في جملة من كلمتين جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم كل ما فيه صلاح أحوالنا وإصلاح ذات بيننا: “الدين النصيحة”. أجلْ: الدين النصيحة، ومن هذه القاعدة الراسية يتحرك الحريصون على خير الأمّة في الإصلاح بين طرفي النزاع داخل جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ بغيةَ الوصول إلى حالة من الوفاق تعتبر ضرورية للجماعة وللأمة في هذه اللحظة التاريخية التي فاقت كل التوقعات والحسابات من حيث صعوبتها وتعقيدها، ومن حيث حجم التحديات التي تعالجها، غير أنّ ردود الفعل تدنو بنا وبهم من الفراق وتنأى بالجميع عن الوفاق.
ولقد كان للتحالف الوطني لدعم الشرعية خطوة جديرة بأن يُبنى عليها، وإذا كان التحالف قد أخفق – لأسباب خارجة عن إرادته – في الوصول إلى حلّ للمشكلة ينهي الأزمة بين أطرافها؛ فإنّه قد نجح نجاحا كبيرا في الحفاظ على الخطوة التي خطاها، والتي حيل بينه وبين البناء عليها، وثمرة هذه الخطوة تتمثل في كونها تُوفِّر على الساعين كلفة البدء من “أول السطر”.
ولأجل الحفاظ على هذه الخطوة أصدر التحالف وثيقة خاصة من نسختين، دُفع إلى كل فريق من الفريقين بنسخة منهما، مُسجل فيهما الخطوات التي خطاها التحالف، ومدغم في متنها التصور الذي يراه لحل الأزمة، وإذا كانت قد تسربت إلى الإعلام من أحد الطرفين فهذا لا يضرُّ من وجهة نظري؛ لكونها – برغم ما فيها من تصور كامل للأزمة وسبل حلها – خلت تماما من كل ما يجعلها عورة يترجح التزفيف عليها، فليس فيها حكم لفريق على آخر، ولم تشتمل على إساءة أو عدوان، وإنما برئت من ذلك كله براءة الضحى من عتمة الليل.
والخطة التي خلص إليها التحالف، فاستساغها فريق ومَجَّها الآخر، هي اللجوء للتحكيم أمام لجنة يرتضيها الطرفان من علماء الأمّة، وإذا كان التحكيم من وجهة نظر الرافضين له يتعارض مع اللوائح ويصطدم بمؤسسات الجماعة القائمة؛ فإن هذا التعارض والاصطدام – على فرض صحّة وجوده أو سلامة دعواه – لا يقوم مانعاً من ضرورة اللجوء للتحكيم؛ للآتي:
أولا: إذا كان التشبث باللوائح والمؤسسات سيؤدي إلى ضرب الجماعة وقسمها إلى جماعتين متصارعتين، تستعين كل واحدة على الأخرى بكل ما حلّ وحرم، وتصبح سيوف أبناء البنا وألسنتهم مغمودة عن الباطل وأهله مسلولة على الحقّ وأهله؛ فليتعارض معها التحكيم، ولتذهب هي إلى الجحيم، فما هي بالكتاب ولا السنة حتى يكون الاعتصام بها عاصم من الضلالة أبد الدهر.
ثانيا: أنّ تحكيم العلماء يعني تحكيم الشريعة، وهي حاكمة على اللوائح لا محكومة بها، ورقيبة على المؤسسات لا واقعة تحت رقابتها، وما أقيمت المؤسسات ولا وضعت اللوائح إلا لخدمتها وإعمال أحكامها وتحقيق سيادتها، وقد أوجب الله تعالى طاعة أولي الأمر، وهم – عند شغور الزمان من السلطان الشرعيّ – علماء الأمّة الربانيون.
ثالثا: وما الضير على المؤسسات إن كانت قائمة بشكل يوجب الاحترام والالتزام، ويحقق مصالح أهل الإسلام، وما الضير كذلك على اللوائح إن لم يكن بها عوج أو جمود يعوق تحقيق مراد الشارع من العمل الجماعيّ الذي تقوم به الجماعة؟ ما الضير إذا جرى التحكيم مع وجودهما؟ أليس من الواجب على لجنة التحكيم – بموجب العدل ومقاصد الشرع – أن تحكم بردّ الأمر إلى أهله إذا تبين لها أن طالبي التحكيم والراضين به ليسوا سوى شرذمة متربصة شاردة الفكر تريد تفريق الصف وإثارة الفتنة وتفويت فرص النصر؟!
رابعا: وإذا كانت التجربة التاريخية والواقعية تكشف عن خلاصة موضوعية، مفادها أنّ الأحداث الكبار زلازل تهشم وتحطم، فلا يثبت أمامها بناء مهما كان شامخا، ولا يصمد لها عماد مهما كان راسخا، مما يضطر الدول أحيانا لأنْ تجلس على “الطاولة” طارحة خلف ظهرها سوابقها التشريعية والقيمية؛ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا نُعْرِض عن الفرصة السانحة للجماعة؛ لتستعيد وحدتها وقوتها بمرونة ولياقة ولباقة، تستجيب للهزة الكبرى التي تصاحب موجة التغيير العظمى التي تنتاب الأرض كلها اليوم، والتي نراها تهيئ المسرح لميلاد الحضارة الإسلامية الرشيدة التي سوف تبتلع كل الحضارات كابتلاع عصا موسى لكل ما صنعه السحرة؟!
خامسا: ليس من حقّ الجماعة اليوم أن تستعلي على المحاسبة ولا أن تستعصي على التقويم، إذ لم تعد تنظيما خاصا، يحتكر تقرير مصيره صفوة من الرجال الذين حازوا ثقة أعضائها، بل لم يعد من حقّ أحد من قياداتها – كائنا ما كان موقعه فيها – أن يغلق بابها مدعيا خصوصية شأنها، اللهم إلا ما كان من قبيل التراتيب الإدارية التي تخص المسؤولين عن تسيير أعمالها.
فالموقف تغيّر عن ذي قبل؛ ولهذا التغير الحاد أسباب عديدة، أول هذه الأسباب أن هذه الجماعة لم تكن فيما مضى من جهادها وممارساتها الدعوية والتربوية والسياسية صادرة عن تخويل الأمّة، بل كانت تندب نفسها للعمل الذي تراه نافعا للمسلمين خادما لدين الله، ومن ثمّ لم يكن للأمة باب إلى محاسبتها أو مراجعتها، إلا في حدود النصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أمّا الآن فالأمر مختلف جد الاختلاف؛ حيث صارت الجماعة – بعد أن استمدت من الأمّة شرعية سياسية – تحت موقع المسؤولية، بل والمساءلة أمام الأمة – ممثلة في أهل الحلّ والعقد منها – لكونها نالت شرعية مصدرها توكيل الأمة وإنابتها، وصارت بهذا التصدير وهذا التوكيل الممثل الحقيقيّ والشرعيّ لها والمتحدث باسمها، هذا هو الواقع الذي لا يمكن تجاهله إلا عن طريق الجهل بحقيقة ما جرى، والوقوف عند حدود الظواهر التي لا تَعْدُ كونها صورة تغلف الحقيقة.
ثاني هذه الأسباب أنّ الخصوصية في العمل العام الذي يناط به تحقيق الصالح العام للإسلام والمسلمين ليست من قبيل المقاصد والغايات، وإنما هي من الوسائل المؤقتة والأدوات العارضة، فإن قام من الظروف والطوارئ ما يستدعي نزع هذه الخصوصية من قِبَلِ من لهم على الأُمة سلطان بعلمهم وبما لهم من مِنَّة وتَقَدُّم؛ لم يكن المدافع عن رداء الخصوصية إلا مغتصبا لما ليس له، وإن بدا ممارسا لحقه مدافعا عن حماه.
ثالث هذه الأسباب أنّ الجماعة في حالة انقسام واختلاف لم يعد مستترا، وأن هذا الانقسام جاء على أثر مراجعات فكرية وصيحات عالية لاستدراك الأخطاء التاريخية التي ربما كان لها بالغ الأثر في حاضر الأمة ومستقبلها.
هذه هي المبررات التي أراها تدعم موقف التحالف ورؤيته، وكاتب هذه السطور لم يستأذن التحالف في كتابتها؛ إذ هي من قبيل التحليل المبنيّ على أخبار تم تسريبها بغير فعل منه، وهو متحمل مسؤوليتها وحده، ونسأل الله القبول التوفيق والسداد.