ثلاثةُ مفاهيم؛ إذا وجدْتَها – في أي حديث لأي متحدث في الشأن المصري – مختلةً ومضطربة فلا تلتفت إلى ما يَحْتَفُّ بها من عبارات أو حوارات، سواء كان السياق صاعداً أو هابطاً؛ لأنَّه لا يجدي بعد انهيار القواعد بقايا جدران يَتَسانَدَ بعضها على بعض، فما هي هذه المفاهيم الثلاثة؛ لكي نُقَيِّمَ في ضوئها تصريحات رئيس حزب مصر القوية تقييماً عادلاً متجرداً؟
أول هذه المفاهيم يتعلق بتوصيف حلقة هامَّة في سياق الأحداث، تتمثل فيما وقع في 30 حزيران/ يونيو: أكان ثورة أم ثورة مضادة؟ وهو مفهوم مفصليٌّ كالحدث نفسه سواءً بسواء، ومن ثمَّ لا بد أن يكون واضحاً؛ وإلا اختل تقييمنا لما سبقه وما تلاه، واختل تقييمنا كذلك لكثير من الأشخاص والكيانات التي – حتماً – سيلتقي بها السائرون على طريق التغيير قصداً أو عرضاً.
ثاني هذه المفاهيم يرتبط بتحديد الفاعل للأحداث والمسؤول عن الكوارث والمستهدف بالتغيير؛ من الذي يواجهنا ونواجهه؟ ومن الذي نسعى لتغييره؟ أهو شخص أم نظام؟ فإنَّ تغيير شخص لا يستدعي من الرؤى والاستراتيجيات والخطط والآليات ما يستدعيه تغيير نظام برمته، وإنَّ السعي إلى تغيير شخص على رأس نظام مجرم بمثابة الإطاحة ب(البرنيطة) من فوق رأس (الخواجة) المستمر في إذلاله للعباد واستبداده بالبلاد.
ثالث هذه المفاهيم له صلة وثيقة بمنهج التغيير، وهو أحد المعضلات التي يتهرب من مواجهتها فحول السياسة وأرباب الفكر وجهابذة الفقه؛ ويجدون في التنظير لمسائل تجريدية مندوحة عن الخوض فيها؛ وملجأً يحتمون به من سهام الناقدين واتهام الحاقدين. ولا ريب أنَّ العجز أو الإعراض عن تقديم إجابة واضحة على السؤال الباحث عن طريق التغيير يعني أنَّ الرؤية غائبة وأنَّ مشروع التغيير معدوم من أصله.
إنَّ ما يسمى بـ”ثورة 30 يونية” ليس ثورة إلا عند من يرى أنّ دعوة مسيلمة الكذاب نبوة صادقة صادرة عن وحي السماء.. إنَّها ليست سوى أكذوبة مفضوحة لا تنطلي حتى على البسطاء، وإنني لعلى يقين من أن الذين شاركوا فيها يدركون هذا جيداً، ويدركون جيداً أنَّ ست ساعات – يجتمع فيها شذاذ الآفاق يرقصون ويغنون ويتحرشون بل ويتسافدون في قارعة الميدان ثم ينصرفون دون أن يتعرضوا لأدنى إزعاج أو تنغيص – لا يمكن أن تكون ثورة تطيح برئيس دولة منتخب؛ ولو تعلق المروجون لها من أرجلهم في السماء أو خروا على رؤوسهم من العلياء.
وإنَّه لمن الخطر على وعي الأجيال التي يناط بها التغيير أن تبتلع هذه الأكذوبة؛ فيتسمم فهمها وشعورها وإحساسها، وتنتكس على رأسها ولا تفرق بين مسار الثورة ومسار الثورة المضادة، ولقد برزت أكذوبة “30 يونية” في حديث الدكتور أبو الفتوح، فما الذي يملكه رجل هذا فهمه من الرؤى والاستراتيجيات للتصدي لتغيير هذا الواقع؟!
وإذا كان تمجيد تلك الأكذوبة تغريراً وتزويراً؛ فإنَّ الختل والخداع يتجسد في حصر المواجهة مع السيسي وتبرئة ما يسمى بـ(أجهزة ومؤسسات الدولة!)؛ لتتكرر نفس اللعبة التي لعبوها بمهارة واحترافية على الشعب المصريّ في ثورة يناير، إنَّه لا يوجد في مصر شيء أسمه مؤسسات دولة؛ وإنَّ ما يقال عنه مؤسسات دولة، ما هو إلا وهم وسراب خدَّاع، إنَّه لا يوجد سوى سلطة مستبدة ونظام عسكريّ فاشيّ، تمدد في داخل هيكل الدولة ومؤسساتها حتى تطابقا وترادفا؛ فلم تعد تفرق بين الدولة والنظام، ثم ظل يتمدد حتى هشم هيكل الدولة فلم يبق منها سوى قشور متناثرة على جسده، ولو شاء لنفضها، ولكنه آثر أن يدعها؛ لتواري قبحه وتزفف على عوراته المكشوفة.
ويكفيك أن تتذكر سياق الحديث لتتأكد أن الرجل كان شديد الحرص على حصر المشكلة في شخص السيسي، وعلى تمجيد مؤسسات الدولة وأجهزتها، بما في ذلك ما يسميه “جيش مصر!”، ويهيب به أن يترفع عن الخوض في السياسة وأن يعود للدفاع عن الحدود! أما آن لنا أن نتحرر من هذا الوهم؟ أوكلما أوشكنا أن نتخلص من هذا الكابوس جاءنا من يغرقنا في لججه؟ آن لنا أن ندرك أنّه ليس لمصر جيش، إنَّما هو جيش المحتل، يحمي وكلاءه الذين يحققون له مصالحه، ولكن بيد بعض أبنائه.
أمَّا تكراره لكلمة واحدة كأنَّها “الصمدية!” وهي: “لا طريق لنا إلا العمل السلميّ” فهو بمثابة من يخبط رأسه في الحائط ويدعو الناس أن يأتموا به، فإذا سألوه وما جدوى هذا؟ أجابهم بثقة: “وهل هناك بديل له إلا الفوضى؟!”، وكأنَّه لا يوجد في كون الله طريق لتغيير النظم الظالمة إلا الانبطاح أو الفوضى! ثمَّ ما هو العمل السلمي يا ترى؟ أهو ما تسميه “النضال السياسيّ!” هُزِّي إليك بجزع “النضال السياسيّ”!!
هذه هي المعالم الرئيسية في حديث أبو الفتوح، وماعدا ذلك ليس إلا نقداً لاذعاً لعبد الفتاح السيسيّ، وليس في هذا النقد زيادة على ما يقوله القائلون – وإنَّهم لَكُثْر – إلا شيء واحد، لا أدري إذا كان يحسب للرجل أم عليه، وهو أنَّه ضحى بنفسه وغرر بحياته وحريته في سبيله، ذلك لأنَّ تسليم الإنسان نفسه لعدوه بلا مدافعة ولا ممانعة لا يقره شرع ولا عقل إلا إذا كان ذلك في سياق استراتيجية تستثمر الحدث ضمن خطة للتغيير، وهذه لا يقدرها إلا صاحبها، فهو أعلم بما يفكر فيه ويدبر له، أمَّا تعميم القول بأنَّ هذا المسلك هو الطريق الصحيح فهو تلبيس وتدليس و”تدبيس”.