعد بصدق قنابل موقوتة، يوشك أن تجعل عامر المجتمع خرابًا، وأخضره يبابًا.
وليس وراء هذه القفزة الطائشة إلا الضغوط المتوالية من المنظمات العلمانية المدنية، وليس لها إلا دلالة واحدة، ألا وهي: فقدان الثقة في شريعة الله والرغبة في الانفلات من أحكامها.
لذلك يجب أولًا أن نقرر أن الشريعة الإسلامية لا يستدرك عليها في إباحتها لتعدد الزوجات، ولا يعاب عليها أن أعطت هذا الحق للرجل، ولا تتهم بما يتهمها به العلمانيون من ظلم للمرأة وإهدار لحقوقها؛ وذلك للآتي:
أولًا: الإسلام جاء فوجد تعدد الزوجات بلا عدد ولا حد، أي وجد قانون الجاهلية يبيح للرجل أن يتزوج من النساء ما شاء بلا حد، فوضع لذلك حدًّا، وحرم على الرجل أن يزيد على الأربعة، ووضع لذلك ضابطًا لم يكن موجودًا في الجاهلية، وهو ضابط العدل، قال تعالى: ﴿ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3].
ولما أسلم “غيلان بن سلمة” وتحته عشر نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ منهن أربعًا) [رواه ابن ماجه، (1952)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، (1953)]، ثم أمره أن يطلق الباقي، فالإسلام إذًا ضيق الدائرة ولم يوسعها، وقيد ما كان من قبل مطلقًا، وحصر ما كان من قبل مفتوحًا على مصراعيه.
ثانيًا: القرآن عندما أباح للرجل أن يتزوج بأربع نسوة ضبط ذلك بضابط العدل، وهو ضابط يضمن للمرأة ألا تظلم وألا تبخس حقها، والعدل يكون في المعاملة والمعاشرة والإنفاق والمبيت … إلخ.
قال تعالى: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3]، وقال عز وجل مبينًا الواقع البشري ومحذرًا من الاسترسال معه بدافع الهوى: ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾ [النساء: 129]، ومعناها كما نقل الطبري عن بعض السلف [تفسير الطبري، (4/ 312)]: لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في الحب والمودة فلا تميلوا بأهوائكم كل الميل حتي يحملكم ذلك على الإساءة وعلى عدم العل في القسم والنفقة والعشرة بالمعروف.
وروى أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) [رواه أبو داود، (2135)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2133)].
ثالثًا: الإسلام كل لا يتجزأ، فلا يصح أن ننظر إلى هذا الحكم وحده ونهمل النظر إلى أحكام أخرى تنتظم مع هذا الحكم في منظومة واحدة متكاملة، فوجوب العدل بين الزوجات حكم، ووجوب الإنفاق عليهن حكم، وكراهة التزوج لمن لا يستطيع الإعالة للزوجة والأسرة حكم، وحرمة التزوج لمن يعجز عن القيام بالوظيفة الجنسية بحيث يترتب عليه عذاب للمرأة أو فتنة لها حكم، هذا بالإضافة إلى أحكام عامة تمثل إطارًا عامًّا لجميع أبواب الدين بما فيها هذا الباب، مثل: تحريم الظلم، ووجوب تحمل المسئولية، واستحباب التخفف من الدنيا بما فيها النساء، وكراهة الانغماس في الشهوات بما فيها شهوة الجنس التي تكون وراء الرغبة في تعدد الزوجات، ودعوة الإسلام إلى إعطاء الاهتمام الأكبر للعبادة والجهاد وطلب العلم والدعوة إلى الله والإصلاح بين الناس وعمارة الأرض بالمنهج الرباني.
فعندما يوضع هذا الحكم – وهو إباحة التعدد إلى أربع نسوة – وسط هذه الأحكام فلن يكون له أي أثر ضار على المرأة ولا على الرجل ولا على الأسرة ولا على المجتمع، وإنما تظهر الآثار الضارة من استئصال هذا الحكم وحده من بين جملة الأحكام المتصلة به، والانتفاع الشخصي به بدافع من الهوى والشهوة.
رابعًا: هذا الحكم شرع لحكم عظيمة أهمها: إحداث التوازن في المجتمع البشري بين الذكور والإناث؛ وإيجاد ضمان الحياة الأسرية الكريمة لجميع الإناث في المجتمع، وحماية المجتمع من الرذيلة؛ فقد أثبتت الإحصائيات أن عدد الإناث أكثر من الذكور، وأن معدل الإقبال في الإناث أكثر من الذكور بينما معدل الوفيات في الرجال أكثر؛ لأسباب كثيرة منها الحروب والعمل الشاق وتحمل المسئوليات الجسام وغير ذلك.
وهذا ينتج عنه بلا شك وجود إناث بلا أزواج، (مما يجعلنا أمام احتمالات ثلاثة لا رابع لها:
1- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة واحدة ثم تبقى واحدة أو أكثر – حسب درجة الاختلال الواقعة – تقضي حياتها لا تعرف الرجال.
2- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجًا شرعيًّا نظيفًا ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال؛ فيعرفن الرجل خدينًا أو خليلًا في الحرام والظلام.
3- أن يتزوج الرجال الصالحون كلهم أو بعضهم أكثر من واحدة، وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل زوجة شريفة في وضح النور، لا خدينة ولا خليلة في الحرام والظلام.
الاحتمال الأول ضد الفطرة وضد الطاقة بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف الرجال.
الاتجاه الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف وضد كرامة المرأة الإنسانية.
والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام، يختاره رخصة مقيدة؛ لمواجهة الواقع، يختاره متمشيًا مع واقعيته الإيجابية، في مواجهة الإنسان كما هو – بفطرته وظروف حياته – ورعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر، ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة ولكن في يسر ولين وواقعية) [في ظلال القرآن، سيد قطب، (1/ 508)، بتصرف واختصار].
إن القرآن وهو يبيح تعدد الزوجات – بالضوابط المشروعة – لا يحابي الرجل، ولا يظلم المرأة؛ وإنما يعالج مشكلة مجتمع بشري بأكمله، ويضع حلًّا لأزمة أكبر من مصلحة المرأة أو مصلحة الرجل، كما أن إلزام الرجل بواحدة لن يقتصر ضرره وتضييقه على الرجل وحده، وإنما سيقع على المرأة قبل الرجل، ونقصد بالمرأة المرأة العانس، والنساء اللاتي بقين بغير زواج يعانين الحرمان أو يعانين التقلب بين رجال شتى كل منهم يقضي وطره في الظلام ثم ينصرف عنها بلا أدنى استعداد لتحمل المسئولية، إن المعترض الوحيد على التعداد هو هذه المرأة الأنانية التي لا تشفق على أختها المتضررة، ومثل هذه لا يقيم الإسلام لتعنتها وزنًا.
ثم إن هذه الزوجة الأنانية التي رفضت أن تضم أختها معها تحت سقف الزوجية ستقابل منها بأسوأ من صنيعها؛ حيث ستقوم بخطف زوجها منها في الظلام، ولن تترك لها منه إلا شبحًا باغضًا مبغوضًا، هذا بالإضافة إلى ما يصيب المجتمع من قلق وتوتر.
ثم إن إباحة تعدد الزوجات أفضل من إباحة تعدد الخليلات، الذي ينتج اختلاط الأنساب وضياع الأجيال وانتشار الأمراض التي تشيع في أوساط الزناة كالزهري والسيلان والإيدز وغير ذلك، ومن هنا فلاشك أن تعدد الزوجات أمر يحمد للقرآن وللإسلام.
هذا الذي قدمناه – في تبرير الحكم بإباحة تعدد الزوجات – أمر اضطررنا إليه؛ فالوضع الطبيعي في المجتمع المسلم أن يستسلم لحكم الله سواء علم الحكمة منه أو لم يعلمها، وألا يقف موقف المدافع دائمًا؛ لأن الحق أقوى وأعلى من أن يقف موقف المدافع عن نفسه، لكن الفتنة عندما يستعر أوارها تدخل في الكيس والحزم ما ليس منه بالأصالة.
إن الوضع الطبيعي للصوت الإسلامي أن يسائل الخارجين على حكم الإسلام، وأن يستجوبهم، وأن يضعهم في قفص الاتهام؛ ليضيق عليهم بالحق ما توسعوا فيه بالباطل.
ما هو الهدف من سن هذا القانون؟ ولمصلحة مَن يُسن؟ وما هو مستندهم الشرعي فيما ذهبوا إليه؟ وأين وجدوا في كتاب الله وسنة رسوله أو مذاهب المسلمين أن موافقة القاضي أو رضا الزوجة شرط في إباحة التعدد؟
إن الآية واضحة كالضحى، صريحة كالنهار، وإن الحكم الشرعي الوارد فيها بإباحة التعدد يمضي فيها من أولها إلى أخرها متدفقًا منسابًا، ولا يعوقه شيء سوى ذلك القيد الذي جاء متأخرًا ليعلن تفرده وتوحده: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ﴾ [النساء: 3]، والمخاطب بهذا هو الزوج وليس الزوجة، والمسئول عنه هو الزوج وليس القاضي؛ وهذا أمر ديانة فيما بين العبد وربه لا أمر قضاء، وهذا واضح من السياق لكل من له عقل يفهم وقلب يعي.
وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ما يمكن أن يضيف قيدًا ثانيًا على هذا القيد المنوط بديانة الزوج، وليس فيهما ما يجعل للزوجة أو القاضي مدخلًا، فمن أين دخلوا؟ ومن أي باب أدلفوا؟
أمن باب المصلحة المرسلة؟ فإن المصلحة ليست في تحريم التعدد ولا في تقييده، على العكس من ذلك، فالمصلحة في إطلاق إباحة التعدد إلا من قيد العدل، وفي تشجيع التعدد ورفع الأثقال عنه لينطلق في إصلاح الواقع بخطة واقعية، وقد سبق بيان وجه المصلحة فيه.
ثم أن المصلحة المدعاة من تقييد التعدد مصلحة ملغاة شرعًا؛ لكونها تصادم صريح النص، وإذا لم نقل بهذا وانسقنا وراء العلمانين في كل فج يسلكوه فسوف نقول غدًا – عصمنا الله من الفتنة – بوجوب المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث؛ تذرعًا بمصلحة العدل بين الأولاد من البنين والبنات، إن المصلحة المزعومة من وضع قيود على إباحة التعدد مصلحة ملغاة شهد لها النص والشرع بالإلغاء؛ فاعتبارها إذًا تبديل للشرع وتحريف للحكم الشرعي.
أم من باب الولاية وتصرف الحاكم؟ فإن تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة [انظر: مجلة الأحكام العدلية، م(58)، والأشباه والنظائر، السيوطي، ص(231)، والمنثور، الزركشي، (1/ 309)]، ولا مصلحة في تقييد المباح ولا في تعطيل حكم من أحكام الله، ولا في إشاعة تعدد الخليلات بمنع تعدد الزوجات؛ وعليه فإن تصرف القاضي بوقف الرجال عن التزوج حتي يرضى النساء لا ينفذ شرعًا، لأن (إنفاذ تصرف الراعي على الرعية ولزومه عليهم شرعًا شاءوا أم أبوا معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه) [شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقا، ص(309)].
ثم إن الوالي أو الحاكم أو القاضي ليس له أن يخالف في حكمه حكم الله تعالى، قال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 48].
إن على الأمة الإسلامية أن تلتزم بأحكام شريعة الله، وألا تبدل؛ وإلا بدل الله ما بها من نعمة إلى نقمة، ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].