لا أعني بالدروشةِ الزهدَ أو التصوف، فإنّ الزهدَ الحقيقيَّ لم يزل محمودًا، وإنّ كثيرًا من المتصوفة الأوائل كالجيلانيّ والجنيد وإبراهيم بن أدهم وبشر الحافي ومعروف الكرخي يُعَدُّون من أعلام الهدى، كما لا أقصد بالدروشة ذلك الوصف الذي أُطلق على بعض العباد في بعض البلاد، ممن عُرفوا بالترحال، وبالزهد في اللباس والرياش والمال، لا أعني بهذا المصطلح إلا ذلك المعنى العامّيّ البسيط الذي يفوح وينتشر في الأثير بمجرد النطق بالكلمة، معنى الاستغراق في أشكال من الطقوس الغريبة، بعيدًا عن جادّة الحياة، كما لا أعني بالماوراء ما وراء الطبيعة، إنّما الذي أعنيه وأُنَقِّبُ عنه هنا هو ما وراء الظاهرة من دوافع خفيّة، وقد أتوسع في بسط مفهوم الدروشة، ولكن بما يسمح به العرف العام.
وإنّ من الدروشة ما لم تكن تتوقع
إذا كانت الدروشة في الاستعمال الشعبيّ العام -وهو الذي اخترناه هنا- تعني “الاستغراق في أشكال من الطقوس الغريبة، بعيدًا عن جادّة الحياة”، فدعنا نفتح زاوية النَّظر على أقصى اتساع لها، لنقوم بعملية استقراء واستقصاء للظواهر التي تدخل تحت ذلك السلوك المنحرف، ولكنْ ليس قبل إطلالة سريعة على الصورة الفجّة منها، تلك التي شاعت وذاعت في بلدان العالم الإسلاميّ ولا سيما مصر، والتصقت بالتصوف ولاذت بحماه، وراحت تجوب القرى والأحياء الشعبية، وتنشر فيها الخرافة في صورة طقوس شعائرية، مثلما يفعل المدعو صلاح التيجانيّ وغيره، وهنا يأتي دور الصوفية المعتدلة، لتذبّ عن عرض التصوف، كما يأتي دور الأزهر الشريف، ليذب عن الشريعة وينفي عنها البدعة.
لكنّ الدروشة لم تنحصر في هذه الصورة الفجّة، لأنّها سلوك اجتماعيّ منحرف، والسلوك المنحرف يتفشى في صور مختلفة، بحسب تخصصات المنحرفين واستعداداتهم، فمِن الدروشة أن ينساق علماءٌ يُنسبون للسلفية وراء معنى له في الكتاب والسنة أصل، فيخرجون عن الاعتدال في التعامل مع هذا الأصل، وذلك كالسمع والطاعة للحاكم، فقد جعلوا منه -بعد تضخيمه والانحراف به عن حقيقته- دينًا يتدينون به ويفاصلون على أساسه، والذين يُصرّون على اتباع منهجية معيّنة للتغيير أو التثوير أو حتى التعبير، بعدما كسد سوقها وانهارت عملتها، دراويش غارقون إلى الأذقان في الدروشة، والأكاديميون الذين يستغرقون في التأسيس لنظريات، عفا عليها الزمن، وأصابها العَفَن، وغادرها قطار الحياة، ليسوا سوى دراويش مسترسلين في الدروشة ومنغمسين فيها بأريحية تامّة.
ليس السلوك إلّا نضحًا فانظر في الإناء
من الناحية النفسيّة لا تعدو الدروشةُ أن تكون سلوكًا خارج دائرة الاعتدال، يعكس حالة من الهروب والتعويض، وهما مرضان نفسيّان يتبادلان الدعم والإسناد مع مشاعر اليأس والإحباط وسقوط الهمّة، والإنسان -شخصًا كان أو مجتمعًا- إذا واجهته تحدّيات تتطلب تضحيات، أو أُلْقِيت عليه مسؤولية تستدعي جهدًا فوق العادة، فإنّه -إنْ لم تتوافر لديه الهمّة- يمارس الهروب بصورة من الصور، وهو تَوَجُّهٌ يخالف مقصود الربّ الذي جعل هذا الإنسان خليفةً في الأرض، ليعْمُرَها بمنهجه ويقيمَ فيها الحقّ والعدل على وفق شريعته: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فإذا انغمس الخليفة في الدروشة تاركًا مسؤولياته الكبرى فقد مارس الهروب والتعويض، وفي الأعمّ الأغلب لا يحافظ حتّى على ما انغمس فيه، ولا يصون حدوده، ولعلّ من أبرز ما حكاه القرآن عن هذه الحالة: تلك الرهبانية، التي مارس المسيحيون الهروب من مسؤولية الدفاع عن تعاليم المسيح باستدعائها، ثم لم يصونوها: (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها).
وهكذا يصنع الاستبداد
وليس الاستبدادُ بارئًا من تهمة الاستدامةِ والتغذيةِ المستدامةِ لهذا التوجّه المنحرف، كيف وهو المستفيد الأول -بل ربما الأوحد- من استغراق المجتمع كله في الدروشة بكل صنوفها وصروفها؟! فوالله ما عرف المستبدون أَلْيَنَ ولا أَطْوَع ولا أهون ولا أخْشَع من هؤلاء الدراويش، الذين استسلموا للخرافة وأسلسوا قيادهم للوهم، وانصاعوا للرغبات الوقتية وللحيل النفسية، ورضوا بما لاذوا بالفرار إليه، ثم تعصبوا له، ثم والَوا وعادَوا عليه، وأهدروا بإزاء ذلك كلَّ ما يجب عليهم تجاه مجتمعهم وأمتهم وما يدينون به، فلا مُدافعةَ لباطل ولا مُمَانعةَ لإجرام ولا مقاومة لاستبدادٍ أو فساد، باللسان أو البنان أو حتى الْجَنان، وإذَنْ فلْيُتركوا لما انغمسوا فيه، ولْيُعانوا على نشره وتوسيع دائرته، ولْتَرضَ عنهم السلطة!
لقد عرف التاريخ فيما عرف من العجائب أنّ ملوكًا وأباطرة، ملكوا وحكموا وشيدوا دولًا ودعموها بالجنود والأوتاد، وكان من دعائم ملكهم وأوتاد دولتهم سحرةٌ يلعبون بين أيديهم بألوان السحر التي تبهر الجماهير وتغرقهم إلى الأذقان في لجج من الأساطير والأوهام، تمامًا مثلما تعمل اليوم كثير من وسائل الإعلام، ومثلما تمارسه بعض المكونات المنحرفة ممن ينسبون أنفسهم كذبًا وزورًا إلى الأئمة والأعلام، وعليه فإنّ الدروشة في أيّ صورة بدت وبأيّ هيئة تجلّتْ خطرٌ كبير على المجتمعات، ولا سيما المسلمة، لأنّ المسلمين أصحاب رسالة سامية، تستدعي هممًا عالية.
قطيعة إسلامية مع الطبيعة الخزعبلية
لن أقفَ عند الحديث الصحيح الصريح: (مَنْ أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)؛ لأنّه مشهور منشور، لكنّني سأقف وقفة عند ذلك الموقف العبقريّ الفذّ، الذي أحدَثَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم قطيعة عَقَدِيَّةٍ ومنهجية ومَعرفية مع الفكر الخزعبليّ والدروشة المنهجية، فعلى الرغم من استيلاء الحزن عليه بسبب موت ولده إبراهيم، لم يغفل عن دَبِيب الأسطورة وهي تشقّ طريقها صَوْب العقل الإسلاميّ، وقد كسفت الشمس وهم يوارون ولده التراب، فقالوا: خسفت الشمس لموت إبراهيم، فالتفت إليهم بجدٍّ قائلًا: (إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته)، ومن تصفح القرآن لم تخطئه الملاحظة للحملة القرآنية على الأسطورة والخرافة، فهذه إِذَنْ قطيعةٌ مع منهجيةٍ تخالفُ روحَ الإسلام، وإذا كنّا مسلمين حقًّا فعلينا أن نكون متسقين مع القرآن.
اقرأ أيضا: